«إغراءات» أميركية لحكومة يرأسها الحريري من دون المقاومة

مصادر جنبلاط: واشنطن تضغط بكل أوراقها وموقفها بعد ١٧ تشرين لم يتغيّر (هيثم الموسوي)
مصادر جنبلاط: واشنطن تضغط بكل أوراقها وموقفها بعد ١٧ تشرين لم يتغيّر (هيثم الموسوي)


«لا انتخابات نيابية مُبكرة ولا حكومة حيادية»، هما الثابتتان اللتان أكد عليهما لقاء عين التينة بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر. لكن حكومة الوحدة الوطنية دونها عقبات، في ظل رفض واشنطن حكومة يتمثل فيها حزب الله وتضم جبران باسيل، في انتظار ما ستسفر عنه وساطة يقودها الرئيس ايمانويل ماكرون

لبنان إلى أين؟ هو السؤال الذي لم يطرحه وليد جنبلاط من عين التينة. لكنه سؤال ما انفكّ يتردّد، بعدما «أُقيلت» حكومة الرئيس حسان دياب في شهرها السابِع. فسقوط الحكومات في هذه البلاد يعني الدخول في مرحلة الإنتظار السلبي، خصوصاً أن الوصول إلى اتفاق حول حكومة جديدة، في الظروف العادية، يستغرق شهوراً عدة. فكيف إذا كانت اللحظة كارثية والإنهيارات المالية والإقتصادية شاملة، والمناخ الدولي إلى مزيد من الإستثمار في الساحة اللبنانية؟

بعدَ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت، عقب انفجار المرفأ الأسبوع الماضي وكلامه عن تسوية داخلية وحكومة وحدة وطنية، رأى البعض أن هذا الموقف جاءه «شحمة ع فطيرة» للتخلص من عبء حكومة التكنوقراط. ثم جاءت الإستقالة كما لو أنها تمهيد لتشكيل حكومة سياسية تتيح للمنظومة الحاكمة العودة إلى سابق عهدها وممارسة سلطتها بالأصالة، قبل أن تصطدِم بمؤشرات تشي بأن الطريق غير معبد بالكامل، رغم الحركة الفرنسية المستمرة.

فقد علمت «الأخبار» أن ماكرون تواصل مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري، وكل من سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، وأبلغهم إصراره على وقف الإستقالات من مجلس النواب، مؤكداً أن «الأولوية لتشكيل حكومة وليس إجراء إنتخابات نيابية مبكرة»، وشدد على «ضرورة مشاركة الجميع فيها وإقناع الحريري بهذه المهمة».

وبحسب مصادر في العاصمة الفرنسية فإن عودة الحريري على رأس الحكومة تحظى بدعم أميركي - فرنسي - إماراتي - مصري، فيما تتخذ الرياض موقفاً محايداً. إذ لا تعارض عودة رئيس تيار المستقبل الى السراي، لكنها لا تريد أن تلزم نفسها بما لا تريد ان تلتزمه. كما ان السعوديين مستفَزون مما يرونه محاولة اميركية - فرنسية لإعطاء دور أكبر للامارات في الملف اللبناني.

وبحسب المصادر نفسها فإن الأميركيين «باتوا مقتنعين» بتغيير استراتيجيتهم في لبنان، هو ما ينعكس في إيفاد نائب وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل الى بيروت وإبعاد مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر الأكثر تشدداً عن الملف، على أن يخوض هيل مفاوضات مع رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لتليين مواقفه من تأليف الحكومة مع التهويل عليه بسيف العقوبات.

وبحسب المعلومات، فإن هيل يحمل معه طلباً أميركياً مباشراً يتعلق بإنجاز ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، ومحاولة الحصول على ضمانات بعدم قيام حزب الله بأعمال جديدة ضد العدو الاسرائيلي، و«تعزيز» (بدل تعديل) مهمات اليونيفيل. وفي المقابل، يتحدث الأميركيون عن «حزمة إغراءات» تتمثل في مساعدة عاجلة من صندوق النقد الدولي بقيمة 10 مليارات دولار، والبحث مع الأوروبيين لمنح لبنان قروضاً وهبات تصل الى أكثر من 25 مليار ليرة بفوائد معدومة شرط الاشراف على عملية الاصلاحات. فيما أخذ الفرنسيون على انفسهم مهمة التحاور مع حزب الله مع «قناعتهم» بامكان التوصل الى حلول رغم التحذيرات الأميركية من مخاطر الفشل.

وبحسب المعلومات، وُضعت القوات في أجواء عدم الممانعة الأميركية - السعودية لعودة الحريري، لكن واشنطن والرياض لا تريدان حكومة يشارك فيها حزب الله وباسيل، والرئيس الفرنسي ملتزم التواصل معهما لإقناعهما بالأمر. هذا الجو أصاب فريق الرابع عشر من آذار بالخيبة، بعدما تأكد بأن الخارج لا يريد إسقاط العهد والمجلس النيابي، وهو مصرّ على إطلاق دورة الحياة السياسية في البلاد. وقد نُقِل عن ماكرون أن «الاصلاح المالي سيكون أولوية وأن على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف التعاون والأخذ بتوصيات صندوق النقد». ونُقل عن الفرنسيين انهم نصرون على تدقيق في مصرف لبنان والقطاع للوصول الى تحديد دقيق للخسائر، وليس على خلفية انتقامية.

وفي إطار تسارع الحركة الدولية والعربية تجاه لبنان، قالت مصادر مطلعة إن «القطريين إتصلوا بعون ورئيس الحكومة المُستقيل، وأبدوا استعداداً لإعادة إعمار المرفأ والإستثمار فيه، بعدَ ورود أخبار عن اقتراح مماثل تقدمت به دبي بواسطة الأميركيين والفرنسيين». وتنقل المصادر عن السفيرة الأميركية دوروثي شيا قولها إنه «في حال سارت خطة ماكرون كما هو مرسوم لها، وتجاوبت القوى السياسية اللبنانية معها، فإن بلادها ستساعد على بناء معامل الكهرباء سريعاً»، كما لفتت المصادر بأن مصر تعمَل على الإتجاه ذاته.

لقاء عين التينة

اللقاء الذي انعقد في عين التينة قبل استقالة دياب بين حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر، أكد على ثابتتين: لا انتخابات نيابية مبكرة ولا تقصير لولاية المجلس الحالي، حتى ولو أدى ذلك الى «موت حكومة». مصادر مطلعة أكّدت لـ«الأخبار» أن بري، في اللقاء الذي ضمه وباسيل والوزير السابق علي حسن خليل والمعاون السياسي للامين العام لحزب الله حسين الخليل، «خبط على صدره» بأن الحكومة يمكن أن تتشكّل قبل مطلع الشهر المقبل، وقبل عودة الرئيس الفرنسي الى لبنان، ويبدو أن رئيس المجلس «قد أجرى التنسيق المسبق اللازم مع كل الأطراف السياسية في هذا الشأن، خصوصاً الحريري وجنبلاط».

ورغم أن المشاركين في اللقاء يعرفون جيداً أن البلد لا يملك ترف الانتظار طويلاً لتأليف حكومة، إلا أن الثابت لديهم أن «لا حكومة حيادية بل حكومة وحدة وطنية»، يفضّل بري، على الأقل، أن يكون الحريري على رأسها، من دون ممانعة ظاهرية من التيار الوطني الحر. أما حزب الله، فما يعنيه أمران لن يساوم فيهما: الأول، لا حكومة حيادية؛ والثاني، لا قبول بأسماء مستفزة من قبيل ما يسرّب في الإعلام، كإسم السفير السابق نواف سلام أو النائب السابق لحاكم مصرف لبنان محمد بعاصيري، «وما رفضه حزب الله سابقاً بعد استقالة الحريري في 29 تشرين الأول الماضي لن يقبله اليوم، والأفضل ألا يضيّع الناس وقت بعضهم بعضاً في إعادة تجريب ما جُرّب سابقاً».

حزب الله لا يمانع حكومة سياسية من دون أقطاب برئاسة الحريري

الحزب الحريص على سرعة التأليف «لأن وضع البلد لا يحتمل أي تأخير»، من أشد المتحمسين لحكومة وحدة وطنية. وهو، «من الأساس»، كان ضد استقالة الحريري لأن حكومته كانت كذلك، كما كان من أشد المتحمسين لعودته رئيساً لحكومة على هذه الشاكلة حتى ولو تحت مسمى «وزارة تقنيين» تراعي التمثيل السياسي. وبالقدر نفسه، كان حريصاً لدى تأليف حكومة دياب «التكنوقراطية» على مراعاة التوازنات السياسية وعدم استبعاد من لا يرغب في استبعاده ولو بالواسطة. وبالتالي، فمن باب أولى أن يكون اليوم مع حكومة وحدة وطنية، وبرئاسة الحريري نفسه، في ظل أزمة اقتصادية وصحية واجتماعية وسياسية حادة، «وبعدما أثبتت حكومة التكنوقراط ما كان معروفاً بأن الأمور في لبنان لا يمكن أن تدار من دون تفاهمات سياسية». وفي هذه النقطة، فإن الحزب «على تنسيق تام وتواصل مستمر» مع بري، على رغم التباين في المواقف الذي رافق استقالة دياب، إذ أن حزب الله لم يكن أساساً في أجواء دعوة رئيس الحكومة المستقيل الى إجراء انتخابات نيابية مبكرة، تماماً كما لم يكن في أجواء دعوة رئيس المجلس المباغتة الى عقد جلسة نيابية لمساءلة الحكومة، وهو ما أنهى عمر الحكومة من دون إعطاء أي فرصة لمساع قد تُبذل لانعاشها.

وبحسب المعلومات، فإن حزب الله لا يمانع أيضاً بحكومة وحدة وطنية «من دون أقطاب» يرأسها الحريري نفسه، ولا يبدو متمسكاً بمعادلة «سعد وجبران» التي شهرها التيار الوطني الحر في المشاورات التي جرت لاعادة تكليف الحريري عقب استقالة حكومته، وعرقلت إعادة تسميته. علماً أن مصادر في التيار الوطني الحر أكدت أنها مع الاسراع في تشكيل حكومة جديدة. وأكد تكتل «لبنان القوي»، عقب اجتماعه أمس، أنه «لن يوفر جهداً لتسهيل ولادة الحكومة وسيكون في طليعة المتعاونين».

الحزب «على تنسيق تام» مع بري رغم التباين الذي رافق الاستقالة

رغم ذلك، فإن لقاء عين التينة الثلاثي، بحسب المصادر، لم يتطرق الى الأسماء رغم ان الحريري، ضمناً، على رأسها، ولا الى التفاصيل، وذلك في انتظار أن يحوز الأخير ضوءاً أخضر سعودياً يسمح له بالعودة الى السراي.

جنبلاط ليس بعيداً عن هذا الجو. ومع أنه حاذر تسمية الحكومة بحكومة الوحدة الوطنية وفضّل تسميتها بحكومة طوارئ، شدد بعدَ لقائه بري أمس على أن «لا بد من حكومة تعالج الوضع الاقتصادي وإعمار بيروت وتقوم بالإصلاح»، مشيراً الى أن «الوقت ليس لتسمية أحد الآن لتولّي رئاسة الحكومة الجديدة ولا أضع شروطاً على أحد من أجل المشاركة فيها. ولا بدّ من حكومة طوارئ أقله لكي لا تبقى حكومة دياب المستقيلة في حكم تصريف الاعمال». مصادر جنبلاط أكدت أن «الرئيس بري وضعه في أجواء اللقاء، وما جرى الإتفاق حوله»، لافتة إلى أنه «لا يمانع حكومة الوحدة الوطنية والمشاركة فيها». لكن المشكلة تكمن في أن «الغرب ليس معنا على الموجة نفسها، وقد نكون اسأنا الفهم وتقدير الموقف»، فالولايات المتحدة «تضغط بكل أوراقها وموقفها بعد ١٧ تشرين لم يتغيّر، والرياض أيضاً موقفها واضح وقد عبّر عنه وزير خارجيتها أخيراً». وبحسب المعلومات «تُصر أميركا على حكومة لا يشارك فيها الحزب، فهل تسمح الرياض للحريري بتشكيل حكومة أو تغطية حكومة فيها حزب الله، وهل يستطيع ذلك من دون رضاها، وهل يقبل الحزب بألا يكون ممثلاً في اي حكومة جديدة؟»

وفي إطار الزيارات التي يقوم بها مسؤولون عرب وأجانب الى لبنان، وصل وزيرا الخارجية المصري سامح شكري والأردني أيمن الصفدي أمس إلى بيروت. واعتبر شكري أن «المرحلة المقبلة من عمر لبنان تتطلب كثيراً من الجهد والإخلاص من كافة الأطراف السياسية اللبنانية، لوضع منهج جديد يُمكّن لبنان من مواجهة التحديات». فيما أكد الصفدي أن «لبنان لن يكون وحيداً في مواجهة تداعيات انفجار المرفأ».

وبينما ينتظر لبنان وصول وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل «لاستكشاف الوضع»، أعلنت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن أن «اليونيفيل ستواصل عملياتها في جنوب لبنان».


باريس لحكومة «يرضى عنها الجميع»... لا «حكومة وحدة»

هيام القصيفي

لم يتعهد أي طرف دولي التسوية الرئاسية، كما فعلت فرنسا، وإن كانت في الصف الخلفي. لا واشنطن أعطت مباركتها، ولا السعودية التي غضّت البصر - رغم اعتراضها على التسوية - بعد تأكيد حلفائها في لبنان أنهم يضمنون علاقة العهد الجديد مع الرياض، كما يتعهدون بتغير أسلوب عمل الفريق الآتي الى قصر بعبدا على جناحي تفاهم معراب وتسوية الرئيس سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.

وحدها باريس ظلت تراعي التسوية، وعملت مراراً على تحصينها، انطلاقاً من ثابتتين: علاقة تاريخية مع العماد ميشال عون وتقليدية مع الحريري الابن بعد الرئيس الراحل رفيق الحريري. تربط عون بدوائر فرنسية صلات تتعدى لجوئه اليها. يعرف نواباً ووزراء ورؤساء، ويعرفه كثر في مراكز النفوذ الرئاسي والحكومي والبرلماني.في أحيان كثيرة تبرز هذه الروابط متقدمة بأشواط على ما عداها من علاقة فرنسا بقوى وأحزاب مسيحية أخرى كالكتائب والقوات اللبنانية. وإذا كان للنوستالجيا مكان في هذه الصلة، فإنها أيضاً محكومة بوقائع عملانية سياسية وعسكرية، حين كان عون قائداً للجيش، ورئيساً لحكومة انتقالية ومنفياً، ومن ثم رئيساً للجمهورية. وفرنسا استثمرت في المراحل الماضية بعون والمحيطين به الذين عادوا الى لبنان.

على مستوى مختلف، بنى الحريري الابن موقعه في باريس على الركائز التي أرساها والده، فورث بعده هذه المكانة التي عملت باريس، ولا سيما في عهد الرئيس جاك شيراك، على الحفاظ عليها، وحتى بعد خروجه من الحكم. وحين أتت التسوية الرئاسية لتجمع صديقين لها، بادرت الى تشجيعها متفردة بذلك عن غيرها، فزارها عون «شاكرا». بين وقوفها الى جانب الحريري بعد أزمته السعودية واستضافة الرئيس ايمانويل ماكرون له ولعائلته بعد خروجه من الرياض وقبل عودته الى لبنان، شجعت باريس على مؤتمر «سيدر» قبل الانتخابات النيابية، لتعطي دفعاً لهذه التسوية ولأركانها للفوز بالانتخابات، وكان ماكرون يعدّ العدة لزيارة بيروت، قبل أن يعدل عنها ويعمل على عقد مؤتمر الدول المانحة لدعم لبنان الذي غابت عنه السعودية. كل ذلك تحت سقف التسوية الرئاسية ومفاعيلها. حتى أحداث 17 تشرين الاول وما تلاها، لم تجعل فرنسا تقف موقفاً مباركاً لها بالمطلق، رغم تشبيه البعض لتظاهرات لبنان بشعارات فرنسا عن العدالة الاجتماعية، وهي استمرت حذرة في التعامل معها، فيما كانت تحث السلطات اللبنانية على اتخاذ خطوات فاعلة في ظل حكومة الحريري. ورغم سقوط هذه الحكومة وتأليف حكومة الرئيس حسان دياب، بقيت باريس على توازنها، وهي المعروفة بتفردها أوروبيا في الاحتفاظ بعلاقة تواصل مع حزب الله، لجهة إعطاء هذه الحكومة فرصة. لكن مراوحة الاوضاع مكانها جعلت باريس، التي تتعرض ايضاً لضغط أميركي ومن بعض الاوروبيين، تعيد قراءة ما حصل بعيون جديدة، مع الأخذ في الاعتبار تأثير المخضرمين من الديبلوماسيين والسياسيين الذين لا تزال تربطهم علاقة مميزة بلبنان.

من هنا جاءت النظرة الفرنسية قبل انفجار المرفأ، لتطرح أسئلة عن هذا التحول في السياسة الخارجية. ففرنسا شعرت بأن مفاعيل التسوية داخلياً انتهت مع خروج الحريري منها وتفرّق القوى التي دعمتها، لصالح تخبّط لم تتمكن حكومة دياب من الخروج منه. لم يتبقّ من التسوية سوى عون وحزب الله، وهي وإن كانت على علاقة جيدة مع الأول وعلاقة ما مع الثاني، إلا أنها باتت تنظر بغير رضى إلى تدهور أداء السلطة. فهي لم تقف موقف المواجهة مع حكومة دياب، العكس هو الصحيح. لكن دياب شعر بأن ثمة محاولة جدية لإطاحته، لصالح تسوية جديدة، من هنا كان ردّ فعله بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، والذي لم يقابله رئيس الجمهورية بالمثل.

لكن فرنسا ما قبل 4 آب هي غير ما بعده. يقول الفرنسيون إن الدافع الاول والأخير إنساني، وأداء ماكرون في لبنان والوفد المرافق انطلق من لحظات إنسانية، وما شهد عليه من مآسي عائلات منكوبة وانهيار صحي وتربوي يصب في خانة مسلمات لا تزال تمثل ركائز اساسية في وجدان الفرنسيين وجمهوريتهم. لكن لا يعني ذلك ان السياسة غائبة وعمادها شخصيات مثل لودريان وغيره ممن سبق أن أعطوا ملاحظاتهم بقساوة قبل الانفجار. ففرنسا تعود الى المشهد اللبناني علانية ومن دون مواربة، وهي تريد الابقاء على العناوين التي فشلت التسوية في تنفيذها، كالاصلاحات، مع انكشاف فداحة الفساد، بعد الانفجار. وهي حريصة على ألا يصطدم دورها بحائط مسدود، كما في بعض المراحل السابقة، لأنها تريد العودة الى بيروت والعالم العربي من هذه البوابة. من هنا ضغطها مع الولايات المتحدة لتحييد لبنان عن كل مقاربات أخرى. فواشنطن لا يعنيها من لبنان إلا ما يتعلق باسرائيل براً وبحراً وجواً. نظرة فرنسا مختلفة، تريد تحييده وتحتاج واشنطن، التي ستنشغل في الانتخابات الاميركية، للعمل على حماية تدخلها فلا تعرقلها، في وقت تعرف فيه أن السعودية لا تزال على تجاهلها التام. والخطورة أن الانفجار يمثل مناسبة لاكثر من طرف للتدخل؛ ايران التي تعتبره خطرا على دورها وقد ترى فيه فرصة في آن واحد، وتركيا التي ترى فيه فرصة سانحة للدخول الى لبنان وتثبيت موطئ قدم فيه، في وقت يطرح فيه السؤال حول كيف ستتصرف روسيا حياله، وهي التي كانت تسعى الى الدخول اليه نفطياً.

وسط هذه الخريطة، تعود فرنسا وأمامها بضعة عناوين:

الأولوية لانفجار المرفأ ومعالجة ذيوله على كل المستويات التي حددها ماكرون في اجتماع الدول المانحة. قبل استقالة الحكومة وبعدها، الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيّئ أضيفت اليه كارثة أشد قسوة، والاهم تأمين متطلبات الغذاء والادوية وتأمين سكن العائلات وترميم المستشفيات. هذه ليست مجرد عناوين انشائية على الطريقة اللبنانية، بل اجندات ملزمة، تخطت بأشواط مقاربات السياسيين اللبنانيين الذين غابت اي مبادرة لهم لمساعدة المنكوبين. هذا هو المحرك لعقد المؤتمر الدولي، وكذلك إصرار فرنسا والدول التي حشدتها على منع مرور المساعدات عبر الاقنية الرسمية. أما الاولوية الثانية فاقتصادية، إذ تقف فرنسا بوضوح وراء صندوق النقد. كلام ماكرون العلني في بيروت وفي باريس، سبقه كلام لودريان. وهذا الموقف بمثابة تحذير استباقي لكل اقتصادي وسياسي يقف وراء محاولة تطيير المفاوضات مع الصندوق. في مقابل تمسكها بالاصلاحات من دون مواربة، هناك من أراد عمداً التغاضي عن موقف فرنسي واضح للمرة الاولى تجاه سياسة مصرف لبنان، فاختار جزءاً منه وتجاهل الملف المالي. وهذه الاشارة لم ترق كثيراً من القوى السياسية التي لا تزال تدافع عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي بدأ حملة إعلامية مضادة، حتى عبر الاعلام الفرنسي، لمواجهة الاتهامات ضده. رغم كمّ الانتقادات لهذا الفريق السياسي والمالي، لتجاهله الفج لانفجار المرفأ وما نتج عنه من حاجة الناس الماسة إلى أموالهم، لترميم بيوتهم وشراء الحاجات الضرورية، فلا يفرج عنها، أو لا يزال يصرفها بغير سعر السوق.

في السياسة، تربط فرنسا علاقات صداقة مع كل من التقاهم ماكرون على طاولة الحوار. من لا يعرفهم شخصياً، يعرفهم الوفد المرافق والديبلوماسيون في العاصمتين. لكن باريس في الآونة الاخيرة تستشعر ارتياباً من القادة اللبنانيين، وموقفها بات حاداً، أكثر بكثير مما قيل علناً، تجاه هؤلاء. ولعل هذا سبب استياء البعض، وتوافق معظم الذين شاركوا في طاولة الحوار على إعادة التموضع وتحصين مواقعهم، حيال أي حركة فرنسية يمكن أن تصبّ في خانة إبعادهم عن الواجهة. والانطباعات أن أكثر من طرف على مختلف المستويات كان حريصاً على البقاء في مواقعه. من هنا كان الالتباس المقصود في الإيحاء بما عنته باريس بحكومة جديدة. الحكومة المقصودة حكومة تتفاهم حولها وعليها القوى السياسية، فلا تعرقل أعمالها، وليس حكومة وحدة وطنية بالمعنى التقليدي، تعيد تلميع صورة من كان في السلطة وشريكاً منذ سنوات في الفساد وتسبّب في الازمات المتتالية. لم يطرح ماكرون اسم الرئيس سعد الحريري مطلقاً. من طرحه جهات سياسية كانت حاضرة، على طاولة الحوار، ولم يلتقط أحد الطرح، ولم يتم استكمال الحوار حول هذه النقطة لاحقاً، ولم يتم الدخول في الاسماء. لكن باريس بدت حاسمة في اتجاه التغيير، لأن ما حصل في المرفأ هو رأس جبل الجليد. وكثر هنا في بيروت، بمن فيهم أصدقاء فرنسا، لم ينظروا الى ملاحظاتها بارتياح.

تعليقات: