عنف الشريك: أوهام عن الحب واللذة وعوامل الخضوع


مع تجربة الحجر المنزلي العالمية تفاقمت حالات عنف الشريك ضد النساء. ومهما انتصرت الإنسانية على أوبئة قوية، فإن بقاء العنف ضد المرأة هو خسارة للحضارة الإنسانية كاملة

هذا العنف هو نتاج الثقافة، والقواعد والقوانين السائدة، وبالتالي هو دلالة دامغة على الفشل على مستوى التاريخ والسلوك الإنساني برمته.

هذا العنف صدم العالم مجدداً لجهة بروزه كواحدة من الظواهر التي رافقت الحجز المنزلي بسبب انتشار وباء “كورونا”. تبين أن العنف ضد النساء وباء لا يقل خطورة عن الفايروس، وهو ينتشر في كل العالم سواء في دول تعتبر متقدمة نسبياً حقوقياً أو قانونياً، او دول لا تزال تميز بشكل كبير ضد النساء.

يمكن التعرف إلى شهادات المعنفات من خلال التقارير الصادرة عن المنظمات المختصة، أو عند التبليغ من محاضر الشرطة. هذه الشهادات قد تبدو عادية، حتى يكتشف متتبعها تقاطعات تماثل وتشابه بين الشركاء الذين يعيشون تجربة العنف. فمثلاً، ثبت بشكل حتمي أن العنف يبدأ لفظياً، على شكل شتيمة أو تهديد ومع الوقت يتطور ليصبح أكثر عنفاً وخطورة. تقول سيلدا هير عن تجربتها مع عنف شريكها: “لم يعد العنف اللفظي يكفيه، كان يرغب في أن يتأكد من امتلاكه إياي، في هذه الفترة بدأ يحمل الأشياء التي تساعده على التحطيم في المنزل، ثم بدأت توجه إليّ”. آخر هجوم على سيلدا هير من زوجها المزارع كان بفأس حديدي لتقطيع الشجر.

وعلى رغم أن المعنفات غالباً ما يتأخرن طويلاً للإخبار عما يتعرضن له، لكن احتمالاً كبيراً أن هذا العنف يبدأ تحديداً مع أشهر الارتباط الأولى. تقول إيفا بلان: “في أحد الأيام الأولى، كنا نجلس إلى مائدة الطعام، حين سقطت شوكة على الأرض، وحين حاولت التقاطها، انطلق يصرخ علي: أنت جاهلة، أنت لا شيء، مهنتك لا تساوي شيئاً”. كأن عملية التحطيم تبدأ من إشعارها بأنها غير مؤهلة لممارسة طقوس المائدة، وصولاً إلى تسخيف ما تفعل. إن الغاية واضحة وهي افتعال المشكلة لرسم حدود الآخر وإنهاء كيانه ووجوده. لم تخبر إيفا عن العنف الممارس عليها إلا حين خافت على جنينها الذي أتى بعد سنوات.

أيضاً شهادة إيفا بلان تعلمنا بجوانب أخرى: “الضرب مؤلم في البداية، من ثم يصبح الأمر عادياً. لقد أصبحت قادرة على تسخيف الأمر كلما وقع، بالقول مثلاً: “لم يكن يقصد، خرج عن طوره…” يجب الانتباه إلى أن هذه التبريرات الداخلية تفسح الطريق لاستمرار العنف.

تعيش الكثير من الزوجات المعنفات هذه الإرادة الوهمية أي أن العنف بحدود الضرب او اللفظ أمر عادي يمكن التعايش معه، لكن الواقع يقول إن الضرب والإيذاء جريمة، ولا يمكن تغيير تصرفات الجاني إن لم يلق العقاب، كما أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم في حال وجود العنف.

هناك مؤشر يشير إليه باحثون لكن المعطيات غير كافية عنه، وهو التسيد في العلاقة الجنسية، ربما يكون العنف متجسداً في العلاقة الجنسية قبل وقوعه جسدياً. لكن من النادر أن تتطرق المعنفات في شهاداتهن إلى الجانب الجنسي في علاقتهن مع الشريك. في أكثر من شهادة ترد قناعة عند معنفات أن ليس هناك اغتصاب جنسي بين الأزواج، ما يعني وجود ممارسات جنسية قائمة على السيطرة والإرغام لكن الثقافة السائدة لا تعترف بالاغتصاب الزوجي.

تنقصنا الإحصاءات لكن بالتأكيد، نسبة الرجال الذين يعتقدون أن المرأة تفضل الجنس العنيف هي النسبة الأكبر. لكن من أين تتشكل هذه القناعة؟ هل تتأتى من معطيات بيولوجية مثلاً؟ جسدية؟ أم أنها قراءة ثقافية للعملية الجنسية؟

التأديب والإمتاع الجنسي

تجد النساء أنفسهن مطوقات بتبريرات ثقافية تربط بين العنف والجنس حتى بات بعضهن يعتقد أن لذة الجنس ترتبط بالضرورة بالاكراه وبالضرب. يمكن بسهولة مثلا رصد كاميرا جوالة وميكروفون في شوارع بيروت تسمح بالتحدث إلى الرجال في الشارع: “هل تعتقد أن المرأة بحاجة إلى تأديب ولو مرة واحدة في الزواج؟”، الجواب الأكثر تواتراً: “هي ضرورة لا بد منها”. الغالبية لا تقر باستمرارية العنف، لكن القناعة الراسخة أن هناك حاجة لمرة واحدة من العنف أو مرتين. إن المرأة كائن خاضع للغريزة وللجسد ولا بد من التأديب لرسم الحدود.

سترتفع النسبة بطريقة كثيفة لو كان السؤال: “هل تعتقد أن المرأة تفضل الجنس العنيف؟”. تنقصنا الإحصاءات لكن بالتأكيد، نسبة الرجال الذين يعتقدون أن المرأة تفضل الجنس العنيف هي النسبة الأكبر. لكن من أين تتشكل هذه القناعة؟ هل تتأتى من معطيات بيولوجية مثلاً؟ جسدية؟ أم أنها قراءة ثقافية للعملية الجنسية؟

تترافق السادية والمازوشية في علم النفس. فأي ميل للسادية يتقبل أيضاً رغبة بالمازوشية. يمكن تبادل الأدوار بين الشريكين بين السادية والمازوشية. لكن حين تتكرس دوماً إرداة أحدهما وخضوع الآخر يتحول الوصف إلى Submission، وهو وصف يعني الخضوع، الخنوع، الإذعان. الخضوع خيار ذهني ونفسي واعٍ. الطاعة هي واحدة من أكثر السيناريوات انتشاراً في الأفلام الإباحية. لا يمكن إحصاء عدد الشركات التي تحمل هذا العنوان في شعارها وإنتاجها، وتغلب الذكورة في التسلط والإناث في الخضوع والتبعية.

الخضوع والطاعة لإرضاء الحبيب

يعج تاريخ الأدب، ومن بعده السينما الإباحية بالقصص التي تروي فانتازمات شهوية تتعلق بالتسلط والطاعة. وتعتبر رواية “قصة السيدة واو”، ومن بعدها الفيلم السينمائي المستوحى منها نموذجاً مثالياً لهذا النوع. إضافة إلى أن السوية الفنية لكل من الرواية والفيلم عالية. صدرت هذه الرواية في خمسينات القرن الماضي باسم مستعار، وبعد 40 عاماً اعترفت “آنا ديسغلوه” بأنها الكاتبة الحقيقية، وأنها كتبت الرواية على شكل رسائل فانتازمات جنسية إلى حبيبها لتمنحه المتعة.

“قصة السيدة واو” هي الانتقال من تجربة خضوع وطاعة إلى أخرى وفقاً لأومار الحبيب الذي يتمنع عنها، بينما يطلب منها ممارسة الجنس مع غيره من النساء والشبان، والعاملين في القصر الريفي وحتى رجال متقدمين في العمر. السيدة واو تخضع لكل ذلك، لكنها لا تظهر المتعة، بل الصبر فقط. يبقى الفضول على السبب الذي دفعها للموافقة على ذلك، وهذا ما تجيب عنه في نهاية القصة: “على المحب أن ينفذ كل ما يمتع حبيبه، إن الحب هو تحقيق كل رغبات الحبيب”، وربما تبدو هذه العبارة تقليدية وآتية من منطق الروايات العاطفية، لكنها حين يتعلق الأمر بالطاعة، فهي تبرر التسلط الممارس من أحد الطرفين على الآخر. إذاً، يمكن إرضاءً للحبيب تقبل هذا التسلط، تحت اسم الحب.

تبين أن العنف ضد النساء وباء لا يقل خطورة عن الفايروس، وهو ينتشر في كل العالم سواء في دول تعتبر متقدمة نسبياً حقوقياً أو قانونياً، او دول لا تزال تميز بشكل كبير ضد النساء.

إحصاءات وأرقام

تقول الطبيبة المختصة آني شوي من مستشفى كريتل الفرنسي الحكومي إنه من الخاطئ الاعتقاد بأن العنف الزوجي محصور بالفئات المهمشة: “هناك طبيبات ومحاميات يتعرضن للعنف، وهناك نساء في مناصب إدارية وسياسية، يعاملن في المنزل كما الخرقة”. العنف بين الشريكين موجود في مختلف الطبقات الاقتصادية والمهنية. وبيّن موقع reliefweb التابع لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن الدول العربية تحقق أعلى النسب في تفشي العنف الزوجي، فامرأة واحدة من كلّ 4 نساء في مصر تتعرض للعنف الزوجي، وفق التقرير الأخير للمركز المصري لحقوق المرأة. 55 في المئة من النساء في العراق لا يعتبرن الضرب الواقع من الزوج على الزوجة في تصنيف العنف. وتشير إحصاءات إلى أنّ 6 من كلّ 10 نساء معنّفات، لا يخبرن أي جهة بأنهنّ معنفات، فيما الجزء الآخر يتحدّث عن الأمر للعائلة والأصدقاء وليس للجهات القضائية المعنية. ربما السبب لعدم الإيمان بالجهات المسؤولية، فيبين التقرير أن 99 في المئة من القضايا التي ترفع في ليبيا بسبب العنف الأسري تسحب من المحكمة في النهاية من دون قرار إدانة.

هذا ما يدفع إلى تأكيد، أن مواجهة ظاهرة العنف الزوجي تتطلب نظاماً رقابياً واعياً على حساسية التعامل مع هذه الظاهرة، بدءاً من مستقبلي الاتصالات الساخنة للإنقاذ السريع، ومن ثم إلى رجال الشرطة، وصولاً إلى الجهاز القضائي. تؤكد الأرقام غالباً أن رجال الشرطة في العالم العربي ينحازون للرجل، وإن لم يكن، فهم ميالون إلى “إعادة المياه إلى مجاريها بين الشريكين، فما يحدث بين الزوجين لا علاقة حتى للدولة به”.

يصور تقرير وثائقي مشهد تدخل عناصر الشرطة في كيبيك. تصل الشرطة في لحظة تعنيف تدمي وجه الزوجة بالكامل، وعلى رغم ذلك نجد الزوجة تسعى إلى تخليص زوجها من الاعتقال. بينما يصرخ الزوج عليها لتتدخل. في 20 في المئة من حالات تدخل الشرطة، نجد أن ضحية التعنيف تشفق على زوجها وتدفع الشرطة إلى الخارج. وهذا يعيدنا إلى السلوكيات التي تتكرر في العنف الزوجي.

تبدو خصوصية العنف الزوجي في أن الطرفين على علاقة عاطفية لا صدامية، لذلك غالباً ما تقف الضحية إلى جانب زوجها في لحظة الاعتقال. تؤكد شهادات المعنفات أن حالة من الحنان وطلب السماح تلحق مباشرة بذروة العنف، وهي تقنية مؤثرة حين نأخذ في الإعتبار أن الطرفين شريكان. فالغلبة في إصلاح الأمور هي أمل مستمر. إنها الأمل ببداية جديدة، لكن على الطرف المعنف الانتباه إلى أن دورة السلوكيات ستتكرر باستمرار إن لم يُعاقب المجرم.

العنف ووهم العاطفة الشديدة

عند ظهوره عام 2014، حصد فيلم “خضوع إيما ماكس” معظم جوائز مهرجانات سينما للبالغين، من أفضل فيلم إلى أفضل إخراج والأهم أفضل سيناريو. الشابة إيما لا تجد في العلاقات العادية من حولها، مثل علاقة أختها بحبيبها وخطيبها، ما يرضيها، إنها ترغب في تجاوز الحدود نحو المغامرة. وحين تعثر على عمل جديد تبدأ علاقة جنسية إذعانية مع رب عملها. تبنى العلاقة الجنسية بينهما على التسلط والاستسلام بينها وبين رب العمل. إن القسوة الجنسية المبنية على رضا الطرفين لا تؤذي بمقدار صفعة واحدة غير متفق عليها. لذلك فإن رب عملها يربطها ويعاقبها. ما يهمنا كما في المثال السابق، الدوافع والمبررات التي تقدمها إيما لبلوغ هذا القعر من الخضوع. فتقول في نهاية الفيلم: “يعتقد البعض أن الرومانسية هي باقة زهور وزجاجة شمبانيا، لكن الرومانسية بالنسبة إلي هي تكريس الذات لأجل الحبيب. لست راضية بما حدده المجتمع باعتباره علاقة سوية، أرغب في التجريب لاكتشاف ما هي العلاقة السوية بالنسبة إلي”.

تخبرنا مئات القصص عن شابات تعلقن بالرجال الأكثر جرأة على التعنيف والتسلط في العلاقة الجنسية، ويعتبر ذلك في إطار اكتشاف المرأة رغباتها الجنسية عبر هذه التجارب. رغبة التجريب والاكتشاف تتحول إلى سلوكيات من إلغاء الذات في حالة مثل “خضوع إيما ماكس”. من الضرورة التذكير أن هذه الأفلام تخييل وفن ولا يمكن اعتبارها عنفية، بل فنية، لكنها تساعد على تحليل الميول الإنسانية.

اعترافات معنف تائب

يقدم لنا فيلم “الهيمنة الذكورية” لمدة 15 دقيقة، شهادة نادرة وخاصة، لرجل كندي يعرف عن نفسه بالمعنف سابقاً. نستمع إلى دينيس بيغولد بدقة لنتعرف كيف عاش التحول: “حين كنت أختلف مع شريكتي السابقة كنت ألجأ إلى العنف. ألجأ إلى تعذيب الآخر. كيف كان لها أن تتحمل كل ذلك. لم أنتبه لأفعالي سابقاً، أحدهم قدم لي العون، وفجأة بانت أفعالي أمامي بكل العنف الذي استعملته”. يؤكد دينيس بيغولد أن تشكل وعيه بفداحة أفعاله، ترافق مع انقباض جسدي ضاغط، بقي يتألم عند المعدة طيلة الفترة الأولى. يتابع: “أنا رجل معنف، الاعتراف بذلك يريحني”.

“إنها هي حواء، التي أغرت آدم بأكل التفاحة” هكذا يبين دينيس مبررات عنفه السابق، “إلا أن اكتشفت أنها ليست هي الخطيئة، بل أنا من يفتعل العنف”. اليوم هو وحيد، لكنه يستقبل أصدقاءه من الرجال الذي يحاولون التحدث إليه عن ممارساتهم العنفية، وتزوه أيضاً النساء للتعرف إلى تجربته، فينصح: “علينا أولاً الاعتراف بأننا معنفون، وهي الخطوة الأولى والأساسية لتغيير الحال”.

التعذيب والازدراء كنوع متخيل من الحب

لا داعي للتذكير بمقدار التمييز الذي تتعرض له المرأة في الثقافة والإنتاج الفني العربي. ويكاد يصعب العثور على شارة مقدمة لمسلسل عربي لا تحتوي على مشاهد عنف تجاه امرأة. لكن كارثة العالم العربي لا تتوقف عند الفن والثقافة، بل تمتد إلى القوانين والتشريعات، فما زالت القوانين في العالم العربي تمييزية، تخفف العقوبات الجنائية التي يرتكبها الرجال بحق النساء. قوانين تجعل من محاولتنا للبحث عن العنف بين الجنسين في الثقافة هباءً منثوراً. فالتغيير في العالم العربي يتطلب عملاً جباراً على مستويات التشريعات، التغيير الثقافي، وزيادة أعداد الحالات المشابهة لدينيس التائب.

وهنا، لا يمكن التغاضي عن تأثير كلمات الأغاني العاطفية العربية: “قطعني حتت ورميني للقطط، أو اقتلني من الشريان إلى الشريان”، وكلمات أكثر عنفية في التعبير عن الحب. في أغنية “مايا دياب” التي تحمل عنواناً نرجسياً هو “أنا”، لكن المضمون لا يفضي إلى احترام الذات. بل بالعكس، الفيديو كليب عبارة عن لعبة أتاري، مصممة لبطلتها المغنية مايا دياب، تنتقل بين المراحل، تقفز بين الحواجز، وتجمع القلوب على شاكلة لعبة ماريو الشهيرة. والنهاية هي الوصول إلى قفص حديدي يجمعها بالعريس أو الحبيب. إن غاية أي امرأة وأكبر جائزة لها هي الوقوع في قفص الحب مع العريس الرجل أو الحبيب. أما الكلمات فهي تجسد تماماً علاقات التسلط والاستسلام:

“بيعذبني وأنا بهواه،

بيدوبني ما فيي بلاه وبيقهرني ولا على بالو،

وبيحكيني حكي قاسي بعدا بيعمل حالو ناسي،

عم يقتلني ولا على بالو”.

إنها علاقة مثالية للمستمتع بالتعذيب، يبدأ الشطر الأول بالعذاب والهوى، لينتهي بالقتل. وإيراد هذه الأغنية هو للدلالة على انتشار هائل في ثقافتنا لأغاني تمجد هذا النوع من العلاقات، ومن العواطف بربط الحب بالعذاب وبالاهانة والقتل، وليس بالمتعة، وبالألم بدلاً من البهجة، ليجعل من العنف أخيراً جزءاً من العواصف العاطفية للعلاقة العشقية بين الشريكين.

* علاء رشيدي - كاتب سوري

* المصدر: daraj.com


تعليقات: