هكذا زعزع جميل السيّد وهسام والصدّيق مصداقية ميليس

محمد زهير الصديق في آخر صورة معلنة له (أ ف ب)
محمد زهير الصديق في آخر صورة معلنة له (أ ف ب)


لم تنته مفاعيل إخفاء أو غياب الشاهد الرئيسي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، السوري محمّد زهير الصدّيق، بعد مكوثه سنتين وستّة أشهر في ربوع بلدة «شاتو» الفخمة، وفي مناطق أخرى من فرنسا، بمواكبة عناصر أمنية من جهاز حماية الشخصيات المعروف باسم« RAID»، ومن ثمّ انتقال الدفّة إلى جهاز «CRS»، في ظلّ أحاديث عن وجود تواطؤ من السلطات الفرنسية في هذا الأمر الدقيق، بسبب رفضها تسليمه للدولة اللبنانية التي التزمت باسم رئيس جمهوريتها العماد إميل لحود، بعدم تنفيذ عقوبة الإعدام بهذا الشاهد، وهو قرار استمرّ ساري المفعول حتّى بعيد خروج لحود من قصر بعبدا، انطلاقاً من مبدأ استمرارية المرفق العام.

فالرئيس لحود لم يصدر هذا التعهّد بصفته الشخصية، بل لكونه رئيساً للدولة اللبنانية. ولم يصدر عن السلطات الفرنسية أيّ قرار جديد عن الاسترداد، واقتناعها بهذا التعهّد أم لا، مما يرسم علامات استفهام كثيرة، فضلاً عن سؤال أكثر خطورة، وهو: هل قدّمت وزارة العدل اللبنانية طلباً ثانياً لاسترداد الصدّيق، أم أنّها تغاضت عنه وأهملته، ما يستوجب المساءلة القانونية والبرلمانية للمسؤولين عن هذا الإهمال في حال حصوله؟

ولتبرير أسباب انقطاع أيّ أثر للصدّيق على الرغم من أنّ تأثير شهادته المطعون فيها، والتي أهملتها لجنة التحقيق الدولية في عهد رئيسها البلجيكي سيرج برامرتز، ما يزال قائماً في ظلّ التمسك غير القانوني بتوقيف الضبّاط الأربعة، صدرت مواقف مختلفة تزعم بأنّ الصدّيق خاضع لنظام حماية الشهود الذين يتوقّع مثولهم أمام المحكمة ذات الطابع الدولي خلال جلسات المحاكمة، وهو ليس صحيحاً على الإطلاق بتأكيد ما قاله رئيس اللجنة الدولية الكندي دانيال بيلمار خلال مداولات مجلس الأمن الدولي بتقريره الشخصي الأوّل، والعاشر للجنة المذكورة يوم الثلاثاء في 8 نيسان الجاري.

فقد أكّد بيلمار رسمياً أنّ الصدّيق ليس في عداد الشهود وليس من طينتهم، وهذا يعني أنّه ليست له أيّ أهمّية في مسار التحقيق ولدى اللجنة أيضاً. ولكنّ أهمّية الصدّيق هي سياسية لتحديد هوّيات الجهات والأشخاص الذين ضخّوا فيه معلومات تزييف الحقيقة وحملوه على تبّني رواية جريدة «السياسة» الكويتية المنشورة يوم الخميس في 19 شباط من عام ,2005 أيّ في اليوم الخامس لاغتيال الشهيد الحريري، وقبل توصّل التحقيق إلى أيّ خيط أو بصيص نور يقود إلى معرفة ملابسات الجريمة وأصولها وجذورها ومتفرّعاتها ومهندسيها والقائمين بها.

وقد تحوّلت هذه الرواية المشكوك في صحّتها، والتي لم يدل بها أحد خلال مسار التحقيق على مدى ثلاث سنوات، باستثناء الصدّيق، إلى قرار اشتباه طرّزه القاضي الألماني ديتليف ميليس من دون وجود دليل واحد بيده يؤيّد موقفه ويدعم خطوته في طلب توقيف الضبّاط، وهو ما عاد وسقط نهائياً لدى تقييم القاضي برامرتز إفادات الشهود، ومن بينهم الصدّيق، واعتباره شهادة هذا الأخير كأنّها غير موجودة، لأن فيها الكثير من الكذب والتلفيق.

ويؤكّد أحد المراقبين لتطوّر هذا الملفّ انطلاقاً من خبرته في ملفّات ودعاوى محلية ودولية سابقة، أنّ لجنة التحقيق الدولية تهتم بجمع الأدلّة وتحديد المشتبه فيهم في جريمة اغتيال الحريري، ولا يمكنها أن تصرف مواردها ووقتها هباء على شهود زور غير موثوق بهم.

الصدّيق هسام آخر

وتدفّقت التساؤلات عن أسباب إخراج الصدّيق من فرنسا في هذا الوقت، بعد انعدام فاعلية شهادته، وبالتزامن مع الظهور التلفزيوني للقاضي الألماني ميليس على شاشة محطّة لبنانية تحديداً، هي «المؤسّسة اللبنانية للإرسال»، ضمن برنامج «بكلّ جرأة»، حيث قال إنّ الصدّيق ليس شاهداً أساسياً، مكذّباً نفسه بنفسه، إذ سبق له أن قال مراراً على لسانه، وعبر آخرين، إنّه «الشاهد الملك».

فهل تحوّل الصدّيق إلى هسام هسام آخر واستطاع الانتقال إلى الضفّة الثانية ليكون شاهدها الأساسي لفضح أسماء من طلب منه تضليل التحقيق؟

يرى المراقب نفسه أنّ الغاية الأساسية من اندثار الصدّيق، هي إبقاء الضبّاط الموقوفين، ومنعه من البوح بمن اخترعه ولقّنه شهادة الزور، لأنّه بذلك يفضح الكثير من الممارسات غير القانونية التي طاولت التحقيق.

ولم تمرّ قضية تغييب الصدّيق عن الواجهة الإعلامية ومسرح الأحداث، مرور الكرام في فرنسا، بل أحدثت دوّياً سمعت أصداؤه داخل قصر «الإليزيه»، ووصلت إلى حدّ المساءلة، حيث وجّه النائب الاشتراكي جيرار بابت سؤالاً إلى وزيرة العدل المغربية الأصل رشيدة داتي لمعرفة الظروف التي سمحت باختفاء الصدّيق. كما أنّ صحيفة «لو فيغارو» أثارت في عددها الصادر يوم السبت في 12 نيسان الجاري في مقال للصحافي جورج مالبرونو، مسؤولية السلطات الفرنسية عن هذا الاختفاء المفاجئ، وأشارت إلى أنّ تقارير للمخابرات الفرنسية خلصت إلى قناعة بعدم مصداقية الصدّيق الذي اعترف أمام أحد حرّاسه بأنّه قبض مبالغ مالية ليدلي بمعلومات إلى ميليس من أجل تسريع التحقيق وتصويبه نحو جهة سياسية معيّنة.

كما أنّ موضوع الصدّيق أصبح يمثّل إحراجاً للحــكومة الفرنسية بعد تغيّر الحكم وانتقال السلطات من جاك شــيراك وفريــقه إلى نيكولا ساركوزي وفريقه.

وجه المخدّة

وبالنسبة للشاهد السوري الآخر هسام طاهر هسام، فقد أفقد بدوره ميليس مصداقيته، بكشفه ما فعله معه خلال التحقيق في «المونتيفردي»، حيث أكسبه ميليس صفة «الشاهد المقنّع» باتباعه معه أسلوباً جديداً في التحقيق، تمثّل بإلباسه «وجه مخدّة» خلال مواجهته باللواء الركن جميل السيّد في الأوّل من شهر أيلول من العام ,2005 وتصويره مجرياتها بواسطة كاميرا فيديو، وهذا ما فاجأ برامرتز عند إبلاغه بالأمر، فارتسمت علامات الدهشة والاستغراب على محيّاه، واكتفى بالتعبير عن صدمته لسماع مثل هذا الخبر المشين بحقّ أيّ تحقيق دولي، والذي ينمّ عن قلّة ثقة بالفاعل، وبما لدى هذا الفاعل من معلومات في محاولاته الحثيثة لإثبات أيّ تهمة عمن يريد الإيقاع به.

السيّد وتقديم ضحّية

كما أنّ اللواء الركن السيّد زعزع بدوره مصداقية ميليس، بإماطته اللثام عن محاولاته مع مواطنه الشرطي الاستخباراتي غيرهارد ليمان طلب وساطته، لدى الرئيس السوري بشّار الأسد، لما يتمتّع به السيّد من ثقة لدى الأسد، لتقديم ضحيّة سورية ما، ثمّ قتلها وتحميلها مسؤولية جريمة اغتيال الحريري وتسوية القضية على غرار قضيّة طائرة «لوكربي».

ولم يستنكف ليمان عن طرق باب السيّد بجملة تهديدات لحمله على القيام بهذه المهمّة غير المشرّفة والتي رفضها، تحت طائلة الزجّ به في السجن، وهو ما تحقّق في نهاية المطاف.

وقد أخفى ميليس وقائع هذه المفاوضات السرّية عن خلفه برامرتز ليقينه بأنّها عمل غير مشرّف ولا يليق بسمعته كقاض، وإن لم تكن المرّة الأولى التي يعتمد فيها ميليس هذه الطريقة في تاريخ حياته في السلك القضائي. وهذا ما فاجأ برامرتز أيضاً واضطرّ السيّد إلى إعادة تزويده بالوقائع المثيرة والخطرة لهذه المفاوضات.

ويرى أحد القانونيين في معرض مناقشته لهذا الأسلوب، أنّ بعض القضاة قد يلجأون إلى هذا الأسلوب، ولكنّهم إذا لم ينجحوا في تحقيق مبتغاهم منه، فلن يستطيعوا توقيف أيّ شخص والكتابة في تقاريرهم الرسمية بأنه مشتبه فيه، تماماً كما فعل ميليس مع اللواء السيّد، حيث نعته بالمشتبه فيه في جريمة قتل لأنّه رفض الانصياع إلى المناورة المخابراتية، ولا يجوز أن تستعمل مصداقية الأمم المتحدة في تصنيف شخص على أنّه مسؤول عن جريمة اغتيال فقط لأنّه رفض القبول بعرض ما.

ويصف هذا القانوني أسلوب ميليس بـ«الكلاسيكي» الذي تقوم المخافر والمفارز به عادة في معرض أيّ تحقيق، ولكنّ فشل ميليس في الوصول إلى نتيجة مرضية مع السيّد لتقديم ضحّية ما، دفعه كردّة فعل غاضبة، إلى تصنيفه مشتبهاً فيه في تقريره الأوّل الصادر يوم الخميس في 20 تشرين الأوّل من العام .2005

ويجزم هذا القانوني بأنّ المسؤولية القانونية والأخلاقية للقاضي ميليس والشرطي ليمان ليست في استعمال هذه التقنية في التحقيق، بل في تحويل تقنية تحقيق لم تؤدِّ النتيجة المطلوبة، إلى آلية اتهام بتقرير رسمي موجّه إلى مجلس الأمن الدولي. وقد عاد برامرتز وأسقط عبارة «مشتبه فيه» في تقريره الشخصي الأوّل، والثالث للجنة، والصادر يوم الثلاثاء في 14 آذار من العام ,2006 وفي الكتاب الموجّه منه إلى وكيل السيّد القانوني، المحامي أكرم عازوري في 6 حزيران من العام .2006 وكانت هذه الخطوة أوّل ثغرة في جدار التوقيف السياسي أمكن النفاذ منها.

مجموعة الـ13

أمّا بشأن الصحوة القضائية المتأخرة، بقيام المحقّق العدلي القاضي صقر صقر بسماع إفادات أعضاء شبكة تنظيم «القاعدة» المعروفة باسم «مجموعة الـ13»، فهو جاء استجابة لمطلب اللواء الركن جميل السيّد الذي شدّد، في أكثر من مذكّرة وبيان، على ضرورة حصوله.

وترى مصادر متابعة أنّه إذا كانت الغاية من دعوتهم كشهود هي لدحض ما سبق لهم أن اعترفوا به في التحقيق الأولي أمام «فرع المعلومات» في قوى الأمن الداخلي من علاقتهم باغتيال الحريري قبل إجبارهم على تغييره، فقد صار ثابتاً أنّ أفراد هذه الشبكة وأشهرهم حسن نبعة والسعودي فيصل أكبر، باتوا شهوداً أساسيين أمام المحكمة الدولية، حيث لا إمكان للتغيير والتحوير والمناورة، مع التذكير بأنّ لجنة التحقيق الدولية في عهد برامرتز استمعت إليهم أيضاً.

تعليقات: