حرمان أمّ من طفليها: ممنوع «كسر» المفتي!

إنريكو بيرتشيولي - ايطاليا
إنريكو بيرتشيولي - ايطاليا


مأساة أخرى تُثبت، مرّة جديدة، ظلم المحاكم الدينية، وتفضح حجم انحياز القضاة واصطفافهم ضدّ النساء. خُلاصة الرواية أن أمّاً حُرمت من رؤية ولديها يكبران أمام عينيها بسبب امتناع القضاة عن التوسّع في التحقيقات، للتأكّد من صحّة تقرير طبي قدّمه طليقها، وتبيّن لاحقاً أنه لا يتطابق مع حالتها، بإقرار نقابة الأطباء. الأسوأ أن القضاة تجاهلوا تقارير أعدّها طبيبان محلفان لدى المحكمة تتعارض مع التقرير المذكور

أكثر من أربع سنوات حرمت خلالها منى عبد الوهاب (35 عاماً) من رؤية ولدَيها رغم أن سنّهما يُتيح لها الحصول على حضانتهما. عندما شرّعت المحكمة الشرعية السنيّة انتزاعهما منها، كان عُمر الإبن البكر سنتين ونصف سنة (نحو 11 عاماً الآن) فيما كان عُمر صغيرها لا يتجاوز العشرة أشهر (نحو تسعة أعوام)، علماً أنه يحقّ لها شرعا الإحتفاظ بهما حتى سنّ الـ12 عاماً. الحرمان من الحضانة والمُشاهدة، استندت فيه المحكمة إلى تقرير طبي قدّمه طليقها يُفيد بأنها تعاني من «فُصام ذهني»، مُتجاهلةً تقارير أخرى لأطباء مُحلّفين لدى المحكمة تجزم بأن عبد الوهاب لا تعاني من أي أمراض عقلية أو أي إضطرابات نفسية أو عصبية.

ماذا في التفاصيل؟

بتاريخ 11/1/2012، أصدر القاضي الشرعي في محكمة بيروت الشرعية السنية الشيخ محمد النقري قراراً قضى بنزع حضانة الطفلين من عبد الوهاب، «بسبب الخشية على وضع الولدين وتعريض حياتهما للخطر». استند القاضي إلى تقرير طبي قدّمه طليقها محمد علي أبو كر، وأعدّه الطبيب ج. ح.، يُفيد بأنّ الزوجة خضعت للمعاينة «لعدّة مرات»، وتبيّن «أنها تعاني من حالة فُصام هذياني مع أفكار هلوسة غير منتظمة مع الواقع، وتصرّفات هستيرية غير مُبررة»، مشيراً إلى أنه سبق أن نصح الزوج بإدخالها المُستشفى للمراقبة والعلاج «(...) لأنها تُشكّل خطراً على أولادها». ولفت الطبيب إلى أنه وصف لها دواء solian بشكل دائم لأن «حالتها لن تتحسّن بل ستزداد سوءاً». المُفارقة أنه ورد في نص الحكم نفسه أنّ المحكمة عرضت عبد الوهاب على طبيب نفسي محلّف لديها، هو الدكتور فؤاد العريس، و«لم يتبين له وجود مرض عقلي سواء كان ذهانا أو عصابا»، ورغم ذلك أصرّت على تبنّي التقرير الطبي الذي قدّمه الزوج!

بعد شهر، بتاريخ 11/2/2012، استأنفت عبد الوهاب القرار وأرفقت طلب استئنافها بتقريرين صادرين عن طبيبين محلّفين؛ الأول أعدّه الدكتور المعتمد لدى المحاكم الشرعية والمدنية الإختصاصي في الأمراض العصبية والنفسية خالد سعد الدين المصري (تاريخ 31/1/2012)، وخلُص إلى أن عبد الوهاب «تتمتّع بكامل قواها العقلية والجسدية (...) ولا يوجد في سيرتها ما يدلّ على إصابة بإضطراب عصبي أو نفسي أو عقلي (...) وتتمتّع بكامل مُقومّات المسؤولية وقادرة على القيام بكل المعاملات القانونية والشرعية، ولا شيء يمنع على المستوى العصبي والنفسي من حضانة أولادها ورعايتهم». التقرير الثاني أعدّه طبيب الأمراض العقلية والنفسية المحلّف لدى المحكمة الشرعية محمد الحشاش، وأفاد أنّ عبد الوهاب «لا تعاني من عوارض ذهنية ولم يظهر عليها أي مؤشر على عوارض أخرى تدلّ على اضطراب في المزاج (...) ولم يظهر لنا أي مؤشر على أنها تعاني من أي حالة نفسية تمنع حضانتها لأولادها ورعايتهم. وهي إدراكياً سليمة وكاملة الأهلية وقادرة على تولي مسؤولية الأولاد».

رغم إبراز هذه الوقائع، فإن محكمة الإستئناف التي كان يرأسها المفتي الحالي الشيخ عبداللطيف دريان ردّت طلب عبد الوهاب بتاريخ 11 تموز 2012، معتبرة أن تقريري الطبيبين يقابلهما تقريران آخران قدّمهما طليقها يثبتان عكس ذلك. علماً أن «التقرير الثاني» الذي لفتت إليه المحكمة ليس إلا نتيجة التحليل العام الذي قامت به إختصاصية تعمل في القسم الذي يرأسه ج. ح. والتي أُرفقت بتقرير الأخير. إلا أن المحكمة اعتبرت التقرير الواحد تقريرين اثنين! أكثر من ذلك، استندت محكمة الإستئناف الى أن محكمة البداءة استجوبت عبد الوهاب «وتبيّن لها أنها غير قادرة على التفاعل العاطفي مع محيطها ولا على تكوين تصورات إيجابية أو سلبية أو مصيرية لما يعرض عليها من حلول لإتخاذ قرارات ضرورية في حياتها الزوجية أو الإجتماعية (...)». بمعنى آخر، «اجتهدت» المحكمة الشرعية وأفتت لقضاتها بأن يكونوا إختصاصيين نفسيين ومخوّلين انتقاء تقرير طبي دون آخر، من دون الإيعاز بالتوسّع في التحقيقات! والأسوأ أنّ طليق عبد الوهاب استغلّ قرار المحكمة الإستئنافية هذا للحصول على قرار من المحكمة الشرعية السنية في صيدا بمنعها من رؤية الطفلين بحجة «الخطر على حياتهما»!

المحاكم الشرعية تناقض نفسها

لم تيأس عبد الوهاب بعد صدور قرار الإستئناف. قرّرت اللجوء إلى «حيلة» جديدة تضمن لها رؤية طفليها، فوكّلت والدتها تقديم دعوى لحضانة الطفلين كونها جدّتهما. وبالفعل، أصدر رئيس المحكمة الشرعية السنية في صيدا القاضي محمد هاني الجوزو، بتاريخ 21/12/2013، قراراً قضى بمنح الحضانة للجدة لأنّ «أمّ الأم هي في الدرجة الثانية بعد الأم في ترتيب الحاضنات»، و«حيث أن التقارير (...) لم تُثبت أن ابنة المدعية تُشكّل أي خطر على ولديها».

المُفارقة أن عبد الوهاب تقطن مع والدتها، ما يعني أن «الخطر المُفترض» الذي أشارت اليه محكمة الإستئناف لم ينتفِ، ومع ذلك أعطيت الجدّة الحضانة! نُفّذ قرار الحضانة عام 2015 وبقي الطفلان مع جدّتهما لمدة سنتين فقط لأنهما كانا قد بلغا العمر المسموح لحضانة الجدات وهو سبع سنوات. بعدها طالبت عبد الوهاب القاضي نفسه بالحصول على الحضانة، إلا أنه قرّر منح الحضانة للأب بسبب «عدم أهلية الأم» علما أنها كانت تقطن مع الطفلين طوال سنتين!

حكم نزع الحضانة استند الى تقرير مشبوه رغم أن طبيبين محلفين لدى المحكمة أكدا الصحة العقلية للأم

واللافت أنه في كل مرّة كانت تلجأ فيها عبد الوهاب إلى القضاء لتصرّ على حقها في الحضانة، كانت تواجه صدّا من القضاة الذين رفضوا ما أسماه بعضهم «كسر قرار الإستئناف». حتى أن أحد المدعين العامين في النيابة العامة في بيروت قال لها حرفياً: «كيف تريدون الإشتكاء على القاضي وقد أصبح مفتياً؟!».

تقرير مشبوه

تؤكد عبد الوهاب أن طليقها كان يستخدم التقرير الطبي الذي أعدّه الطبيب ج.ح. عند كل «مشكل» ويُهدّدها به ويقول لها: «ما رح خليكي تشتغلي ولا تتجوزي ولا تاخدي الولاد». وتوضح أن زوجها أجبرها، قبل الطلاق، على الذهاب إلى الطبيب ج.ح.، «وأثناء الزيارة لم أتكلّم مع الطبيب ولا مع الإختصاصية التي كانت تُدوّن بسبب استيائي الكبير (...) بعدها فوجئت بالتقرير الذي أعدّه الطبيب واشار فيه الى أنني زرته مرات عدة علما أنّها كانت المرة الأولى والوحيدة التي أراه فيها! بينما زعمت الإختصاصية أنها أخضعتني لفحص علماً أنها لم توجّه إليّ أي سؤال». عليه، تقدّمت عبد الوهاب بشكوى ضدّ الطبيب في نقابة الأطباء (707/ تاريخ 10/3/2014)، تطلب فيها «إتخاذ الإجراءات اللازمة والرادعة بحقه نظرا للضرر الكبير الذي سببه لي على الصعيدين النفسي والإجتماعي». وفي 28 تموز 2015، أصدر المجلس التأديبي في النقابة قراراً بتوجيه «عقوبة اللوم» الى الطبيب إذ «لم يثبت للجنة لدى إجرائها المقابلة مع المُستدعية (منى عبد الوهاب) وجود حالة إنفصام في الشخصية لديها ولا هذيان إنفصامي». ولفت القرار إلى أن التقرير الصادر عن الطبيب «إستنتاجي ولا يتطابق مع حالتها (...)».

«الأخبار» تواصلت مع الطبيب المذكور، فقال إن المريضة «قد تكون قد تحسّنت فعلا»، مُشيرا إلى أنها «لو حصلت على تصريح من المحكمة لإعادة الإختبار لكنت أعطيتها تقريرا آخر»، لافتا الى أن نقيب الأطباء السابق نفسه أنطوان البستاني وصّف حالتها بأنها تعاني من «السكيزوفرينيا». كلام الطبيب يتناقض وما جزمه في تقريره بأنها «لن تتحسّن بل ستزداد سوءاً»، ومع ما تقوله عبد الوهاب لجهة توصيف البستاني لحالتها بأنه اكتئاب «بسبب الأزمة والمشاكل التي مررت بها مع طليقي». الطبيب ج. ح. أوضح لـ «الأخبار» أنه أعدّ تقريره بناء على تكليف من القضاء، وهو ما يتناقض مع المعطيات المتوافرة. إذ أن تكليفه من قبل القضاء لم يذكر في أي من نصوص القرارات القضائية.

أبو كر: ما في إلّا كل خير

حاولت «الأخبار» التواصل مع طليق عبد الوهاب محمد علي أبو كر لمعرفة رأيه في القضية، وللحصول على رواية مغايرة لما تقوله طليقته، لكنّه اكتفى بالإشارة إلى أن عبد الوهاب «أم أطفالي ولا يمكن أن أتحدث عنها بسوء»، وأنه ليس بينه وبينها «إلّا كل خير»!

تعليقات: