الإمبريالية والهِشِّك بشِّك.. كيف اخترع الغرب الرقص الشرقي!


كان إدوارد سعيد يرى أنه من الخطأ افتراض أن الاستشراق لا يزيد عن كونه هيكلاً من الأكاذيب أو الأساطير، وأنه إذا ذُكرت الحقائق، فإن هذا البناء سينهار وتذرّه الرياح. كان يرى أن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلاً على السيطرة الأوروبية الأميركية على الشرق، أكثر من كونه خطاباً صادقاً حول الشرق.

آمن سعيد بأن الاستشراق ليس خيالاً أوروبياً متوهماً عن الشرق، بل بأنه كيان له وجوده النظري والعملي، استُثمر فيه الكثير على مر الأجيال، وقال إن استمرار هذا الاستثمار أدى إلى أن أصبح الاستشراق، كمذهب معرفيّ عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين، مثلما أدى تكاثر ذلك الاستمرار نفسه، بل وتحوله إلى مصدر حقيقي للإنتاج والكسب، إلى تكاثر الأقوال والأفكار التي تتسرب من الاستشراق إلى الثقافة العامة. ودلل سعيد على رؤيته باقتباسات وإشارات لعدد هائل من النصوص المرجعية السياسية والأدبية والعلمية من القرن التاسع عشر، ولم يجد أصدق من الفن والرواية بالتحديد لتأكيد وجهة نظره ودعمها، رغم أن أحد أهم وأبرز نجاحات الاستشراق، كما رأى هو نفسه، كانت في الرقص الشرقي!

التقطت الكاتبة والباحثة شذى يحيى، طرف الخيط، وسارت في الاتجاه نفسه في كتابها عن تاريخ الرقص الشرقي، حيث تحاول في الكتاب الملفت بعنوان "الإمبريالية والهِشِّك بشِّك" الصادر مؤخراً عن دار ابن رشد، إثبات كيف تأثر الرقص بالحركات التوسعية الغربية في الشرق، وكيف أوصله الاستشراق لما هو عليه الآن.

وفقاً لإدوارد سعيد الذي تستشهد به يحيى في أكثر من موضع، فإن المستشرق يعيد صناعة الشرق بكتاباته، وخلال هذه العملية، يساهم في خلق سلسلة من الصور النمطية التي يمكن من خلالها تكوين صورة ذهنية، تؤكد التفوق الأخلاقي والطبيعي، إضافة للتفوق المادي للغرب على الشرق. ففي مقابل شرق متخلف مليء بالخرافة والجبن والبحث عن الملذات الحسية، يوجد الغرب المتقدم الحديث المقدام صاحب القيم المسيحية المحترمة. بهذا الشكل يصبح الغرب هو الصانع الحقيقي للشرق، على الأقل في مخيلة العالم الغربي نفسه. لذلك، تقول يحيى، كانت المبالغة في وصف النساء الشرقيات بالدعارة، وعلى الأخص الراقصات المصريات حتى وإن تورط بعضهن في هذا فعلاً، ما كان يخدم الهدف الإمبريالي في إهانة ووصم الشرق الأوسط العثماني ككل وإزدرائه، ما يسهل التفسير الأخلاقي للاستيلاء عليه وغزوه، لذلك كان التركيز على النموذج المصري للراقصة في عيون الرحالة والتشهير والتعريض به هدف أساسي كما تقول.

لكن كيف أثرت هذه الرؤية في طبيعة الرقص نفسه؟ وفقاً، للكتاب فإن الرقص الشرقي الموجود الآن لا يمت بصلة لما كانت تؤديه "العوالم" في الأفراح والمناسبات، حتى القرن الثامن عشر، ولا حتى ما عرفه الغربيون ورأوه للمرة الأولى، سواء كانت هذه المعرفة من خلال رحلاتهم للشرق وإقامتهم فيه واحتلالهم له، أو كتاباتهم عنه من الخيال. كذلك عبر سفرهم الافتراضي إليه بصورة دورية عبر سلسلة المعارض العالمية التي كانت تقام بشكل دوري شبه مستمر، كل خمسة أعوام، منذ بداية القرن التاسع عشر، والتي تقدم فيها أبرز ملامح الشرق ومنتجاته. يحاول الكتاب رصد ملامح التغيير الذي انسحب على نوعية الراقصين والراقصات ونمط حياتهم وشكل أدائهم وتعبيراتهم والألحان التي يرقصون عليها، منذ بدأ التواجد والاهتمام الغربي بالشرق، وربما انسحب أيضاً على نظرة ونوع الجماهير التي تشاهد والأماكن التي تؤدى فيها الرقصات. كما رصد تطورات النظرة الغربية نفسها للرقص الشرق أوسطي، كفن، مروراً بالمراحل التي مر بها الفكر الأوروبي نفسه وأطوار تطوره. ملامح عديدة تؤكد أن ما يقدم لم يكن إلا نوعية الرقص المنتظرة من جمهور متعطش لا يعرف طبيعة الرقص الحقيقي الذى تؤديه العوالم في منطقة الشرق الأوسط، لكنه قرأ عنه أو رآه في لوحات استشراقية ولن يقبل أن يقدم له غير ما حلم برؤيته.

يؤكد الكتاب أن الرقص المعروف بالرقص الشرقي نشأ ووضعت خطوطه الأساسية من هذا الفكر والذهن الغربي ونظرته للشرق الساحر، ورؤيته لهذا الرقص كخلاصة لكل ما يكتنفه الغموض الخلاب، سحر الشرقي بالنسبة إلى الجنس الأبيض، مع ملاحظة أن الغربيين اكتسبوا فكرتهم الذهنية الأساسية عن الشرق من مصدرين أساسيين. أولهما، الكتاب المقدس وقصة سالومي الراقصة، والثاني هو قصص "ألف ليلة وليلة" براقصاتها وجواريها وحريمها وسلاطينها، وهو المحور الأساس لرؤية الشرق منذ حملة نابليون، رؤية دعمتها لاحقاً روايات وأساطير الأدباء والرحالة وأعمال الفنانين التي امتلأت بالخيال لاستثارة شعور المتلقي حتى لو لم يجد الشخص شيئاً مما قرأه على أرض الواقع.

هذا الشكل التقليدي الشرقي الأيروتيكي لامرأة الحريم وضع حجر الأساس للشكل النمطي للمرأة الشرقية نفسها، والذي سيظل مسيطراً على الثقافة الغربية ربما حتى وقت قريب، امرأة قابعة في الحريم كل مهامها تنحصر في الرقص نصف عارية لسيدها لعلها تقتنص نظرة أو ليلة من الأخريات. هذه النظرة التي حرص عليها معظم الرحالة، عن الشرق، تفسرها المؤلفة باعتبار أن الراقصة ربما تكون المرأة الوحيدة التي استطاعوا رؤيتها في مجتمع القاهرة المغلق، نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. لكن يمكن أن نجد معارضة لهذه الفكرة عند بعض المؤرخين الذين رأوا أن تلك الفترة شهدت مشاركة واسعة من النساء في أعمال عديدة زراعية وتجارية بل وحتى سياسية.

على أي حال ترى المؤلفة إن النظرة العامة للمستشرقين كانت رافضة مشمئزة من الرقص الشرقي. وتتساءل: إذا كان الرقص يثير تقزز الغربيين ونفورهم من الخيالات الجنسية، ويمثل من وجهة نظرهم كل ما هو إباحي وغير متحضر، فلماذا هذا الإصرار على مشاهدته وتضمينه في الأدبيات؟ في إجابتها، تقول إن التفسير يتعدى حدود التميز بالغرابة والإثارة، إلى أنه كان يجب الحفاظ على حالة كالرقص الشرقي، لتبيان كيف كانت حياة الأزمنة السابقة المتخلفة قبل اتخاذ النمط الغربي. وكان من الطبيعي، والحال كذلك، تجاهل الدور الغربي في الشكل الذي وصل إليه الرقص، لكن هذا لا يعني أن طريق الرقص الشرقي كان مفروشاً بالورود، بل على العكس. رغم الرواج الشديد والإقبال الكثيف الذي كان يلقاه في المعارض والذي دفع بالمقاهي والحانات الغربية لاستقدام راقصات شرقيات، شهدت صحف العالم الغربي في المقابل معارك طاحنة عندما بدأت المعارض العالمية في نقل الرقص الشرقي للعالم الأوروبي والغربي. وكانت المعركة بين من رأوا أن "قيم القاهرة"، كما أسموها، لا تناسب المجتمع الأميركي المحافظ ولا يصح عرضها عليه، وبين من رأوا أن هذا الرقص مهما كانت بدائيته وبربرتيه وحسيته هو تعبير أثنوغرافي وثقافي عن المجتمع القادم منه ويجب عرضه في إطار فلسفة المعرض التي تسعى لنقل المعرفة.

الرقص الشرقي كان –وما زال- أيضاً مستهجناً في أوطانه، حيث تقول الكاتبة إن "الهشك بشك" ليس مجرد مصطلح شعبي مصري للإشارة إلى الراقصة، بل هي النظرة التي دُمغت بها الراقصة في مجتمعها الشرقي الأصلي، كرمز للابتذال والسوقية والوقاحة، وهي لم تختلف كثيراً عن النظرة التي دمغها بها المستعمر الأبيض عندما وصفها وكتب عنها كـ"راقصة هز البطن". الملفت مثلاً، ما كتبه سلامة موسى في الخمسينيات، إذ رأى في الرقص المصري "شناعة من الشناعات"، وفي مقارنته بين الرقص المصري والأوروبي يقول "وصفت الرقص المصري بالانحطاط لأن الراقصة تنظر لأسفل، أي أن إحساسها جنسي، لكن المرأة الأوروبية التي استقلّت وعملت وكسبت واشتركت في المجتمع، نجد أن لها كبرياء يمنعها من هذا التمثيل الجنسي السافل، وفرق عظيم بينها وبين الراقصة المصرية، فإنها تنجذب للسماء وتنظر لأعلى في حين تنجذب الراقصة المصرية نحو الأرض وتنظر لأسفل لكتفيها وبطنها"!

لكن الإدانات العلنية لم تمنع الرقص الشرقي من الاستمرار في أوطانه ومن التوغل في العالم، ولم تمنع أيضاً الاهتمام الغربي بالشرق، بل ربما تسببت في زيادته. الولع بالشرق وبنسائه على الأخص، كان محورا لفصل مهم من فصول الكتاب، يرصد أبرز الأعمال الفنية وأبرز الفنانين الذين اتخذوا الشرق مسرحاً لأعمالهم، إضافة إلى فصل آخر عن الصورة وتأثيرها في نقل الأفكار الشرقية، من منطلق أن التصوير، ككل الفنون الأوروبية في مرحلة ما بعد ازدهار التوسع الاستعماري، يعكس لعبة صراع القوة بين غرب تقدمي، وشرق قديم بربري الطابع، وهي في مجملها أعمال حركتها أسطورة الحريم، والبرقع، والحجاب.. سحر عدم الإتاحة بشكل عام.

شغلت الراقصة خيال العالم الغربي كله، وشغلت أزياؤها، بالتبعية، بال العديد من المصممين الغربيين، فأدخل بعضهم تعديلات جوهرية على ما ترتديه الراقصة. وشيئاً فشيئاً، أخذ الزي الذى ترتديه الراقصات الشرقيات يختلف تماماً عما ارتدته الراقصات اللواتي ظهرن في المعارض العالمية. ويوضح الكتاب أن ثياب الراقصات في تلك المعارض كانت عبارة عن سروال فضفاض والقميص مفتوح الصدر، مع الشال الذي يلف الوسط والأرداف، إضافة إلى الحذاء المطرز. ثم بدأت تظهر حمالة الصدر المطرزة بالمجوهرات والعملات، والتنورة الشيفون أو الحرير المفتوحة من الجانبين والمعلقة أسفل الخصر على الأرداف بحزام مطرز، مع الوشاح المربوط ببذلة الرقص أو المنفصل عنها، باعتباره العلامة المميزة للراقصة الشرقية، والذي يرضى خيالات المشاهد الغربي.

كانت أبرز التعديلات التي رصدها الكتاب، ما قدمه الرسام ليون باكست، حين كشف في تصميماته منطقة الجذع وقام بتعريته وترك الجسد بلا دعامات سوى حمالة الصدر وحزام الأرداف. أيضاً، استعماله للألوان الجريئة البراقة واعتماده على التطريز وتطويره لتصميم البنطال المنتفخ والعمامات الملونة للرأس والإكثار من الحلي. عمل باكست مع فرقة الباليه الروسية، وصمم لها العديد من الأزياء المستوحاة من الشرق، خصوصاً باليه شهرزاد 1910 وكليوباترا العام نفسه. وكانت جذوع ممثلات شهرزاد العارية، بداية الثورة على عصر المشدّ (الكورسيه)، وهي التي أصبحت المميز الرئيسي لبدلة الرقص الشرقي وللراقصة الشرقية بشكل عام. البطن والجذع العاري والسيقان المكشوفة تحت القماش الشفاف، الشكل الذى سُمّي بعد ذلك "بدلة رقص الكباريه". وتقول المؤلفة إن الزي أعطى قوة لحركة الجذع والساقين والذراعين، خطوط الجسد عامة تم توضيح حركتها وتقوية أثرها بصرياً من خلال تأطيرها بالحلى والأقمشة الشفافة، جماليات الحركة أيضا تم إظهارها بالأوشحة السابحة في الفضاء حول الراقصة لتوحى أكثر بأجواء الحلم الخيالي والأيروتيكي، وهي الأزياء نفسها التي تم استيحاؤها وتطويرها في ما بعد لأفلام سينمائية غربية ذات مواضيع شرقية مثل "الشيخ" 1921، و"لص بغداد" 1924، وغيرها من العروض التي وضعت أبعاداً جديدة لشكل الشرق الغرائبي الشهواني، وبالطبع شكل الراقصة. فكانت تلك الرقصات مصممة لإشعال حواس المشاهد الغربي وإرضاء خيالاته، ونادراً جداً ما كانت لحركات الرقص الموجودة فيها أيه علاقة بالرقص الشرقي في شمال إفريقيا.

بعدها، قامت أفلام هوليوود بنقل تلك النسخة الأوروبية والأميركية الاستشراقية المعدلة، لزي الرقص الشرقي، إلى كباريهات القاهرة التي كانت على وشك دخول مرحلة الانتداب البريطاني وتغص بالأجانب الذين شكلوا أغلب الزبائن ويريدون أن يروا الراقصة التي في خيالهم على أرضها. وبالتالي، لجأت بديعة مصابني وغيرها من أصحاب الكباريهات لاستخدام أزياء الأفلام وإضافة حركات جديدة تناسب البدلة الجديدة، ومستوحاة من الراقصات الهنديات اللواتي قدمن مع فرق الجنود المرابطة عند قناة السويس والإسكندرية. كما أُدخلت تعديلات مستوحاة من الأزياء الهندية لإضفاء المزيد من الإثارة، تعديلات جديدة في الشكل والأداء غيرت من الشكل المستحدث وابتعدت تماماً عن الشكل التراثي القديم. ويمكن القول ببساطة إن الراقصات عدن مجدداً لتقديم بضاعتهن التي تم تصديرها إليهن بعد التعديل، المنتج نفسه بعد تطويره بما يلائم ذوق المشاهد الغربي وخياله. واستمرت السينما على النهج نفسه، لسنوات طويلة، حتى أن عمر الشريف صُدم من أداء وشكل الراقصات اللواتي أدين مشاهد الرقص في فيلم "لورانس العرب" الذي شارك في بطولته لأنه كان يعرف أن هذا لا يشبه الرقص الشرقي في شيء.

الملفت هو أن باكست، أحد أبزر مطوري بدلة الرقص الشرقي، أقرّ بأن تصميماته لـ"شهرزاد" كانت مستوحاة من مصادر عديدة، مثل موتيفات العالم العربي والقوقاز وتركيا ووسط آسيا، إضافي إلى رسوم المنمنمات الفارسية ورسوم الأواني اليونانية وفنون بيزنطة ومصر القديمة، وليس مما رآه فعلاً في زيارته لشمال إفريقيا!





تعليقات: