هكذا استعدّ أنصار وئام وهّاب للمعركة

في الشويفات
في الشويفات


تزامناً مع بدء تنقّل الإشكالات في الجبل من خلدة إلى عاليه، قرابة الساعة الثامنة من مساء يوم الجمعة، كانت السيارة تنطلق من محيط السفارة الكويتيّة، حيث يسكن الوزير السابق وئام وهّاب في اتجاه بلدته في الشوف، الجاهليّة. وكان السائق القابض على سلاحه بين رجليه، وفي يده جهاز اتصالات لاسلكي ينسّق من خلاله مع ثلاثة «رفاق» يؤمّنون الطريق خوفاً من «حواجز اشتراكيّة طيّارة»، يتصل أيضاً برفاقه في عاليه ليتأكد من تنفيذ التوحيديين (مناصري وهّاب) والحلفاء مطالب «الأستاذ» بالرد بالمثل على استعراضات الاشتراكيين، سواء في رفع الأعلام أو إقامة الحواجز أو التدقيق في الهويّات أو إطلاق النار

من حاجز الجيش في الدامور، يبدأ حبس الأنفاس، فتزيد سرعة السيارة المستأجرة التي تخرق صمت الجبل الشوفي الغارق في ظلمة زادها انقطاع الكهرباء رهبة. ويشرح السائق توزّع مقاتلي جنبلاط على التلال الخضراء، وخصوصاً قبّة الروس، وإشرافهم منها على الساحل، وتحكّمهم بطريق الشوف. ولاحقاً، يأتي سؤال الوزير السابق وئام وهّاب عن تحرك الجيش اللبناني باتجاه المراكز العسكريّة المتحرّكة والثابتة للحزب الاشتراكي على امتداد الشوف ليزيد مهمات السائق، الذي يستفسر عن الموضوع من «الرفاق» الموزّعين في كل بلدات المنطقة، يراقبون عن كثب كل التحرّكات الاشتراكيّة.

ووسط تداخل الأصوات على أجهزة اللاسلكي، ومعظم أصحابها يحملون أسماءً ذات نكهة وهّابيّة، يصل السائق إلى مفرق بلدة الجاهليّة ليتأكد من انتشار الجيش بدل مسلّحي الاشتراكي. ويشير بيده إلى أن بلدة كفرحيم، المطلّة على الجاهليّة، ستفاجئ جنبلاط كثيراً، وستبتلع من أتوا من أعالي الشوف، ليتمركزوا فيها وفي «قبّة الروس»، للانقضاض على بلدة الجاهليّة ومؤيّدي وهّاب في لحظة الصفر.

في بلدة سمار جبيل، البلدة التي هجّر الاشتراكيون أهلها المسيحيين خلال الحرب ولم يعد معظمهم حتى اليوم، يبدو القمر جميلاً، ويسود هدوء تام، على عكس الجاهليّة التي يجتمع معظم رجالها في قصر وهّاب، يضعون اللمسات الأخيرة على خطة قمع الهجوم الاشتراكي، الذي يقول الرجال المقاتلون السابقون في الاشتراكي والشيوعي والقومي، إنّ حصوله صعب لثلاثة أسباب رئيسية:

أوّلها، معرفة جنبلاط بنوعيّة أهل الجاهليّة التي لم يستطع الجيش السوري دخولها، والتي رصّت خط تماس على امتداد 4 كلم (يحتاج 150 مقاتلاً) في مواجهة القوات اللبنانيّة (التي كانت تعتقد بأن سقوط الجاهلية مدخل أساسي لسقوط الشوف). وقد كتب الشاعر شوقي يزيد عدة قصائد عن رجم أهلها بالحجارة والمناجل للإسرائيليين حين مرّوا بها.

ثانيها، الحصار المفروض على جنبلاط في قصره في كليمنصو، وخوفه من ردٍّ موجع لحزب الله في حال تعرّضه لحلفاء الحزب.

ثالثها، والأهم، يقول الناس، عدم تحمّل جنبلاط فتنة درزيّة ــــ درزيّة تستمر مفاعيلها الثأريّة إلى ما بعد بعد عهد ابنه تيمور.

غرفة العمليّات الأساسية للمعارضة في الشوف هي في الطابق السفلي من منزل وهّاب، حيث توجد غرفتان: واحدة يجتمع فيها معظم المقاتلين، وهؤلاء ثلاث فئات: واحدة تضم متقاعدين معظمهم متخصصون في الحراسة والمراقبة الثابتة، وتتألف الثانية من الشبّان الذين يتمترسون في نقاط ثابتة سريّة على طول امتداد الشوف ودون استثناء أية بلدة، ومعظم هؤلاء صغار في السن، لا يتخطى عمرهم الخامسة والعشرين. وتضم الفئة الثالثة مقاتلين تدلّ ملامحهم ورواياتهم واحترامهم بين زملائهم على قوّتهم وتمايزهم القتالي، وغالبيتهم، كما يقولون، تلقّوا تدريبات عسكريّة بإشراف زملاء لهم في المعارضة متخصّصين في القتال.

في وسط هذه الغرفة، ثمّة طاولة للطعام، عليها بعض المعلّبات، وعدة صناديق مشروبات غازيّة. وفي إحدى زواياها عدد من الفرش فوقها بضع بنادق كلاشنيكوف وجعب. وفي الزاوية المقابلة، يوجد تلفاز صغير «لا يلتقط غير بثّ المنار». ويقول بعض الشبان إن وجودهم في هذا المكان مرتبط أساساً بوجود التلفاز، إذ ما من كهرباء في منازلهم ليتمكنوا من متابعة آخر التطورات.

أما الغرفة الثانية، وهي أشبه بغرفة القيادة، فتوجد في إحدى زواياها طاولة يتحلّق حولها شخصان يتابعان عبر الأجهزة اللاسلكية كلّ التفاصيل الميدانيّة والمعلومات، الأمنية وغير الأمنية، عن تحرّكات أنصار جنبلاط في بلداتهم، وحتى داخل منازلهم. ويعمل الشخصان على ربط المعلومات التي تصلهم بعضها بالبعض الآخر. أمّا في الزاوية الأخرى، فثمة خزانة كبيرة توجد فيها بنادق كلاشنيكوف وبضع قنابل وبعض العتاد الحربي.

بسرعة، يوعز السائق ــــ المسؤول عن المجموعة إلى المسلّحين المتمركزين في نقاطهم، التي لا يعرف أحد غيره خريطة توزّعهم، بخطّة الانتشار المفترض أن يتحرّكوا وفقها، علماً بأن معظم هؤلاء يتحرّكون بأسلحة خفيفة، وغالبيتهم يتمركزون في نقاط قريبة من منازلهم، فلا يحتاجون إلى أيّة آليات تثير انتباه الاشتراكيين. كما يعمدون إلى تضليل الاشتراكيين عبر تحركات وهميّة يتصنّعون سرّيتها لإرباك الاشتراكيين وإبعادهم عن التحركات الأساسيّة.

ومن قصر وهّاب إلى خطوط الدفاع الأماميّة التي يقيمها التوحيديّون. هنا، في قلب أحراج تطل على تلال تموضع الاشتراكيين، يبدو الوهابيّون مسيطرين على الطرقات الرئيسيّة ومداخل البلدات التي يحتمل أن يقتحمها الاشتراكيّون الذين وفدوا من أعالي الشوف إلى تلّة «قبّة الروس» التي بدت من إحدى نقاط تمركز الوهابيين أشبه بالثكنة العسكرية. وخلال السهرة التي يقضيها المقاتلون بتفريغ ما يفكّرون به، تبدو الوهابيّة أكثر من خطاب ساخر وكاريكاتوري يجذب بعض أهل المعارضة، وأكثر من تجمّع يتحلّق حول وهّاب طمعاً بالأموال والخدمات التي يوزّعها. إنّها في قلب الشوف، في هذه اللحظة، رجال من الطائفة الدرزيّة يحملون البندقية لقتال الاشتراكيين دفاعاً عن «قِيمنا» و«حريتنا»، كما يقولون. ويثور هؤلاء غضباً عند سؤالهم عن أسباب حقدهم على جنبلاط «الذي حمى الدروز»، موضحين أنهم هم من حموه، فحملوا السلاح وقدّموا أغلى ما لديهم. ويتناوبون في قصِّ رواياتهم: هنا واحد يخبر عن «جنبلاط الإقطاعي» الذي يفرض الخوّات على الأهالي ويمنع إقامة أي مشروع اقتصادي لا يكون فيه شريكاً بـ51% من الأرباح. وهنا آخر يروي عن «محب للطبيعة استولى على محميّة المعاصر وحوّلها إلى مستودع أسلحة». وهنا مسنّ يعدّد بحسرة أسماء شوفيين ــــ دروز يتّهم الحزب الاشتراكي باغتيالهم.

وقبل استرسال البعض، تطرح أسئلة مدوّية: أية مؤسسات زراعيّة وصناعيّة أنشأها جنبلاط لتوفير فرص العمل وتصريف إنتاج من ولّوه الزعامة، أية مستشفى فتح للأهالي وأية جامعة، وأيّة منح تعليمية أو مساعدات تربوية قدّمها للشوفيين خلال ثلاثين عاماً؟ ويضيف البعض أخباراً عن مس جنبلاط بالقيم الاجتماعية الدرزية.

هؤلاء المعترضون على «البيك الإقطاعي» لأسباب مختلفة، يؤكدون أن وهّاب يخرق عملياً قلعة عمرها من عمر الدروز، يتحصّن جنبلاط فيها ويلعب بالسياسة كما يريد. ويتحدّثون عن أنفسهم بفخر، بإيمان، بقضية أول ملامحها تحرير الناس من ذلّ ومهانة يتعرضون لهما يومياً للحصول على الحدِّ الأدنى من حقوقهم. ويقول هؤلاء إنهم يتوسّعون في كلِّ الشوف، سرّاً وعلانيّة، وهم اليوم يعدّون أكثر من أربعة آلاف شوفيّ. أمّا مؤيّدوهم في «المناصف» (وسط الشوف)، فيتخطّون أربعين في المئة من نسبة السكان، كما يدّعون. وبرأيهم، فإنّ وهّاب يمثّل استمراريّة لابن الجاهلية أنور الفطايري الذي يكاد يجمع الأهالي على أن جنبلاط أمر بقتله عام 1988، بعد أن خشي من تأثيره السلبيّ عليه نتيجة استقطابه الاشتراكيين وغيرهم. وإذ يتحوّل الفطايري إلى ما يشبه الأسطورة نتيجة احتفاظ كلّ مقاتل بقصّته الخاصة عنه، يقولون إنّ وهّاب، الآتي من أسرة متواضعة جداً، ينجح في لمّ شمل المنتفضين الدروز «الذين يضعون دمهم على كفّهم» أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم.

من «الجبهة»، حيث كان يسود هدوء مقلق، عودة إلى نقطة سرّية مجاورة للقصر الذي يشيده وهّاب منذ عشر سنوات، ويحتاج إلى عشر سنوات أخرى. والحديث هذه المرّة عن «سلاح الحزب التقدمي» و«دولة وليد جنبلاط». أما المخبر الأساسي، فقائد عسكري سابق في ميليشيا التقدمي، وصديق للمسؤول الأمني السابق في الميليشيا كمال فياض، الذي كان يروي بدوره مآثر جنبلاط الأمنيّة عبر الهواء مباشرة.

يقول التقدمي السابق إن ثمة خمس نقاط أساسية يتمركز فيها الميليشيويّون الاشتراكيون: في تلّة الروس، ثانوية بعقلين الرسميّة، المكتبة الوطنيّة في بعقلين، بقعاتا (مطلة على المختارة)، ورأس الجاموس. ويفترض بالجيش أن يتسلّم هذه المناطق ويتمركز فيها، إضافة إلى فضِّ نقاط التجمع في كل بلدة، ومنع الدوريات الاشتراكية المسلّحة التي تجوب مناطق الشوف وتوقف كل من لا يعجبها لتفتّش سيارته وتحقق معه، تماماً كما تحرّم التصوير، وتمنع وصول البعض إلى حيث يريدون.

ويشرح أن للاشتراكي شبه ثكنات في بلدات مزرعة الشوف، الباروك، كفرنبرخ، وحزيبة. ولديه ثكنة وإشارة في البطمة، وحضور عسكري مميّز أيضاً في باتر وبريح وكفرقطرة.

وللحزب الاشتراكي جيش ذو جسم منظّم يتوزّع على: أوّلاً، سلاح المدفعيّة (يقال إن جنبلاط أمر بتنظيفها وتجهيزها). ثانياً، سلاح الدبابات ويضم 30 دبابة BMB على الأقل، و4 CHELIKA (يقول أهالي المنطقة إنها موجودة في مخابئ في بعقلين، عين زحلتا، كفريا، برهتي وبدّي). ثالثاً، سلاح المضادات. رابعاً، سلاح الصواريخ المضادة للدروع. خامساً، سلاح الهندسة. وسادساً، السلاح المتوسط.

ولهذا الجيش قيادة عسكرية كاملة تضمّ قائد جيش، قائد كتيبة، قادة سرايا، قيادة فصائل، وضباطاً وعناصر برتب مختلفة. ويتقاضى عديد هذا الجيش رواتب شهريّة تتراوح بين مئتي ألف وستمئة ألف ليرة، علماً بأن بعض قدامى المقاتلين رفضوا أخيراً العودة إلى «الجيش» نتيجة «إهمالهم من جانب الحزب».

في موازاة هذا الجيش، يقول أهل «التوحيد» إنّ معركتهم محسومة، انتصاراً في بلدتين على الأقلّ، وسيتمكّنون من إلحاق أذى كبير بالاشتراكيين عبر أكثر من ثلاث مفاجآت في بلدات يميل فيها ميزان القوى للاشتراكي. أما حيث يعدّ وجودهم وحلفاءهم هزيلاً، فالخطة تقضي بحصول مناورة تقطع الوقت وتنهك الاشتراكيين لحين طلب النجدة التي تبرّر وصول الحلفاء.

الأبرز ميدانياً، أن المقاتلين لا يخوضون معركة وئام وهّاب. ثمّة تراكم من الأخطاء الجنبلاطيّة يجعل كل واحد من المقاتلين يخوض حربه الخاصّة، أو ثأره الشخصي. والأكيد، وسط استدلال المعطيات وقراءة ما بين الرسائل اللاسلكيّة، أن الحقد على جنبلاط يشمل ميليشيويّين يعدّهم زعيم الاشتراكي من أعمدة جيشه.

مسلح في الشويفات
مسلح في الشويفات


تعليقات: