التعويضات .. بين الصراع على السلطة وبناء الدولة

يطغى على النقاش السياسي في لبنان الجدل حول التعويضات وبطئها. وقد كان الأجدر لو أن السلطة سُئلت عن برنامجها الإعماري فالاقتصادي للخروج من دائرة الصراع على السلطة إلى ساحة بناء الدولة. فالخروج من إطار المحاسبة على الأرقام، أرقام المدفوعات والمطلوبات، إلى إطار العمل من أجل الإعمار والنمو الاقتصادي هو ما يحدد التزامات السلطة حيال مجتمعها، وهو ما يجعل من السلطة إطاراً لكل اللبنانيين لا مجرّد طرف في الصراع من أجل القبض على مقاليد الأمور.

لقد أنكرت هذه السلطة أن لديها واجبات تجاه مجتمعها منذ أن أعلنت، غداة انتهاء الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل ضد لبنان، أنها عاجزة عن الإعمار، بل مستنكفة عنه، وتبنت مبدأ التبني بمعنى أن كل من يريد مساعدة لبنان، من الداخل أو الخارج، يمكنه أن يتبنى أي مشروع لإعمار ما تهدم من بنى تحتية أو قرى أو أحياء في المدن والضواحي؛ وذلك دون تدخل الدولة. رفضت السلطة منذ البداية أن يكون لديها برنامج إعماري اقتصادي تلتزم عن طريقه بواجباتها حيال مجتمعها، ليكون البرنامج وتنفيذه هو محور الموالاة أو المعارضة، وليكون التقيّد في تنفيذه هو محور المحاسبة السياسية، وليصير التدقيق المالي أو المحاسبي الصرف، أداة إدارية لا يستحق أن يكون هو محور الأجندة السياسية للسلطة ومعارضيها.

اختصرت هذه السلطة الاقتصاد إلى جوانبه المالية، لذلك كان الاهتمام بميزان المدفوعات لا الميزان التجاري، واختصرت المالية إلى أرقام، وركزت الاهتمام على تدقيق الأرقام لا على وسائل العمل من أجل الإعمار ولا على السعي من أجل النمو الاقتصادي.

وكان هذا هو الخيار السياسي للسلطة، والخيار يخفي برنامجاً غير معلن لإبقاء الاقتصاد مرتكزاً على تدفق مالي وضريبي باتجاهين على الشكل التالي: إيداعات من المودعين إلى المصارف، وهذه إلى الدولة؛ وفي الاتجاه المعاكس ضرائب من المواطنين إلى السلطة إلى المصارف، ومن المصارف إلى المودعين. والعبء الضريبي يقع في غالبيته على الطبقات الاجتماعية الدنيا والوسطى. ويتم تقاسم موارد الدولة بين القلة من اللبنانيين، القلة التي تتحلق حول المصالح المالية والمصرفية. وعن طريق هذه الآلية يتم نقل الثروة من الغالبية (الفقراء) إلى القلة (الأغنياء). وتزدهر المبادلات المالية والمصرفية في حين يتراجع الإنتاج الاقتصادي، الزراعي والصناعي والخدماتي. وتُستنزَف الدولة في مواردها بل يستنزف المجتمع في إمكاناته.

هكذا تزدهر البطالة والهجرة، ويتناقص عدد اللبنانيين، فكأن السلطة تعتبر أنه بالريع المالي (الفائدة) وحده يحيا النظام. وتتحوّل الدولة من إطار للمجتمع إلى سلطة لا يلزمها مجتمع. والهجرة أداة بيد السلطة لتحقيق ذلك. وعندما يصرّح رئيس جمعية الصناعيين أن التصدير الوحيد المزدهر، من لبنان إلى خارجه، هو تصدير الأبناء والقوى العاملة، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة تأمل لمراقبة الشعارات المطلبية المطروحة.

كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري، منذ أن جاء إلى السلطة في أواخر العام 1992 يسعى لكي يكون هناك برنامج إعماري اقتصادي، أي خطة للإعمار تشكّل قاعدة للنهوض الاقتصادي. لكنه حتى في العام ,1993 أي في لحظة الزخم السياسي الذي رافق مجيئه للسلطة، لم يستطع أن يجعل مجلس الوزراء قابلاً لمناقشة خطة للإعمار والنهوض الاقتصادي. والخطة هنا تعبير يعني التزام السلطة حيال مجتمعها بما تزمع القيام به في مختلف قطاعات البنى التحتــية والإنــتاج؛ ولا يعني التعبير بأي حال مــن الأحوال ما يجب على الناس فعله. فالخــطة ليست تعدياً على الحريات الاقتصادية، بل هي برنامج عمل يلزم الدولة بواجباتها. وللآن لم يناقش مجلس الوزراء، ولم يتــبنّ خطـة شــاملة. فهــناك بنية اقتصادية ـ سياسية تمنع ذلك. وهذه البنية الاقتصادية ـ السياسية واجهت رفيق الحريري وصدته ونجحت في مراكمة الدين العام. وهذا هو المسكوت عنه لدى أطراف النظام عموماً.

يمكن للمراقب أن يسجل لهذه السلطة نجاحاً غير مشرّف في تحويل الأنظار عن الجوهر البنيوي للنظام إلى أمور محاسبية تشكّل وجهاً من وجوه الصراع على السلطة. نجحت هذه السلطة في أن تجعل ما عجز رفيق الحريري عن تحقيقه نظاماً للعجز المالي والاقتصادي وقاعدة لفئة اجتماعية تعيش وتزدهر من جراء هذا العجز. وحوّلت العجز إلى مثل أعلى، وذهبت إلى مؤتمر باريس ـ 3 محمّلة بورقة اعتبرتها إصلاحية ركّزت فيها على أمور المحاسبة والتدقيق دون مسائل العمل والإنتاج، وذلك من أجل مصادرة المليارات السبعة أو الثمانية الموعودة لصالح تمويل العجز في مالية الدولة لا من أجل الإعمار والنهوض الاقتصادي.

حتى لو دفعت الحكومة جميع التعويضات. وحتى لو بُنيت جميع القرى والأحياء بالكامل، وهذا أمر مستبعد، تبقى السلطة مقصّرة في مجال الإعمار والاقتصاد. ولا حاجة للتفصيل في ذلك بأكثر من الإشارة إلى أرقام البطالة والهجرة المرتفعتين. والإعمار لا يحقق أهدافه كاملة، ولا يمكن حمايته، إلا عندما يكون جزءاً من عملية سياسية اقتصادية، جزءاً من برنامج اقتصادي ـ اجتماعي يسعى للتعويض على الخسارات والتراجعات الإنتاجية ويهدف إلى تحفيز النمو الاقتصادي.

لكن التقصير هو سياسة السلطة في إدارة الاقتصاد لغير صالح الأكثرية من اللبنانيين ـ الأكثرية الاجتماعية من الفئات التي تعيش حالة من الفقر المدقع، أو السائرة في هذا الاتجاه.

إن مطالبة السلطة ببرنامج عمل إعماري ـ اقتصادي هو بداية، لكنها بداية لا بد منها للخروج من لعبة الأرقام المستخدمة من أجل التعمية. وعلى كل حال يجيد المحاسبون لعبة الأرقام أكثر من غيرهم. أما الخطوة التالية فهي يجب أن تركّز على ضرورة الانتقال من البرنامج إلى التنفيذ كي نستطيع الخروج من سياسة العجز والتقصير إلى سياسة الإنجاز والإنتاج والنمو.

لقد تحوّل الإعمار من حجر زاوية في بناء الدولة إلى سلاح مستخدم في الصراع على السلطة. وما هكذا تورد الإبل.

تعليقات: