«قانون قيصر»: الجوع للسوريين


بعد جولات من التعديل والتنقيح، ابتداءً من 2014 وصولاً إلى أواخر العام الفائت، يوضع قانون «قيصر» الأميركي، بنسخته النهائية، قيد التنفيذ الشهر الجاري. القانون الذي حاز موافقة كل من الديموقراطيين والجمهوريين في الكونغرس، يهدف إلى تثبيت سلسلة طويلة ــ قديمة من العقوبات الأميركية المفروضة أصلاً على سوريا، في مراحل مختلفة، منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى سنوات الحرب الحالية، إضافة إلى ترجمة عمليةٍ «قانونية» لتهديدات وضغوطات لطالما أطلقتها واشنطن ضد كل من يسعى إلى التعاون مع الحكومة السورية. الجديد في «قيصر» هو تضمنه بنوداً مختصّة بحلفاء دمشق، في موسكو وطهران وبيروت، تهدف إلى منعهم ـــ بالدرجة الأولى ـــ من الانخراط في جهود إعادة الإعمار، ودعم الحكومة في قطاعات مختلفة. تصبّ بنود القانون المتنوعة في مجرى واحد: خنق دمشق، ورفع كلفة الصمود في وجه الإرادة الأميركية إلى حدها الأقصى


«رحلة قيصر» في واشنطن: سورياً... الجميع حلفاء ترامب

ملاك حمود

«رحلة قيصر» في واشنطن: سورياً... الجميع حلفاء ترامب

صار «قيصر» نافذاً. القانون الذي أُقرَّ في الكونغرس نهاية العام الماضي، بإجماع الحزبين الديموقراطي والجمهوري، سلك رحلة طويلة قبل إقراره وبدء تطبيقه. إجماعٌ بيّن جلياً تماهي المشرّعين الأميركيين مع سياسة إدارة دونالد ترامب لمعاقبة سوريا وحلفائها، وسط قلق اعترى هذه المؤسسة وغيرها من احتمال خسارة النفوذ الأميركي في المنطقة، لو قرّر الرئيس، فعلاً، الانسحاب عسكرياً من هذا البلد. من هنا، يُنظر إلى القانون بصفته أولاً استكمالاً لسياسة الضغوط القصوى التي تتبعها هذه الإدارة، وثانياً كونه يعزّز موقع واشنطن في أيّ عملية سياسية محتملة، عبر الضغط، وخصوصاً، على حليفتَي سوريا، روسيا وإيران.

«قيصر» مِن المهد

أكثر من أيّ مشروع قانون آخر، كان «قيصر» الشغل الشاغل للكونغرس بنسختَيه (ما قبل 2018 وما بعدها)، ومِن خلفه الإدارة. منذ 2014، بدأ الاشتغال على مشروع القانون الذي عُدِّلت مسوّدته أكثر من مرّة. وفي 22 كانون الثاني/ يناير 2019، نشر مجلس النواب مسوّدة «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا» (HR31)، بينما حملت النسخة التي صاغها مجلس الشيوخ اسم S52. وبما أن النسختين لم تأتيا على ذكر التحقيق في «الوسائل العسكرية» لحماية المدنيين، عدلت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ HR31 في 3 حزيران/ يونيو 2019، لتضمين إحاطات إعلامية مِن الكونغرس للرئيس عن «الوسائل العسكرية» التي تهدف إلى حماية المدنيين، والحصول على بيانات في شأن ما يجري في سوريا من عددٍ من المنظمات والبلدان. أُعيد تقديم HR5732 إلى الكونغرس، كما حالُ HR1677.

لكن المشروع توقف عند مجلس الشيوخ، بعدما كان قد وافق عليه مجلس النواب، ثم قُدّم من جديد تحت اسم HR31 إلى مجلس الشيوخ لإعادة النظر فيه. ظلّت المسوّدة HR5732 لوقت طويل في الكونغرس، رغم موافقة كلا الحزبين. وبحلول 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 أقرَ مجلس النواب بالإجماع «قانون قيصر» (HR5732). هذه النسخة من التشريع كانت تطالب الرئيس بتقديم تقرير إلى الكونغرس حول احتمالات فرض منطقة حظر للطيران فوق سوريا. وكان مشروع القانون قد أذنَ أيضاً لوزيرِ الخارجية بدعم الكيانات التي تجمع وتحفظ الأدلة للمحاكمة النهائية لمَن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا منذُ آذار/ مارس 2011 حتى تاريخه. وتفادياً لأي تأخير جديد قد يعرقل تمريره كما في السابق، اتُّفق على إدراج مشروع القانون ضمن موازنة الدفاع للسنة المالية 2020، البالغة 738 مليار دولار. بذلك، صار «قيصر» جزءاً مِن «قانون إقرار الدفاع الوطني» بعدما أيّد موازنة الدفاع 377 نائباً مقابل معارضة 47، قبل إحالتها على مجلس الشيوخ، حيث حصلت على غالبية 86 صوتاً ومعارضة 8، ليكون القانون نافذاً اعتباراً مِن 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019، عندما وقّعه دونالد ترامب.

اتُّفق على إدراج مشروع «قيصر» ضمن موازنة الدفاع للسنة المالية 2020

في بيانها آنذاك، رأت وزارة الخارجية الأميركية في الإجراء «خطوة مهمة من شأنها تعزيز المحاسبة عن الفظائع التي ارتكبها بشار الأسد ونظامه في سوريا»، ولا سيّما أن القانون يوفّر للولايات المتحدة وسائل تساعد في «وضع حدٍّ للصراع الرهيب والمستمر في سوريا بتعزيز قضية مساءلة نظام الأسد»، و«يحمِّل أولئك المسؤولين عن موت المدنيين وعن الفظائع الكثيرة، بما فيها استخدام الأسلحة الكيميائية وغيرها من الأسلحة الهمجيّة، مسؤولية أعمالهم». الغاية، وفق الوزارة، هي «الاستجابة لنداءات الشعب السوري الذي يطالب بالتوصُّل إلى حلّ سياسي... تماشياً مع قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254». ويسعى القانون إلى حرمان النظام السوري الموارد المالية التي يستخدمها في «تسعير حملة العنف والتدمير التي أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين»، ويرسل إشارة واضحة مفادها بأنه «لا ينبغي لأيّ طرف خارجي الدخول في أعمال مع هذا النظام أو أعمال تؤدي إلى إثرائه»، وفق بيان الوزارة.

الاشتقاق وأصل «المعنى»

سُمِّي القانون «قيصر» نسبة إلى شخص لا يزال مجهول الهويّة. يُقال، وفق الرواية الأميركية، إن هذا الشخص، ولقبه «قيصر»، عمِل مصوّراً سابقاً لدى الشرطة العسكرية السورية قبل أن ينشقّ ويتمكّن من تهريب آلاف الصور الفوتوغرافة لضحايا قضوا تحت التعذيب، وخصوصاً في السجون السورية. والتقطت هذه الصور، وفق الرواية نفسها، منذ تاريخ اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011 حتى تاريخ انشقاق المصوّر في 2014، وهربه إلى فرنسا ومنها إلى الولايات المتحدة، حيث عرض أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي شهادته وقدم الملفات التي في حوزته. بعدها، شُكِّل فريق تحقيق دولي لبحث جرائم الحرب المرتكبة في سوريا، والتأكُّد من صدقية الصور، وأصبح قيصر ضيف الكابيتول المفضّل، فهو توجّه إلى المشرّعين في خطابه الأوّل أمامهم بالقول: «أوقفوا القتل في سوريا، هناك مذابح ترتكب والبلاد تدمر دون رحمة». وناطقاً باسم السوريين جميعاً، زاد: «السوريون يطالبونكم بفعل شيء مثلما فعلتم في يوغوسلافيا السابقة».

أبرز النقاط

يفوِّض «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019» الإدارة الأميركية فرض عقوبات على كبار المسؤولين والقادة العسكريين السوريين وكل مَن يدعم النظام السوري، ويسمِّي روسيا وإيران. وتشمل العقوبات كل «الميليشيات» التي تقاتل إلى جانب الجيش السوري، كما يوسّع نظام العقوبات السابق، عبر استهداف المؤسسات الحكومية السورية والأفراد والدول التي تموِّل النظام، سواء كان هذا التمويل متعلقاً بأنشطة عسكريّة أو جهود إعادة الإعمار أو انتهاكات حقوق الإنسان. كذلك، يفتح الباب أمام فرض عقوبات على الشركات الأجنبية، إذ صُمِّمت بنوده على نحو يهدف إلى ثني الشركات والأفراد عن الاستثمار في سوريا، والمشاركة في جهود إعادة الإعمار التي تقودها الحكومة السورية.

وفق نص القانون، ستُفرض هذه العقوبات على أيّ شركة عالمية أو فرد يستثمر في قطاعَي الطاقة أو الطيران، وكل مَن يزوّد الخطوط الجويّة السورية بقطع غيار وصيانة، إضافة إلى كل من يقدِّم ديوناً إلى النظام. وستشمل العقوبات مصرف سوريا المركزي إذا ما ثبت أنه يشارك في عمليّات «غسل أموال». وتتراوح العقوبات على الأفراد بين تجميد الأصول ومنع دخولهم إلى الولايات المتحدة، كما يفرض القانون عقوبات على أي حكومة أو مجموعة تُسهّل صيانة أو توسيع إنتاج الحكومة السورية المحلي للغاز الطبيعي والبتروليوم ومشتقاته.

مَن يعاقب القانون؟

ــ من يوفِّر عن علم دعماً مالياً أو مادياً أو تقنياً مهماً، أو ينخرط في صفقة كبيرة مع: الحكومة السورية (بما في ذلك أيّ كيان تملكه أو تسيطر عليه) أو شخصية سياسية رفيعة في الحكومة؛ شخص أجنبي، مقاول عسكري، أو مرتزق، أو قوة شبه عسكرية يعمل عن عمد، بصفة عسكرية داخل سوريا لمصلحة حكومة سوريا أو باسمها، أو حكومة الاتحاد الروسي، أو حكومة إيران؛ شخص أجنبي خاضع للعقوبات بموجب قانون الصلاحيات الاقتصادية الطارئة الدولي (50 1701 U.S.C. وما يليها) في ما يتعلق بسوريا أو أي حكم قانوني آخر يفرض عقوبات على سوريا.

ــ من يبيع أو يقدِّم سلعاً أو خدمات أو تكنولوجيا أو معلومات أو دعماً مهماً أو أي دعم آخر يسهِّل صيانة أو توسيع الإنتاج المحلي للحكومة السورية للغاز الطبيعي أو البترول أو المنتجات البترولية؛ يبيع أو يقدِّم عن عمد قطع غيار للطائرات أو قطع الغيار التي تستخدم لأغراض عسكرية في سوريا لمصلحة أو نيابة عن الحكومة لأيّ شخص أجنبي يعمل في منطقة تخضع لسيطرة مباشرة أو غير مباشرة من الحكومة السورية أو القوات الأجنبية المرتبطة معها؛ يوفِّر عن علم سلعاً أو خدمات مهمة مرتبطة بتشغيل الطائرات التي تستخدم لأغراض عسكرية في سوريا لمصلحة أو نيابة عن الحكومة لأي شخص أجنبي يعمل أو يقدّم عن علم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، خدمات بناء أو هندسية مهمّة إلى الحكومة السورية.

(الأخبار)

شروط «الدبلوماسية»

يتضمّن القانون بنداً لتعليق العقوبات، لكن بشروط يتّضح بعد قراءتها أنها وضعت الإبقاء على العقوبات طالما بقي النظام السوري، واستمرّ دعم روسيا وإيران. تتضمَّن هذه الشروط: «وقف قصف المدنيين من الطائرات الروسية والسورية، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة من القوات الإيرانية والروسية والسورية، والسماح بمرور المساعدات الإنسانية وتحرّك المدنيين بحرّية، وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين، والسماح بدخول منظمات حقوق الإنسان إلى السجون والمعتقلات السورية، ووقف قصف المراكز الطبية والمدارس والمناطق السكنية والتجمعات المدنية، كالأسواق، من القوات السورية والإيرانية والروسية والمجموعات التابعة لها، وعودة المهجّرين السوريين بطريقة آمنة إرادية محترمة، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا، وإحقاق العدالة لضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها النظام».


ومن بعدي الطوفان...

وليد شرارة

مع قرب دخول «قانون قيصر» الأميركي، أي صيغة «الضغوط القصوى» الخاصة بسوريا، حيّز التنفيذ، تبرز وجهتا نظر في كيفية توظيفه سياسياً لدى إدارة دونالد ترامب وغاياتها الفعلية من ورائه. وجهة النظر الأولى تفترض أن القانون سيسمح للإدارة بتكثيف الضغوط على الدولة السورية وحلفائها لحملهم على قبول الشروط الأميركية لأي حل مستقبلي للأزمة، وإفهام الطرف الروسي تحديداً بين هؤلاء الحلفاء أن لا إمكانية لتسوية دائمة في سوريا من دون الولايات المتحدة. سيشكل القانون في نظر أصحاب هذا الرأي رافعة للعودة إلى «قناة فيينا»، أي جولات المفاوضات الروسية ــــ الأميركية الثلاث التي تمت خلال عام ونصف عام، وتخللتها «عروض» أميركية تتضمن جملة من الشروط تبدأ بوقف النار في إدلب ومناطق أخرى والسماح بدخول مساعدات إنسانية إليها وإلى مناطق تحت سيطرة الجيش السوري، وتنتهي بأخرى تنص على انسحاب حزب الله و«حرس الثورة» الايراني والقوى الحليفة لهما من مناطق أخرى، لكنها لم تفضِ إلى أي نتيجة تذكر. وفق بعض المصادر المطلعة، أبدى، جيمس جيفري، وهو المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لـ«التحالف الدولي المناهض لداعش»، الذي يشرف على الملف السوري عملياً، أبدى في المدة الأخيرة حماسة كبيرة حيال إمكانية إعادة فتح هذه القناة «بطلب روسي هذه المرة».

أنصار وجهة النظر الثانية يرون أن الجهات التي تقف خلف هذا القانون، في الإدارة وفي الكونغرس، يحركها أولاً وأساساً دافع الانتقام لهزيمة الولايات المتحدة وحلفائها في سوريا والرغبة في معاقبة الجهات المحلية والإقليمية والدولية المسؤولة عنها قبل أي اعتبار آخر. فإدارة ترامب، التي ترزح تحت وطأة مجموعة من الملفات الصعبة، من جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، مروراً بالانقسام الداخلي العميق الذي تبدّى على خلفية جريمة قتل المواطن الأفريقي ــــ الأميركي جورج فلويد على يد الشرطة، وصولاً إلى مواجهتها الكبرى مع الصين أولاً ومع إيران وفنزويلا ثانياً، ليست في صدد التركيز على سوريا مجدداً. يعتقد أنصار هذا الرأي أن الهدف الحقيقي للقانون خنق سوريا وتجويع شعبها والرهان على اضطرابات داخلية تضعف الدولة، أو حتى تتسبب في انهيارها، وأن تربك الحلفاء وتجهض انتصارهم. يكفي التوقف عند ما رشح من شروط أميركية سبق أن قدمت إلى الروس في فيينا للتأكد من أن ما تريده واشنطن هو إذعان الدولة وحلفائها لها لا غير، وأن الغاية النهائية هي تعميم الخراب في ساحة خرجت إلى درجة كبيرة عن سيطرتها، والثأر من الذين أفشلوا مخططاتها في سوريا والإقليم.

إعلان الرئيس الأميركي منذ بضعة أيام استعداده لسحب قواته من حقول النفط السورية إن تمكن الكرد من السيطرة عليها أمر لافت. فترامب يعلم أن الكرد لا قدرة لهم على ذلك دون المساندة الأميركية. الرئيس المغرد عوّد الجميع إطلاق المواقف والمسارعة بعدها إلى التراجع عنها، وخاصة بشأن سوريا، لكننا هذه المرة أمام تشجيع أميركي علني لاستيلاء الميليشيات الكردية على موارد الدولة لحرمانها إياها عشية دخول «قيصر» حيز التنفيذ، وتأمين الشروط المادية لانفصال الأخيرين عنها. يظهر هذا الموقف واقع أن المشروع التقسيمي، الذي سبق لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ولمسؤولين سوريين، التحذير منه مراراً، وهو المرعي من الولايات المتحدة، ما زال مطروحاً على الطاولة. الربط بين هذه التغريدة وبين العقوبات التي ينص عليها القانون، والتي ستعرقل ترميم وتأهيل البنى التحتية الحيوية وتمنع الدولة من تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، يوضح جلياً الوجهة المعتمدة من الإدارة الأميركية. هي تسعى إلى تحقيق الأهداف التي عجزت عن الوصول إليها بالحرب بالوكالة عبر أدوات الضغوط الاقتصادية والمالية، والمستهدف في هذه الحالة هم حلفاء الدولة السورية، وفي مقدمتهم روسيا، بقدر ما هي مستهدفة.

الولايات المتحدة لم تتقبّل فشلها في الساحة السورية ولم تسلّم به وهي تحرص على تحويل ما تعتبره نصراً روسياً في الدرجة الأولى إلى «هدية مسمومة». آرون شتاين، وهو مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد أبحاث السياسة الخارجية، شرح بدقة خلفيات هذه المقاربة الأميركية في مقالة على موقع «وور أن ذي روكس» في 16 آذار/ مارس الماضي. يقول شتاين إن واشنطن «إن كانت جدية في التزامها الدخول في منافسة مفتوحة وشاملة مع موسكو، عليها التفكير في سبيل جعل روسيا تتحمل أكلاف الانتصار... إن رؤية العلم الروسي مرفرفاً فوق القواعد التي أخلتها القوات الأميركية عزز السردية عن بداية الانسحاب الأميركي من العالم وصعود الدور الروسي في الشرق الأوسط». وهو يوضح أن «قبول روسيا التورط في إدارة مسار سياسي طويل وشديد الاضطراب يمكن أن تستفيد منه أميركا إن سعت إلى فرض أكلاف عليها... المطلوب هو أن تكيف واشنطن مقاربتها للتنافس مع موسكو لتنجح في التحكم في كيفية إنفاق الأخيرة مواردها المحدودة. هذا التفكير ليس جديداً. هو مستلهم من استراتيجية التنافس التقليدية التي طبقت خلال الحرب الباردة وحددت كيفية استغلال الولايات المتحدة ميزاتها التنافسية مقابل الاتحاد السوفياتي ومحاولة حمل الأخير على إنفاق أمواله بالطريقة التي تريدها واشنطن».

ما زال نموذج الانتصار على الاتحاد السوفياتي عبر استنزافه في سباق التسلح يسيطر على خيال النخب الأميركية. «الضغوط القصوى» بجميع تنويعاتها هي محاولات لتطبيق هذا النموذج في الظروف الحالية وللوصول إلى النتائج نفسها. المطروح هو العمل على خنق سوريا لإثارة وتأجيج تناقضات داخلية تفضي في أفضل السيناريوات من منظور أميركي إلى انهيار الدولة وغرق الحلفاء في سياق فوضى عارمة غير قابلة للضبط. أما افتراض أن العقوبات التي ينص عليها القانون المذكور قابلة للتعليق أو عدم التطبيق في حال استجابة الدولة السورية وحلفائها للشروط الأميركية، فهو يتجاهل ماهية هذه الشروط التي تستهدف حملهم على الإذعان لا أقل. فإذا وضعنا جانباً تلك المتعلقة بالمدنيين، التي أُدرجت لإسباغ صفة «أخلاقية وإنسانية» على الموقف الأميركي، وركزنا على ما هو رئيسي، أي وجود الصواريخ الإيرانية وتموضع حزب الله والحرس، نصل إلى نتيجة أن واشنطن تسعى إلى دفع روسيا إلى الصدام معهما في حال قررت الاستجابة لشروطها، وهو أمر مستبعد جداً.

أولويات إدارة ترامب في سوريا إسرائيلية بالدرجة الأولى، وإزالة خطر الصواريخ في رأس جدول أعمالها، وبما أن خيار الحرب الشاملة غير وارد حالياً، لا يبقى سوى الحصار والتجويع أملاً بإشاعة الخراب. نجاح أو فشل مثل هذه السياسة يتوقف إلى درجة كبيرة على مدى استعداد حلفاء سوريا الدوليين أولاً، كروسيا، والصين التي تحتدم مواجهتها مع الولايات المتحدة، للوقوف إلى جانبها لإفشال هذا المشروع التدميري.


قراءة سوريّة لقانون «قيصر»: تعدّدت الاجتهادات والمخرج واحد

زياد غصن

قراءتان مختلفتان للتأثيرات المرتقبة لقانون «قيصر» الأميركي. الأولى تقول إن تطبيق القانون يعني محاولة أميركية لفرض حصار اقتصادي على سوريا ولا سيما لجهة تعطيل عمل المؤسسات الحكومية وعرقلة عملية إعادة الإعمار. والقراءة الثانية تعتقد أن الأمر ليس بذلك التهويل، وأن البلد الذي استطاع تجاوز حصار الثمانينيات عندما لم يكن هناك أي داعم خارجي، يستطيع اليوم فعل ذلك بمساعدة الحلفاء والأصدقاء

دمشق | رغم الاتفاق على أن قانون «قيصر» الأميركي يحمل أبعاداً جديدة في حزمة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وأنه ليس أمام البلاد من خيار سوى الاعتماد على إمكاناتها، وتطوير قطاعها الإنتاجي الزراعي والصناعي، إلا أن ثمة تبايناً واضحاً في قراءة الاقتصاديين السوريين لحجم التأثيرات المحتملة لدخول القانون حيّز التنفيذ. ثمة من يعتقد بأن البلاد مقبلة على عقوبات اقتصادية «أشدّ» من السابق، وستظهر انعكاساتها السلبية تدريجياً على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وفي المقابل هنالك من يرى في الأمر تهويلاً لا مبرّر له، بالنظر إلى أن سوريا تحت عقوبات متنوّعة منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي.

يفرض القانون المذكور عقوبات جديدة على أي شخص أو جهة تتعامل مع الحكومة السورية أو توفّر لها التمويل، وفي مجالات عدة، من بينها مشاريع البناء والهندسة، وصناعة الطاقة، وقطاع النقل الجوي. وهذا يعني ببساطة أن هناك ثلاثة قطاعات اقتصادية أساسية ستكون تحت تهديد عقوبات البنك الفيدرالي الأميركي؟

أولها: التجارة الخارجية من خلال منع توريد ما تحتاج إليه مؤسسات الحكومة السورية من تجهيزات وقطع تبديل وسلع غير غذائية.

ثانيها: الاستثمار المحلي أو الأجنبي المشترك أو الداعم للحكومة ولا سيما في مجالات البناء والهندسة والطاقة.

وثالثها: القطاعات المتعلقة بالتمويل والذي يشمل القروض والمساعدات والحوالات المالية التي تتوجه نحو مؤسسات حكومية أو تتم من خلالها.

وبهذا فإن قانون «قيصر»، بحسب الباحث الاقتصادي والسياسي زكي محشي، هو «رسالة تهديد مباشرة إلى كل من روسيا وإيران، الموضوعتين أساساً تحت العقوبات الأميركية، ورسالة تهديد غير مباشرة إلى دول الخليج العربي (الإمارات، الكويت ...) كي لا تفكر مرحلياً، أو في المستقبل بالاستثمار في سوريا أو التعاون اقتصادياً مع الحكومة، وهذا أيضاً ما ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي». ويضيف زكي في حديث مع «الأخبار» أن ذلك يمكن تفسيره وفقاً لعقلية ترامب «بورقة تفاوض» بيد واشنطن، لا لمفاوضة الحكومة السورية وإنما لمفاوضة روسيا ودول أخرى على مصالحها في سوريا، فهو كمن يريد أن يقول: لا يمكن أن يجري (بزنس) في سوريا من دون موافقتي». والأخطر من ذلك، هو أنه يحاول «ترسيخ مفهوم التقسيم من خلال استثناء المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية الكردية من نطاق تنفيذ القانون المذكور».

مزيد من المعاناة والتكاليف

يجزم العديد من الاقتصاديين بأن العقوبات المالية التي يتضمنها القانون هي الأخطر. فإلى جانب محاولة تجفيف الحوالات المالية الخارجية، تسعى الإدارة الأميركية إلى منع وصول أي مساعدات مالية أو قروض إلى الحكومة السورية، وإلى تقييد عمل المؤسسات المصرفية الرسمية، بما في ذلك قدرتها على تمويل المستوردات ومنح التسهيلات الائتمانية، وهذا بحسب ما قاله الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، الدكتور علي كنعان خلال ندوة علمية أقيمت أخيراً، سيكون له «تأثيره المباشر على سعر الصرف خاصة، وعلى الحركة الاقتصادية في البلاد عموماً».

يجزم العديد من الاقتصاديين بأن العقوبات المالية التي يتضمنها القانون هي الأخطر

وتميّز دراسة صادرة عن المرصد العمالي للدراسات والأبحاث، حملت عنوان «قانون قيصر والعلاقات السورية الأميركية»، بين نوعين من التداعيات الاقتصادية لتطبيق القانون. النوع الأول يتمثل في استمرار تطبيق عقوبات موجودة سابقاً، الأمر الذي يعني استمرار الأعباء السابقة وتقويتها، وتالياً تحمّل الحكومة السورية مزيداً من التكاليف الاقتصادية. والنوع الثاني، يفرض أعباءً اقتصادية جديدة لم تكن موجودة سابقاً، وهذا سينجم عن تطبيق عقوبات على شركاء سوريا الحاليين والمحتملين، لم تكن موجودة سابقاً.

في ضوء ذلك، ستكون الجهات الراغبة بالتعامل مع المؤسسات الحكومية مضطرة للبحث عن طرق وأساليب للالتفاف والتحايل على العقوبات الأميركية الجديدة، لكن هذا الأمر قد ينجح في بعض المجالات مقابل ارتفاع في قيمة التكاليف والنفقات، وقد لا ينجح في مجالات ثانية ولا سيما أن «هناك شركات أجنبية أو شركات موجودة في لبنان ستكون مجبرة على وقف تعاملاتها التجارية والمالية مع المؤسسات الحكومية تفادياً لتعرضها للعقوبات في حين أن هناك شركات أجنبية أخرى من روسيا أو إيران أو غيرها من الدول ستزيد من عمولتها بحجة ارتفاع مخاطر التعامل مع سوريا»، يقول الباحث محشي. كذلك يضيف أنه من بين التأثيرات السلبية الأخرى للعقوبات الجديدة «الاضطرار إلى التعامل مع أكثر من وسيط أو حلقة تجارية للتحايل على العقوبات، وهذا سيكون له تأثيره السلبي لجهة طول فترة التنفيذ وزيادة التكلفة المالية»، وتالياً ارتفاع حجم الخسائر الاقتصادية المترتبة على العقوبات والتي كان «المركز السوري لبحوث السياسات» قدّر نسبتها في عام 2013 بحوالى 28.3% من خسائر الناتج المحلي الإجمالي.

لا يُقارن بالحصار السابق!

على المقلب الآخر، يستغرب البعض من «التهويل الإعلامي» لقانون «قيصر» الذي وإن كان يتضمن فرض عقوبات اقتصادية جديدة إلا أنه لم يخرج عن دائرة ما تعرّضت له البلاد منذ بداية الأزمة الحالية، أو خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وتالياً عوضاً من التركيز على التأثيرات السلبية للقانون على الاقتصاد فإن الأولوية هي لمواجهته والتخفيف من آثاره.

وبحسب الاستشاري الدكتور هشام خياط فإنه «مع اقتراب موعد البدء بتطبيق قانون قيصر، يكثر الحديث عن آثاره وانعكاساته على الاقتصاد الوطني، وكأننا مقبلون على دمار أو هلاك اقتصادي، ومن دون أن نقلل من الآثار والمنعكسات، إلا أن المبالغة في التهويل ليست في مصلحة سوريا بشيء». ويضيف أن القانون «سلاح إعلامي وسياسي واقتصادي في آن معاً، وينبغي لمواجهته أولاً تعزيز البنيان الداخلي، أي العمل على زيادة مناعة الاقتصاد الوطني عن طريق التركيز على نقاط القوة وتحويل بعض نقاط الضعف إلى فرص للتحسين والتطوير».

وهذا ما يذهب إليه أيضاً الصناعيّ محمد السواح، والذي يحدد عدة خطوات يمكنها مساعدة البلاد على تجاوز مفاعيل القانون المذكور. أولى تلك الخطوات تكمن في الاستفادة من «القطاع الخاص المستثنى من عقوبات القانون المذكور لتطوير القدرات والإمكانات الإنتاجية الوطنية»، ولا سيما أن «للبلاد تجربة مماثلة في بداية التسعينيات حيث لم يكن هناك داعم خارجي، بينما اليوم هناك دول صديقة يمكن أن تدعم سوريا وتساعدها على إيجاد البدائل المناسبة لتجاوز مسألة العقوبات، كما أن إمكانات البلاد مختلفة عن السابق من بنية تحتية وموارد بشرية وتجهيزات تقنية، فمثلاً لم يكن يوجد في القطاع النسيجي خلال فترة التسعينيات إلا ما بين 100-200 ماكينة إلكترونية، أما اليوم فهناك 40 ألف ماكينة إلكترونية».

ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أن هناك «سوقاً قريبة يتراوح عدد مستهلكيها ما بين 100 إلى 200 مليون مستهلك يمكن لسوريا استثمارها خلال العامين المقبلين، وذلك لحين تمكنها من استعادة عافيتها الإنتاجية. وهذه السوق تضم كلاً من لبنان والعراق ودول الخليج وبعض دول الشمال الأفريقي». أما السوق الأوروبية فهي باتت في نظر الكثيرين خارج الحسابات السورية لأسباب اقتصادية بحتة، فهي من جانب لم تعد مضمونة للصناعيين والمنتجين الراغبين بشراء أي تجهيزات إذ مع أي قرار أميركي تصبح آلاتهم الأوروبية بلا صيانة أو قطع تبديل، فكيف الحال مع توفر البديل الأرخص في الصين مثلاً. ومن جانب آخر فإن بيانات التجارة الخارجية لعام 2019 تظهر الاعتماد المتزايد لسوريا على دول «الشرق» في تأمين احتياجاتها مقابل تراجع واضح للدول الأوروبية في قائمة الدول المورّدة إلى سوريا، وهي التي كانت قبل عام 2011 تمثل الشريك التجاري الأول.، إذ من بين أهم عشرين دولة منشأ استورد منها القطاع الخاص السوري في العام الماضي، كان هناك فقط ست دول أوروبية أبرزها ألمانيا التي احتلت المرتبة الثامنة بقيمة واردات إلى سوريا بلغت حوالى 95.7 مليون يورو، فإيطاليا في المرتبة الثانية عشرة بقيمة واردات قدرها 67.6 مليون يورو، ثم رومانيا في المرتبة الخامسة عشرة بحوالى 54.3 مليون يورو.

تماهى المشرّعون الأميركيون مع سياسة إدارة ترامب لمعاقبة سوريا وحلفائها (أ ف ب )
تماهى المشرّعون الأميركيون مع سياسة إدارة ترامب لمعاقبة سوريا وحلفائها (أ ف ب )



القانون سلاح إعلامي وسياسي واقتصادي في آن معاً (أرشيف)
القانون سلاح إعلامي وسياسي واقتصادي في آن معاً (أرشيف)


تعليقات: