استقالة ألان بيفاني: تآمر وتواطؤ.. وصمت!


في انتظار الخراب الكبير

...

على حسان دياب أن يقلق. لقد خرج رجلان من مكتبه طوعاً أو غصباً أو دفعاً. لكنهما خرجا محبطين من العجز. عندما يخرج أحمد جشي وألان بيفاني من الفريق، فهذا سبب كاف للقلق!

على حزب الله أن يقلق أيضاً. لقد تعب إصلاحيون حقيقيون من المناورة والمراوغة السائدة في مكاتب القرار. عندما ينتصر رياض سلامة على أحمد جشي وألان بيفاني، فهذا سبب كبير للقلق أيضاً!

على ميشال عون أن يعيد النظر في حساباته الاجمالية. عندما يفقد موظفون من فئة المثابرين غير الفاسدين ثقتهم بالدولة، فهذا جرس إنذار كبير له، بأنّ ما يقوم به فريقه في الحكومة ومجلس النواب بات مدعاة للقلق أيضاً!

أما البقية، كل البقية، فلها أن تفرح وترفع الكؤوس احتفالاً بالضحايا الجدد لمسيرتهم الحافلة بكل أنواع الجرائم. ولهؤلاء، الذين يتوزّعون المقاعد الوزارية والنيابية والسياسية والحزبية والاقتصادية والمصرفية والاعلامية، أن يفرحوا، لكن ليحفظوا هذا التاريخ جيداً، حيث لا شكل لانتصارهم سوى مشاهد الخراب والدمار والدماء والدموع!

يحصل كل ذلك، فيما تريد محاكم التفتيش التي أقامها زعران الطغمة الحاكمة النيل من قاض لأنه قرّر الاجتهاد ضد معلمهم الأكبر. يحصل ذلك، ومجلس القضاء الاعلى الذي كرّس مخالفة الدستور باعتماد التوزيع الطائفي والمذهبي للمواقع القضائية، يتفرج على الجمود في عمله، بينما يهتم بمساءلة محمد مازح لأنه قال بأنه يمكن مساءلة سفيرة الارهاب في لبنان. ويحصل ذلك، بينما يصمت أعضاء نادي القضاة الذين «هلكونا» بالشفافية والحصانة والنزاهة، وها هم يصمتون وكأنهم بلعوا ألسنتهم.

هذا هو مشهد لبنان اليوم. مشهد فريق المجرمين والسارقين يريد العودة للاستيلاء على كل شيء في البلاد. في الدولة ومؤسساتها، وفي القطاع الخاص وودائع الناس وخيراتهم. مشهد القتلة الذين يبكون على التعب والقهر، وكأنهم كانوا سجناء مقهورين، ولم يحكموا البلاد والعباد منذ 45 سنة من دون توقف، ولم يرموا بأجيال من اللبنانيين في نار الحروب أو تهلكة الهجرة.

ماذا حصل؟

يوم تألفت حكومة الرئيس حسان دياب، كان واضحاً أن مهمة التصدي للأزمة المالية والنقدية هي في رأس الأولويات. ظهرت فرصة جدية، مستندة الى مزاج البلاد الذي قام بعد انتفاضة 17 تشرين، للقيام بعمل علمي وجدي وصحي. وكان على رئيس الحكومة الجديد إظهار جديته، ليس فقط من خلال فتح باب العمل من دون توقف، بل في اللجوء الى أصحاب خبرات ومعرفة ودور وتجربة لوضع خطة الحكومة. وكان الفريق المعني من داخل الإدارة يملك ما يكفي من المعطيات والخبرات، وعلى رأس هؤلاء وقف ألان بيفاني. وقد منحه رئيس الحكومة، بعد رئيس الجمهورية، الثقة لتولّي مهمة مركزية، تقوم أساساً على مبدأ «الجردة» التي تتيح تحديد الخسائر قبل الذهاب الى طريقة توزيعها بصورة عادلة على جميع اللبنانيين، أو الشروع في خطة إنقاذ ولو طويلة الأمد. وقد عمل بيفاني مع عدد من الموظفين على إعداد الارقام الضرورية لمناقشة أي توجه وأي قرار.

خطة الحكومة التي لعب بيفاني دوراً كبيراً فيها قالت بوجوب تحديد الخسائر بصورة دقيقة بعيداً عن مناورات رياض سلامة

لنتجاوز مرحلة من العمل خلال أسابيع طويلة، الى حين الوصول الى أساس لخطة تسمح للحكومة بالتوجه صوب من يساعد على تجاوز الأزمة. هنا وقع الخلاف. ليس بين القوى المتنافسة فقط، بل داخل الفريق العامل الى جانب رئيس الحكومة. ربما لم يكن أحمد جشي موافقاً تماماً على ما يقوم به الفريق الذي يقوده ألان بيفاني. لكنّ الرجلين اتفقا على مبدأ أساسي، وهو تحديد واضح ودقيق لهوية المسؤولين عن الجريمة، وأن هؤلاء يجب أن يتحملوا ما عليهم في هذه المرحلة. واتفقا، أيضاً، على ضرورة وضع إطار يفرض المحاسبة على كل من تورط في هدر أو سرقة المال العام. وإذا كان الخلاف بين الفريق الحكومي حول طريقة التعامل مع الآخرين، من خصوم أو حلفاء، فإن الفكرة عادت لتتوقف عند من بيده القرار.

في هذه اللحظة، كانت الحكومة تمضي قدماً في خطتها المالية. وقرار التفاوض مع صندوق النقد الدولي انطلق بحسب رأي تبنّاه بيفاني، بخلاف آخرين، يقوم على أن العصابة التي سرقت البلاد قوية الى درجة تحتاج المعركة معها الى أدوات كبيرة وقوية. وإذا كان متعذراً الرهان على قوى داخلية تقوم بالأمر، فإن لبنان سيكون عليه الاختيار بين السيّئ والأسوأ. السيّئ هو اللجوء الى منظمة دولية مثل صندوق النقد، والأسوأ هو الانهيار التام. وكانت الفكرة تأخذ في الاعتبار أن صندوق الوقت يملك شرعية ما، ونفوذاً عالمياً كبيراً، وتقف خلفه جهات قادرة، ما يسمح باستخدامه كعصا غليظة في وجه العصابة، حتى ولو كانت كلفته باهظة على عموم الناس. لكن فكرة بيفاني، ومعه بعض الفريق الحكومي، تقوم على فكرة أن لصوص لبنان يخشون بقوة القوة القاهرة الدولية، وأن مجرد طرح استعادة الأموال المهربة أو المنهوبة، وطلب مساعدة الخارج لتحقيقها، سيدفعان بالعصابة الى التصرف بطريقة مختلفة. وهو ما حصل فعلياً، عندما بدأ البحث مع صندوق النقد، مباشرة أو من خلال شركة لازارد الفرنسية. لكن الأساس في النقاش كان يقوم على فكرة أن لبنان يملك بين يديه المعطيات والأرقام الكافية لوضع خارطة الطريق.

عند هذه النقطة، كان ألان بيفاني يقاوم كل الضغوط. كان يعمل من دون مراعاة أحد في إعداد الجداول والأرقام وجردة المعطيات المالية، من أجل أن تكون أساس تصور لبنان الرسمي. وهو أمر جرى تثبيته في الحكومة، رغم كل المعاندة والضغوط التي قامت من جانب العصابة نفسها. لكن الخطوة لم تكن لتكون كافية من دون إجراءات إضافية تتطلب الإعلان عن بدء المواجهة الفعلية مع العصابة.

هنا، حصل ما كان متوقعاً. انتظمت صفوف العصابة بكل زعاماتها ومجموعاتها ورجالاتها. تقرر أولاً، أنه يجب خوص معركة عدم المس بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ليس إعجاباً بعجائبه فقط، بل خشية أن يكشفهم واحداً واحداً واسماً وسلالات أيضاً. ولكون الرجل طمأن العصابة إلى أنه لن يغير في نفسه، وسيحفظ لهم كل امتيازاتهم، ولو اضطرهم الامر الى إفقار الشعب اللبناني كله، وتجريده من كل قرش يحمله.

لكن حماية الحاكم تتطلب معركة متنوعة، بينها ما هو داخل الحكومة، حيث حصل الانقلاب الاول في موقف رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. خضع الرجلان لضغوط المافيا المتنفذة في جمعية المصارف بزعامة سليم صفير. صار الأخير ضيفاً دائماً على بعبدا واللقلوق، يحذر من سياسات فريق دياب. ويشير بالاسم دوماً الى ألان بيفاني، طالباً من عون وباسيل وضع حد له. وصفير، ليس ذكياً كفاية ليخفي مهمته. كان دائم الصراحة بالإشارة الى أن بقاء سلامة «حاجة وطنية كبرى». وهو جنّد معه كل رجال المال والأعمال الذين تقرّبوا من عون وباسيل بعد انتخاب الجنرال رئيساً للجمهورية. وبعضهم صار يحك على جلد الطائفية والمذهبية والخشية من نية المسلمين السيطرة على القطاع المالي وإمساك لبنان بكل مفاصله. وللأسف، كان لهذا الكلام صداه عند فريق الرئيس. وسرعان ما لاقى هؤلاء حماسة الفريق الآخر، الذي يجمع الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري ومعهما وليد جنبلاط وحشد كبير من متنفذي الحكم بكل ألوانه الطائفية والمذهبية، يتقدمهم حديثو النعمة في الإدارة العامة والاسواق وعالم رجال الاعمال. وقرر هؤلاء جميعاً أنه يجب إدخال تعديل جوهري على خطة الحكومة. وهذا ما حصل.

خطة الحكومة التي لعب بيفاني دوراً كبيراً في وضعها، قالت بوجوب تحديد الخسائر التي أصابت القطاع المصرفي ومصرف لبنان من جرّاء الأزمة بصورة دقيقة ومباشرة لا تحتمل المناورات التي اشتهر بها سلامة. وهي تحتاج إلى علاجات تتطلب إعادة النظر جذرياً، ليس في بنية القطاع المصرفي فقط، بل في كل موازناته وموجوداته، والتعامل بطريقة مختلفة مع مصير الودائع، والسير قدماً في خطة إنقاذ لا تجبر الدولة على بيع أصولها التي تستعد العصابة لسرقتها من جديد. لكن هذه الخطة وجدت من يواجهها. ولأن الفريق الآخر كان يحتاج الى أكثر من عرقلة العمل داخل الحكومة، كانت الحيلة باللجوء الى المجلس النيابي.

كان ألان بيفاني يقاوم كل الضغوط ويعمل من دون مراعاة أحد في إعداد الجداول والأرقام وجردة المعطيات المالية

في مجلس النواب، عاد إبراهيم كنعان الى أصوله الطبقية التي تجعله واحداً من شلة تنظر الى الاقتصاد اللبناني باعتباره أعجوبة الله الجديدة. وجد كنعان الى جانبه في لجنة المال كل الأطياف التي تشاركه همّ المواجهة مع خطة الحكومة: قوى سياسية ورجال مال وأعمال ومناسبة لاستدعاء جمعية المصارف الى الطاولة بعدما تم إبعادهم – وهذا أمر ضروري – عن طاولة البحث في الحكومة. وخلال أسبوعين لا أكثر، أنجزت لجنة المال توليفة قانونية وتشريعية ورقمية، تعيد خلط الأمور، وترمي بالخسائر على ظهر الدولة وتعفي اللصوص من مسؤوليتهم عن الكارثة.

لم تكتف لجنة المال بما فعلته، بل ذهبت لتلعب دور الحكومة، فجالت وصالت على المرجعيات والقوى السياسية. وكان لها من ينتظرها على شاشات التلفزيون والمنصات الإعلامية، ثم قررت أن تحل محل الحكومة بأن تحاور هي ممثلي صندوق النقد الدولي، وآخرين من الجهات الخارجية. وخلاصة قولها: ممنوع تحميل الأثرياء واللصوص مسؤولية الانهيار، ويجب رمي الكلفة على الناس من خلال تحميل الدولة المسؤولية. عند هذا الحد، كان بيفاني يتلقّى الضربة الأقسى، ليس من خصوم يعرفهم واحداً واحداً، بل من حلفاء مفترضين أو راعين له. وعندما وافق جبران باسيل من خلال إبراهيم كنعان على تغطية اللصوص، حصل التواطؤ الذي يجعل المتآمر قليل القلق إزاء المرحلة المقبلة. لكن اللصوص والمتآمرين، كما المتواطئين، كانوا يراهنون على عدة أمور أبرزها:

أولاً: ان المعارضة الشعبية ضعيفة جداً، وأن انتفاضة 17 تشرين انتهت على شكل وقفات غضب لا تخيف أحداً، وأن التوتر السياسي والطائفي والأمني في البلاد سيحول دون قيام حركة شعبية كبيرة.

ثانياً: ان حزب الله، وهو الجهة الأكثر قدرة على قلب الطاولة، قرر الصمت أو عدم الدخول في هذه المواجهة. واستند المجرمون الى خشية الحزب من الانهيار وسعيه لعدم منح الأميركيين هدية التورط في مواجهة شاملة، لأجل المضي قدماً في خطة القضاء على خطة الحكومة رغم كل عيوبها.

ثالثاً: ان المواجهة القائمة في المنطقة والعالم ستسمح لهذه العصابة بتغطية جريمتها المالية والنقدية إن أظهر أعضاؤها حسن النية للسيد الأميركي. وهو ما يحصل من دون توقف، منذ إطلاق سراح العميل عامر الفاخوري وصولاً الى حفلة التضامن مع سفيرة السيرك العالمي.

عملياً، أتت استقالة ألان بيفاني، أمس، لتطرق باب رئيس الحكومة ومعه عدد من الوزراء المفترض بهم أن يشعروا بالموسى تقترب من ذقونهم من جرّاء ما حصل. وإذا لم تبادر الحكومة الى ردّ قوي على ما حصل، فلن نكون في حيرة إن وجدناها جثة مضرجة بدمائها على درج مجلس النواب، بينما يحمل أركان العصابة سعد الحريري على أكتافهم في مسيرة ابتهاج تعيده الى السراي الكبير.


استقالة ألان بيفاني: نهاية انتفاضة مدير عام

ليا القزي

استقالة ألان بيفاني: نهاية انتفاضة مدير عام

بيفاني: سيتم سحق الطبقة غير الميسورة (مروان بو حيدر)

عشرون عاماً قضاها ألان بيفاني مديراً عاماً لوزارة المال، خُتمت أمس. قدّم استقالته بعد أن وُئِدت خطة الحكومة سياسياً، من دون إيجاد بديل لها. المرحلة المقبلة ستشهد المزيد من الانهيارات الاجتماعية - الاقتصادية، وبيفاني لا يُريد أن يكون داخل المركب فيما هو غير قادر على إنقاذه. استقالة تبدو نذير الأسوأ

«القصّة مش متعلقة بمدير عام»، كما قال ألان بيفاني خلال مؤتمره الصحافي أمس، وكرّرها خلف الكاميرات. المدير العام لوزارة المال قرّر أن يستقيل «لأنني أرفض أن أكون شريكاً أو شاهداً على ما يجري. ففي الظروف القائمة بات المطلوب أكثر من تحيّن الفرص لتحقيق إنجاز ولو ضئيل، وخوض مواجهة هنا وهناك، كما كان الحال في السابق». ولكن بعيداً عن خلفيات قرار بيفاني، أو عن كلّ المُساءلات المشروع أن توجّه له بعد 20 سنة في الإدارة العامة، يبقى الأساس أنّ استقالته لا تُختصر بقفز أحد المسؤولين من المركب، بل هي أقرب إلى تعبير عن واقع لبناني كئيب، تطال تبعاته الشريحة الأكبر من الطبقات الاجتماعية. المعركة، غير المتكافئة أصلاً، تزداد شراسةً مع جبهة النظام الاقتصادي - السياسي القائم.

إخراج بيفاني لنفسه من دائرة القرار يُعدّ انتصاراً لـ«حزب المصرف»، الذي شغّل مرة جديدة وكلاءه من السياسيين، مُتمكّناً من تحويل خطته المالية وأرقامه إلى وثيقة رسمية تصدر عن مجلس النواب. ممثّلو الكتل النيابية في «البرلمان» وقفوا بمواجهة ممثلي الكتل نفسها في الحكومة، حتى باتت «خطة الإصلاح الحكومي» يتيمة. في الخطة الأخيرة هفوات وخطايا عديدة، وملاحظات جمّة حول مقاربة الأزمة، ولا سيّما في الشقّ الاجتماعي، غير أنّ أهميتها كانت تكمن في تحديدها للمرة الأولى خسائر المالية العامة ومصرف لبنان، وتدعو إلى استعادة أموال جنتها الأقلية على حساب الأكثرية، واستعادة مال منهوب ومُهرّب مع الفوائد. وبالتالي، استقالة بيفاني مؤشّر خطير إلى ما ستؤول إليه الأوضاع في البلد. فالشعب سيدفع ثمن الخسائر التي لم يُشارك في تكوينها، والمودعون الذين قامر أصحاب المصارف بأموالهم، سيبقون «عبيداً» لأصحاب المصالح. «نعم، نحن اليوم مُشرفون على مرحلة جديدة من الاستيلاء على أصول اللبنانيين، وسحق الطبقة غير الميسورة، وتحميل فئات الدخل الأدنى والمتوسط الأكلاف الباهظة»، قال بيفاني. كلامه بدا أقرب إلى نعيٍ لخطة الحكومة المالية التي شارك في وضعها، رغم أنّ بعض الوزراء يؤكّدون أنّه لا تراجع عن الأرقام المُعتمدة فيها. اللافت أنّ من تفوّه بهذا الكلام وخاض المعركة أمس، ليس تلميذ المدرسة الماركسية أو أحد اليساريين، بل أستاذ ليبرالي، مؤمن بالنظام الرأسمالي الحرّ، ويوصف بـ«ابن الدولة». حتّى هذا النموذج، نبذته الأوليغارشية اللبنانية، التي تُريد أن يكون البلد «ملكية خاصة» لها.

حين عُينّ مديراً عاماً سنة 2000، في عهد الوزير السابق جورج قرم، أعلن بيفاني «الحاجة إلى تصحيح النموذج الاقتصادي القائم، ومحاربة الفساد». كانت تلك بداية «انتفاضة» أصغر مُدير عام في الدولة (عُيّن قبل أن يبلغ عمره 32 سنة). متخرّج في معهد الدراسات العليا التجاريّة في باريس، رافق 9 وزراء مالية، تميزّت العلاقة مع أغلبيتهم بالنزاع البارد، فكان عرضةً للعديد من الحملات السياسية و«كتم الصوت». نجحت هذه الحملات في تثبيت فكرة لدى قسم من الرأي العام أنّ بيفاني «جزء من التركيبة» وتُحرّكه مصالحه الخاصة، وأنّه في الـ20 سنة الماضية كان شاهداً على كلّ الممارسات من دون أن يُبادر إلى فضحها. توضع رقبة الرجل تحت المقصلة، هو الذي حذّر في الـ2009 (خلال مناسبة في وزارة المال) من أنّ «البلد سينهار إن لم تقم وزارة المال بواجبها».

أبلغ عون ودياب ووزني رفضهم استقالة بيفاني

لم يكن بيفاني صامتاً طوال الوقت، بل قدّم عشرات المذكرات بالخطط الواجب على السلطة التنفيذية اتخاذها حتى نتجنّب مرحلة الانهيار، مُحيلاً العديد من الملفات إلى الهيئات الرقابية والقضائية المعنية. وعمل مع فريق عمله على مجموعة من البرامج والقوانين، ويُعدّ أبرز ملّفين: الإصلاحات الضريبية وإعادة تكوين حسابات الدولة المالية «المفقودة» منذ الـ1993 حتى الـ2017. راهن الجميع على فشله في إتمام المهمة، فاعتُبرت «أهمّ المعارك»، خاصة أنّها ترافقت مع تقرير يوثّق التدخلات في عمل الإدارة «ومنعها من إنجاز مهمّتها في إعادة تكوين الحسابات، أو إجبارها على مسّ هذه الحسابات بطريقة خاطئة، والتلاعب بقيودها لطمسها وإخفاء حقيقتها» (راجع «الأخبار» عدد 7 آذار 2019).

التعدّي على صلاحياته، كان إحدى مشاكل بيفاني داخل الوزارة. «إدارة معطّلة، فوضى وفلتان بالتفصيل، مستشار يتحكّم في كل شيء ويتسلّط على الموظّفين ويدير الوزراء ويلغي قرارات المدير العام، هبات لا تسجّل، سلفات لا تُرد، فريق خاص من خارج الملاك الشرعي يقوم بكلّ الأعمال الحسّاسة من دون أي رقابة ولا يخضع لأي قانون أو نظام»... بعض ممّا قاله بيفاني أمام النواب في جلسة اللجنة النيابية الفرعية، عام 2011، المكلّفة بتقصي الحقائق حول حسابات الدولة المالية. في تلك الفترة، منعت وزيرة المال، ريّا الحسن، بيفاني من المثول أمام اللجنة ثلاث مرات، قبل أن ترضخ.

استمر الرجل في التحذير من منحى الأمور في البلد، فقال خلال ندوة في الجامعة الأميركية - بيروت سنة 2017، إنّ «التبسيط يطغى على النقاش في السياسات الماليّة، ولا تقدّم سوى حلول سطحيّة... ما نحتاج إليه اليوم هو أبعد بكثير من الاكتفاء برفع الجباية وخفض الهدر والفساد».

في الأسابيع الماضية، كان بيفاني أحد الذين سُعّرت الحملة ضدّهم لوضعهم الخطة المالية التي تبنّتها رئاسة الجمهورية والحكومة. ففلسفة الخطة «تكمن في أن يُسهم في إطفاء الخسائر كلّ من استفاد من النظام القائم بشكل غير منطقي». اتُهّم بأنّه يسعى إلى حاكمية مصرف لبنان، وبتهريب ملايين الدولارات إلى الخارج، وحُمّل مسؤولية كلفة سلسلة الرتب والرواتب، علماً بأنّ الأرقام التي قدّمها حينها كانت محصورة بالإداريين، قبل أن يُضم إليها العسكريون والمدرّسون وتُصبح واحدة من أدوات الزبائنية السياسية... كلّ ذلك بقي «مقبولاً»، إلى أن تبيّن لبيفاني انقلاب القوى التي تبنّت الخطة عليها، من دون وجود أي خطة بديلة. أبلغ المسؤولين نيته الاستقالة، فطلبوا منه التراجع، من دون أن يُقدّم له أي أحد ضمانة عن تحسّن الخيارات، فأعلن أمس أنّه «بات من شبه المؤكد أنّ المشروع الذي سيُفرض على اللبنانيين بمرور الوقت هو الذي سيأخذ منهم مرة أخرى قدرتهم الشرائية وقيمة ودائعهم والأملاك العامة التي هي ملكهم وثروتهم»، مُعتبراً أنّ الحملة على الخطة لأنّها «لامست بنية النظام عبر طلب التدقيق الجنائي لاسترداد الأموال المنهوبة، واسترداد الفوائد المرتفعة جداً التي حصلت عليها قلّة من المستفيدين، وتحميل المساهمين في المصارف قسطهم من الخسائر، بحسب القانون ووفقاً لمنطق النظام الليبرالي الحرّ». هذا النظام الذي يقضي «برسملة المؤسسات، ومنها المصارف، عند وقوع الخسائر». مشكلة بيفاني أنّه مؤمن ببرنامج مع صندوق النقد الدولي، من دون أن يبحث في الخيارات الأخرى، رغم كلّ الضرر الذي سيتسبّب فيه. ولكن أصحاب المصالح كانوا أيضاً موافقين على «الصندوق»، قبل أن «يفهموا أنّه مطلوب منهم المساهمة، لأنّ حجم الفجوة كبير جدّاً، فبدأت الحملة على أرقام الخطة».

بعد المؤتمر، تلقّى بيفاني اتصالات من الرئيس ميشال عون، ورئيس الحكومة حسّان دياب، ووزير المال غازي وزني، وأبلغوه رفضهم الاستقالة. أما بالنسبة إليه، فمحسوم أنّه أصبح المدير العام «السابق» لوزارة المال.


استقالة بيفاني في ميزان «معركة توزيع الخسائر»

محمد وهبة

لماذا استقال ألان بيفاني؟ ربما لأنه لم يعد يحتمل تسلّط وزراء المال المتعاقبين عليه وممارسة «التقيّة»، لكن الأكثر ترجيحاً أن استقالته نتيجة استعادة قوى السلطة سيطرتها على ميزان القوى في معركة توزيع خسائر النظام المالي. هو أشرف على إعداد الخطّة التي قدّرت الخسائر بنحو 241 ألف مليار ليرة ورسمت مساراً لتوزيعها لم يتناسب مع مصالح قوى السلطة. كان يظنّ بأن ميزان القوى مائلاً نحو الإصلاح، لكن الانقلاب حصل وخطّة «حزب المصرف» باتت هي السائدة

استقالة المدير العام للمالية العامة ألان بيفاني ليست مجرّد اعتراض أو احتجاج من موظّف على ممارسات ربّ عمله، بل هي تعبير عن اتجاه ميزان القوى في معركة توزيع الخسائر. فالضربات الأولى الناجمة عن خطّة الحكومة التي أشرف على إعدادها بيفاني، لتحديد الخسائر وآلية توزيعها بالحدّ الأدنى من العدالة، أدّت إلى تشتيت أركان «حزب المصرف» بين مؤيّد للانخراط في برنامج مع صندوق النقد الدولي، وبين معارض له بلا بديل واضح. حتى الرأس المدبّر، أي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لم يكن يملك بديلاً واضحاً رغم معارضته الواضحة لخيار الصندوق. فهو في ذلك الوقت، كان (ولا يزال) رمز هذه الخسائر التي قدّرتها الخطّة بنحو 241 ألف مليار ليرة، وكان مشغولاً بمعركة البقاء حاكماً في مصرف لبنان.

الصراع على إطاحة رأس النظام المالي، أي سلامة، تحوّل إلى مادة سجال سياسي ــــ شعبوي يومي ركيزته الأساسية انتقاد الخطّة الحكومية من باب تضمينها اقتطاعاً من الودائع وتحويل جزء من هذا الاقتطاع إلى مساهمات في ملكيات المصارف التي ستنشأ بعد شطب رؤوس أموالها كاملة وإعادة هيكلتها. كان رأي فريق الحكومة أنه لا مفرّ من «الهيركات» (الاقتطاع) على الودائع استناداً إلى الممارسات الدولية التي يؤيدها صندوق النقد الدولي. تفرض هذه الممارسات عدم تمويل الخسائر بواسطة طبع النقود (المال العام).

في المقابل، عمّمت قوى السلطة أن الهيركات يؤدي إلى شطب أموال المغتربين. كذلك روّجت بأن شطب الخسائر عبر شطب الودائع أو تحويلها إلى مساهمات في رساميل المصارف المفلسة، سيؤدي إلى تغيّر جذري في بنية ملكية المصارف من طرف طائفي مهيمن حالياً إلى طرف آخر عرضة للعقوبات.

ما كان يقلقهم في خطّة بيفاني أنه اندفع في اتجاه «كُحْل» صندوق النقد لتجنّب «العمى» الذي تسبّبه قوى السلطة

بمعزل عن الجدل الذي أثارته هذه الفكرة، إلا أنها أتاحت لقوى السلطة إعادة إنتاج جبهة متماسكة بذريعة رفض الهيركات لأنه سيشعل ثورة شعبية. الخديعة التي يصعب تصديقها أن هؤلاء المودعين الأثرياء سيشعلون ثورة!

تزامن هذا الأمر مع مرحلة إقفال وتعبئة عامة بسبب «كورونا»، ما أفسح المجال أمام قوى السلطة، في التقاط أنفاسها. وفي ذلك الوقت، لم تعد التحرّكات الشعبية مقنّعة أو عفوية كما كانت في الفترة الأولى التي تلت 17 تشرين الأول 2019. بل أصبح لها هوية سياسية وطائفية واضحة تسمح بالسيطرة عليها والتعامل معها. وبالتالي لم يعد الخوف قائماً من ثورة شعبية محفّزة بالخوف من المستقبل والقلق من الجوع، بل ستكون إحدى أدوات اللعبة المعتادة ضمن إطار الشعارات السياسية والمشاريع المختلفة التي يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي.

وعلى وقع قفزات ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازية، انبثقت من لجنة المال والموازنة لجنة تقصّي حقائق هدفها الوحيد إعادة احتساب الخسائر. وتحت ستار «الحوار» مع الأطراف المعنية بالخسائر، أعيد إنتاج مفهوم جديد لآلية التوزيع بعيداً من الآليات التي اقترحتها الخطّة الحكومية التي أشرف على إعدادها بيفاني. فاستمعت اللجنة إلى سلامة وجمعية المصارف، وتبنّت رأيهما انطلاقاً من أن تحديد الخسائر يحدّد آلية التوزيع. وعندما لاحت «تباشير» أرقام اللجنة التي تشير إلى أن الخسائر بقيمة 77 ألف مليار ليرة لا 241 ألف مليار. وأن هذا المستوى من الخسائر لن يطيح كل رساميل المصارف البالغة 22 مليار دولار، ولن يؤدي إلى الاقتطاع من الودائع…

في تلك اللحظة، انتهى الصراع. التعبير الأبرز عن هذه النهاية ورد على لسان رئيس مجلس النواب نبيه برّي بعد اجتماع قمّة في قصر بعبدا:

ــــ الاتفاق على مخاطبة صندوق النقد الدولي بلغة واحدة.

ــــ الاتفاق على خفض قيمة الدولار إزاء العملة اللبنانية، وصولاً إلى 3200 ليرة ابتداء من اليوم (12 حزيران).

ــــ عن إقالة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، قال: نحن الآن بحاجة لكل الناس وليس للاستغناء عنهم.

بهذه اللحظة، عاد ميزان القوى ليميل في اتجاه قوى السلطة. حماية المدير التنفيذي، هو أمر تقوم به قوى السلطة بشكل تلقائي، لأن سقوطه يعني سقوطها. والتعبير الأدلّ على اتجاه ميزان القوى، هو تلك المصالح التي جمعت المتصارعين سياسياً: من التيار الوطني الحرّ إلى حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل وتيار المردة وتيار العزم… فهذه القوى وغيرها، هي الممثّلة بلجنة تقصّي الحقائق، وقد أتيح لها فرصة التفاوض مباشرة مع صندوق النقد الدولي في جلسة لم يحضرها إلا ثلاثة نواب: إبراهيم كنعان، ياسين جابر ونقولا نحاس.

ما كان يقلقهم في خطّة بيفاني أنه اندفع في اتجاه «الكُحْل» للحماية من «العمى». فاللجوء إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي، على رغم ارتفاع مخاطر تداعياته الاجتماعية، إلا أنه كان الطريق الوحيد لفرض الإصلاح على قوى السلطة. كان السبيل الوحيد لتجنّب «العمى». وهذه القوى تمارس اليوم بعضاً من سطوتها للقول إن توزيع الخسائر بيدها فقط، وإن مدخله الأساسي مجلس النواب حيث يتوجب لزاماً مرور كل مشاريع القوانين التي تتعلق بالإتفاق مع صندوق النقد الدولي وكل الإصلاحات التي سيقوم بها لبنان.

يدفع مصرف لبنان أكثر من 1100 مليار ليرة شهرياً لتسديد دولارات المودعين

ما كان يحاول بيفاني تجنّبه، يبدو أن حاصلٌ حاصل. ففي الوقت الذي يتفاوض فيه صندوق النقد الدولي مع فريق الحكومة على تحديد الخسائر وآليات توزيعها والإصلاحات وخطط المستقبل للنموّ واستعادة الثقة، يواصل المدير التنفيذي لقوى السلطة تنفيذ الخطّة التي نهاه عنها صندوق النقد الدولي: طبع الليرة لشطب الدولارات التي استدانها من المصارف التي استدانتها بدورها من المودعين. شهرياً، يدفع مصرف لبنان أكثر من 1100 مليار ليرة لتسديد دولارات المودعين في المصارف عبر تعاميم تنظّم السحوبات المقيّدة بضوابط غير نظامية وغير شرعية. تسعيرة كل دولار مودع في المصارف كانت تبلغ 3000 ليرة، لكنها ارتفعت أمس إلى 3850 ليرة. تدريجاً، اقترب سعر الدولار المصرفي من 4000 ليرة في المصارف و8000 ليرة خارجها. بين كانون الثاني 2020 و15 حزيران 2020 ازدادت قيمة الكتلة النقدية قيد التداول بنحو 6726 مليار ليرة. هذه الكتلة ستبقى تتضخّم كلما تمكّن مصرف لبنان من تحرير أموال أكثر من الالتزامات المترتبة عليه بالدولار للمصارف. وهذه الأخيرة ستتمكن من تحرير قسم أكبر من التزاماتها تجاه المودعين بسعر صرف بعيد عن سعر الصرف الفعلي في السوق. إنه «هيركات» مباشر على ودائع الناس، لكن المشكلة فيه أنه يشعل تضخّم الأسعار، ما يعني أنه هيركات على المداخيل أيضاً. كل المقيمين في لبنان سيدفعون ثمناً غالياً لإطفاء الخسائر بهذه الطريقة. قالها صندوق النقد لسلامة في أحد اللقاءات: هذه الطريقة في إطفاء الخسائر سترفع سعر الدولار إلى 10 آلاف ليرة و20 ألف ليرة. بهذه الطريقة، سيصبح الشعب رهينة الجوع، وسيصبح شراء الولاءات أرخص وأسهل. وبهذه الطريقة أيضاً، ستتمكن قوى السلطة من «قشّ» الأملاك العامة بأرخص الأثمان… هذه هي الخطّة التي استقال بيفاني اعتراضاً عليها.


ألان بيفاني: أبرز ما قاله في مؤتمره الصحافيّ

شرح المدير العام لوزارة المال المستقيل ألان بيفاني أسباب استقالته خلال مؤتمر صحافي عقده في نادي الصحافة اليوم. وكان بيفاني، الذي يشغل منصب المدير العام في وزارة المال منذ عام 2000، قد تقدّم باستقالته إلى وزير المال غازي وزني صباح اليوم. في التالي أبرز ما جاء في مؤتمره الصحافي.

ألان بيفاني عن أسباب استقالته

عن أسباب استقالته من منصبه، قال بيفاني: «بعد أن وصلنا إلى طريق مسدود وارتفعت نسبة المخاطر إلى مستوى لم يعد من الممكن التعامل معه بصمت تقدمت باستقالتي طالباً إعفائي من كل المهام الموكلة إليّ، ولقد أقسمت على الالتزام بالعمل وحمل المسؤولية ولا أتبرّأ منها».

وأكد بيفاني أنّ الجهود المبذولة لتفادي التوجّه نحو الخيارات الأسوأ لم تنجح بسبب تكاتف «قوى الظلمة والظلم» التي عملت على «إجهاض ما قمنا به».

واعتبر بيفاني أنّ النظام «بدأ يُظهر أبشع ما لديه، فجاءت الاتهامات الملفّقة أننا حاقدون على القطاع المصرفي وأنّنا غير كفوئين ومزوّرون وفاسدون وستكون للقضاء الكلمة الفصل في هذه الاتهامات الرخيصة».

وحذّر بيفاني اللبنانيين من أنّنا «مشرفون على مرحلة جديدة من الاستيلاء على أصولهم بالمواربة»، ما سيؤدي إلى «نتيجة معروفة مسبقاً وهي سحق الطبقة غير الميسورة وتحميل بعض الفئات الأكلاف الباهظة إضافة إلى تدهور العملة مع غياب أيّ برنامج إصلاحي وتأجيل الحلول».

ألان بيفاني عن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي

رأى بيفاني أنّ «حالة الإنكار والتسويف والحملات التخوينيّة وعدم التنفيذ» أدّت إلى «ضرب المسار»، معتبراً أننا «وصلنا اليوم إلى طرح المسائل التي تُرضي من يستفيد من النظام القائم بشكلٍ يُفقد ​لبنان​ قدرته على التفاوض مع الجهات الدوليّة».

كما اعتبر أنّ الجهات المتحكّمة بالقرار تقوم بكلّ ما يمكن لـ«إفشال مشروع التغيير»، ما «يُفقدنا صدقيّتنا»، مضيفاً أنّ «تسرّع البعض أدّى إلى تحريف الإجراءات لتظهر على غير حقيقتها فاستاء الصندوق واستاء المانحون».

ألان بيفاني عن خطة الحكومة والـ«هيركات الدائم»

اعتبر بيفاني أنّ اللبنانيين يتعرّضون لـ«هيركات» دائم في ظل عدم معرفتنا بحجم الاحتياطي الموجود لدى مصرف لبنان. وقال بيفاني: «ما زلنا لا نعرف ما تبقّى لنا من احتياطي للحفاظ على لقمة عيش الناس وأين الكابيتال كونترول بينما اللبنانيون يتعرّضون لهيركات دائم، والمرتبك وسيّئ النية يشتم ويحوّر ويزوّر الوقائع وغاظهم أن نضع خطة وتشخيصاً حظيا بالتنويه فتمّ اللجوء إلى نكران الوقائع».

ورأى بيفاني أنّ المقاربة التي اعتمدتها خطة الحكومة وضعت تقويماً صحيحاً وتمّ إقرارها بالإجماع وحصلت على ترحيب من المؤسسات المالية بالجدّية اللبنانية في مقاربة الأمور، والسلطة التنفيذية لم تقُم بتفسير مضمون الورقة التي قدّمتها، مؤكداً أن «لا صحّة للمزاعم التي جرى الترويج لها عن أنّ الخطة ترمي إلى الاقتصاص من المودعين».

وتابع: «يجب رفع السرية المصرفية كاملة والتواصل مع كلّ السلطات في البلاد التي يلجأ إليها سارقو المال العام وتحديد الثروات العقارية وتتبّع مصادرها وقيام الدولة بتشكيل لجنة دولية تضمّ دولاً ترتاح إليها المكوّنات اللبنانية كافة تقتطع نسبة مئوية من الجميع من دون البوح بتفاصيلها لتسدّ العجز».


ألان بيفاني يُزعجهم

إيلي الفرزلي

ألان بيفاني على حق. خلاصة يمكن الركون إليها بسهولة عند متابعة الحملة الإعلامية المنظّمة التي استهدفته في الأيام الماضية. بصمات المتضررين من الخطة الحكومية واضحة. هؤلاء هم حزب المصارف، إن كانوا أصحاب مصارف أو سياسيين أو إعلاميين تابعين لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وهم يصرّون على التعامل مع المصارف بوصفها درّة التاج، وإن سرقت تعب الناس ومدّخراتهم.

ليس ذلك دفاعاً عن الخطة أو حتى عن المدير العام للمالية العامة. هو تأكيد أن في الخطة، رغم كل مساوئها، ما يطاول منظومة مصالح ظلت لسنين عصيّة على المسّ. وهذا تحديداً ما ينبغي الدفاع عنه.

لنعد إلى الحملة على بيفاني. هي محصورة بشقّين، شقّ يحمّله مسؤولية الخطة التي طغت عليها «أفكاره التأميمية» و«نقمته على التركيبة الاقتصادية في لبنان» ورغبته في «ضرب امتدادات المصارف خارج لبنان لإقفالها وبيعها». وشق يتّهمه بتهريب أموال إلى الخارج. يقول الخبر إن بيفاني حوّل ملايين الدولارات، ويقول الخبر نفسه إن بيفاني يتذرّع بأن هذه الأموال تعود لزوجته التي باعت حصتها في شركة أدوية لبنانية منذ ثلاث سنوات. في الشق الثاني، عليه هو أن يدافع عن نفسه، وخاصة أن مقرّبين منه يؤكدون أنه يملك من الوثائق ما يثبت بطلان كل ما يطاوله. لكن مع ذلك، ينبغي الإشارة إلى أن من يُدافع ليل نهار عن السرية المصرفية، خرقها بنفسه في مسعاه لضرب صدقية المدير العام للمالية العامة. وهذا يؤكد أن السرية المصرفية لم تعد وسيلة لجذب الاستثمارات بمقدار ما هي أداة لحماية المنظومة المالية والسياسية الحاكمة، وينبغي ضربها في سياق ضرب تلك المنظومة التي أفلست البلد. لذلك، فإن على كل نائب يصرّ على إفراغ مشروع قانون السرية المصرفية من مضمونه أن يعرف أن جريمة حماية السارقين لا تقلّ عن جرم السرقة نفسه.

لكن لنستبق أي رد محتمل ونُعِد تكرار الاتهامات المساقة ضد بيفاني: هو سارق، ويريد تدمير المصارف، وكان السبب في إقرار أرقام خاطئة لسلسلة الرتب والرواتب أدت إلى عجز كبير في الموازنة. إذا صحّت هذه الاتهامات، فلماذا من فتح هذه الملفات اليوم تغاضى عنها طوال الفترة الماضية؟

من أسباب فتح النار على بيفاني طَرحُ اسمه مرشّحاً جدّياً لحاكميّة مصرف لبنان

باختصار، ثمة أمران هما السبب في فتح النار على بيفاني: ترداد اسمه كمرشح جدي لحاكمية مصرف لبنان في حال إقالة سلامة، ودوره الفاعل في إظهار خسائر القطاع المصرفي، وبالتالي، تحميل إدارة القطاع، أولاً، مسؤولية هذه الخسائر. يقول هؤلاء إن الأرقام المعروضة كلها خاطئة، لكن مع ذلك لم يتمكنوا من تقديم أي خطة بديلة. خطة المصارف لم ترقَ إلى أن تكون خطة حتى بشهادة الناطق باسم صندوق النقد. هي مجرّد عناوين وضعت لحماية القطاع المصرفي من تحمّل المسؤولية. كيف لخطة أن تكسب أرقامها صدقية وهي تقول إن من يتحمّل الخسائر هم المودعون والدولة لا رأس المال؟ هكذا ببساطة، خلافاً للمنطق التجاري، ثمة من يريد أن يعفي من فرّط بأموال الناس من أي مسؤولية.

في اجتماع لجنة المال، قدّم بيفاني مداخلة شرح فيها حقيقة الأرقام المعروضة في الخطة. ورداً على حزب المصارف الذي حاول إفراغ هذه الأرقام من مضمونها، دعا إلى انتظار أرقام صندوق النقد، التي على أساسها سيتبين أي الأرقام أصحّ، تلك التي أنجزتها الحكومة في خطتها أم تلك التي يسوّقها مصرف لبنان؟

اللافت هنا أن الناطق باسم صندوق النقد كان واضحاً في إشارته إلى أن الخطة الحكومية تشكّل أساساً صالحاً للانطلاق منه. تلك بدت رسالة في اتجاهين، رسالة إلى الحكومة بأن أرقامها هي أقرب إلى الواقع في تحديدها لخسائر القطاع المصرفي، ورسالة تجاهل لخطة المصارف، التي كانت قد أعلنت في اليوم نفسه.

يبقى دور بيفاني في سلسلة الرواتب. تلك لم ينسها السياسيون بعد. يكفي أن السلسلة المقدمة منه كانت محصورة حينها بالإداريين. ضُمّ إليها العسكريون والأساتذة لاحقاً، قبل أن تخضع أرقامها للتضخيم في مجلس النواب. من بعدها، انهالت التوظيفات السياسية من كل حدب وصوب ضاربة عرض الحائط بقرار منع التوظيف، الذي اتخذه السياسيون أنفسهم.

اعتبر بيفاني أنّ الجهات المتحكّمة بالقرار تقوم بكلّ ما يمكن لـ«إفشال مشروع التغيير» (مروان طحطح)
اعتبر بيفاني أنّ الجهات المتحكّمة بالقرار تقوم بكلّ ما يمكن لـ«إفشال مشروع التغيير» (مروان طحطح)


تعليقات: