عدنان سمور: قراءة عمرانية من وحي تداعيات إنفجار مرفأ بيروت المأساوي


انها محاولة متواضعة في دراسة آثار وتداعيات فاجعة إنفجار المرفأ على العمارة والنسيج العمراني لبيروت وما هي الدروس والعبر التي يمكن الخروج بها جراء هذه الحادثة الإستثنائية وللإنصاف مطلوب إبراز ما للعمارة وما عليها في منطقة وسط بيروت الأكثر تضررا بهذا الإنفجار للخروج بخلاصات وتوصيات يستفاد منها في العمارة والأنظمة والرؤى الهندسية والثقافية التي تؤثر فيها وتحكم مساراتها وصيرورتها.

وليكون تعاطينا مع الموضوع بالإحترافية اللازمة التي تدل على إحاطة به وعلى ترتيب لأولويات النسيج العمراني لمدينة شرقية عريقة كبيروت . وما هي نقاط ضعف ونقاط قوة مخطط التنظيم المدني الذي اعتمده لبنان ومؤسساته الهندسية والتنظيمية في إعادة إعمار وسط بيروت بعد الحرب الأهلية التي دمرت هذا الوسط كونه مثل خط تماس بين المحاربين خلال سنوات الحرب الأهلية الطويلة.


بداية من الإيجابيات التي روعيت في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت التالي:

1- لقد حافظ مشروع إعادة إعمار وسط بيروت على أبنية تراثية عديدة ومهمة وفيها قيمة معمارية كبيرة وجديرة بالتأكيد على هويتها وحفظها.

2- لقد أكد وراعى مشروع إعادة إعمار وسط بيروت مواصفات عالية الجودة مع الإحتفاض بالطابع التراثي التاريخي للأبنية القديمة .

3- راعى المشروع إقامة بنى تحتية جيدة وكفوءة وبمواصفات عالية .

4-روعي في المشروع خلق فضاءآت واسعة فيها حدائق وأعمال فنية ومراكز ترفيه وقاعات إحتفالات ومعارض كبرى.

5- احترام القواعد الهندسية الحديثة في التصاميم وإدارة التنفيذ أنتج عمارة جميلة ومتينة بنسبة عالية.


من المآخذ التي يمكن تسجيلها على التعاطي الرسمي والسياسة التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت التالي:

1- عدم مراعاة الذاكرة العمرانية لهذا الوسط بما كان يمتلك في الماضي من حميمية لكافة الطبقات المكونة للشعب اللبناني التي كانت لها ذكريات غنية في هذا الموقع المركزي والمؤثر. حيث كان المكان يتسع للجميع من حيث الأسواق وتوزعها واحتواءها على محلات واستراحات واسواق وسلع من كافة المستويات . أما الآن فإن المكان صار نخبويا بامتياز وتستطيع بسهولة وأنت مار فيه أن ترى وتميز الناس هناك من خلال وجوههم وأزيائهم ولهجتهم إن كانوا من الطبقة التي تنتمي الى هذا المكان أم أنهم عابرون جاؤا للتفرج واخذ الصور التذكارية دون تفاعل مع المكان ومكوناته العمرانية التجارية والثقافية والترفيهية .

2-الواجهة البحرية للمشروع ونتيجة الذهنية الإستثمارية الحاكمة للتصاميم المعمارية المطلوب اعتمادها تعاني من أزمة إغتراب عن الهوية العمرانية المحاذية لها والواقعة خلفها على بعد أمتار . والناظر الى الواجهة البحرية يقرأ بوضوح مدى الإنسحاق العمراني أمام مشروع العولمة المعمارية واساليبها وموادها المستخدمة ومدى عدم المبالاة لدى الجهة الممولة لهذه المشاريع بهوية عمرانية مرتبطة بذاكرة بيروت المدينة الشرقية العريقة والتي اثبتت الحفريات في أرض ساحة الشهداء أن تحت هذه البيروت بيروتات كثيرات يحفظهن سجل الأرض الذي يؤرشف في أعماقه تاريخ المدن والكائنات.

3- إن غنى بيروت بالأثار الفينيقية والرومانية والإسلامية كبير وملفت ولم يأخذ حقه من قبل المخططين والممولين والمنفذين ولا ما يستحق من الإهتمام والإبراز والتركيز بل تم التعامل معه ككمية مهملة معروضة بأسلوب عديم الجاذبية وبدون أي شروحات تذكر ليطلع الزائر عليها ويحفظ بعض الأجزاء المهمة من ذاكرتها . وهناك مجازر تراثية ارتكبت من المستثمرين النافذين في دفن معالم تراثية وأثرية بالغة الأهمية والقيمة مثل قيام آل الحريري الذين يملكون عقارا قرب المنارة القدية حيث تم اكتشاف مصاطب حجرية أثناء الحفر لإنشاء المبنى وأكد خبراء آثار لبنانيون وأجانب أن هذه المصاطب هي موانىء كانت ترسو عليها السفن الفينيقية. الامر الذي أعاق انجاز الموافقة على ترخيص إنشاء المبنى فما كان من المالكين إلا ان احضروا تقريرا مزورا ينفي ان تكون هذه المصاطب ميناء فينيقا وأشادوا بناءهم وضاع المعلم التاريخي.

4- إن الردم البحري الذي نتج عنه مئات آلاف الأمتار كان من المفترض ان تنشأ في جزء كبير منه حديقة كبيرة بيروت وضواحيها بأمس الحاجة اليها بيئيا وجماليا وترفيهيا لكن تغول رأس المال حال دون انشاء مثل هذه الحديقة الحلم.

5-اسواق بيروت القديمة مثلها مثل كل المدن الشرقية جزء لا يتجزأ من هويتها وقد مسخت وغيبت بفضل المخطط التوجيهي الذي اعتمد في مشروع إعادة إعمار وسط بيروت نتيجة تفرد المستثمرين وأصحاب النفوذ السياسي في توجيه خطة إعادة الإعمار.


ان من يريد أن يقرأ ويحلل ويستنتج تفاصيل ونقاط ضعف بنية لبنان يكفيه أن يقرأ كيف تعاطت القوى والفئات اللبنانية مع مشروع إعادة إعمار لبنان وكيف كانت الروحية الإنتهازية حاكمة وكيف كانت تدخلات النفوذ والرأس مال الخارجي في اتخاذ القرارات بعيدا عن حاجات البلد العمرانية التعايشية والحافظة لذاكرة الأمكنة والمنسجمة مع كافة مكونات المجتمع اللبناني المتعدد الطبقات والطوائف والمذاهب.

لقد ذكرنا إنفجار مرفأ بيروت بكل هذه الشجون فتعالوا نتعض من تجارب الماضي ونتعاون في إنتاج مشروع عمراني إنقاضي للبنان من خلال مشروع إعمار ما هدمته الإنفجارات والحروب والمأسي في لبنان والمنطقة.


* عدنان ابراهيم سمور

باحث عن الحقيقة

17/08/2020

تعليقات: