اللبنانيون يبيعون أصولهم بسبب الفقر ومنظومة الفساد الحاكمة


في لقاءٍ سياسي جرى قبل أشهر، صارح نائب لبناني الجماهير التي كانت موجودة، بأنّ دراسة علمية توقعت أن يصل عدد اللبنانيين، من هم دون خط الفقر، مع نهاية العام 2020 الى مليون ونصف مليون جائع.

قبل هذا التصريح الصريح، كانت عائلات لبنانية كثيرة قد بدأت منذ أشهر، وخصوصاً مع انهيار الليرة اللبنانية وإغلاق معظم المؤسسات أبوابها، وفي مرحلة لاحقة مع جائحة كورونا، تنتظر إعانات من الغذاء والدواء وكل ما يحتسب في هذا المضمار، عدا عن أنّها أصبحت عاجزة عن شراء كثيرٍ من السلع الضرورية. في حين، راح رواد العالمين الواقعي والافتراضي يؤلّفون قصصًا قاسية تحاكي حالتهم تلك. فكم هو مؤلم أن تستمع الى ذلك التسجيل الصوتي الذي يقول صاحبه «يوجد في المحالّ التجارية «طساسة» لحمة، تستطيع أن ترش الطبخة برذاذ اللحمة بدلًا من اللحمة نفسها»؟ بطبيعة الحال، يندرج كلامه في سياق المزاح، ولكنه فعلًا يحاكي واقعًا أليمًا، تسلّل الى أمعاء الفقراء الذين حُكم عليهم أن يكتفوا بكمية قليلة من اللحمة، مرةً واحدة في الشهر، هذا في حال استطاعوا إليها شراءَ.

من جهته قال الدكتور والخبير الاقتصادي كمال حمدان: «في أواسط هذا العام وتحديدًا في حزيران منه، أشار البنك الدولي الى أنّ نسبة الفقر في لبنان قد بلغت نحو 52%. ومنذ أيام وردت في نشرة لمنظمة الأسكوا احصائية تحدثت عن زيادة معدّل الأُسر الفقيرة في الفترة التي تلت شهر حزيران لتلامس حدود 55%. وتوقّع حمدان، أنّه إذا ما استمرت الأمور على حالها، فأنّ معدّل الفقر سيرتفع الى ما يوازي 65 أو 70%، ويستند هذا أساسًا، الى دراسة إحصائية أجراها مركز الإحصاء المركزي عن عامي 2018 و 2019، تبيّن فيها أنّ الدخل الشهري لـ 72% من مجموع الأُسر في لبنان، هو تحت سقف المليونين ومئتا ألف ل. ل. وذلك وفق سعر الصرف السابق للدولار أي 1515 ل. ل. وأنّ معظم هذه المداخيل ناتجة من أجور، بخاصة وأنّ دخل أكثر من 80% من العاملين هو بالليرة اللبنانية، وأضاف منذ نهاية عام 2019 لم يجرِ تصحيح للأجور إلاّ بمبادرات إفرادية من أصحاب العمل، مما يعني أنّ معظم الـ 72% سينتقلون تدريجيًا، الى دون خط الفقر، وهذا يقودنا الى تفهّم ما يذهب إليه الفقراء من بيعهم لبعض ما يملكون بغية سدّ حاجاتهم.

أنشأ بعض اللبنانيين مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي، تحت عناوين مختلفة، تهدف الى تبادل الأغراض والأمتعة، وأخرى تهدف الى بيع مقتنيات صارت حاجتهم الى ثمنها أهم من بقائها لديهم، بغية تسديد جزء من قرض، أو شراء دواء، أو إجراء عملية جراحية، وربّما باعوا قطعة شابها عطل ما، ويعجزون عن إصلاحها، أو ربّما ضاقت بهم الحال، فهبّوا لاستكمال ثمن بضاعة كانوا قد سدّدوا ثمن حجزها، تجنّبًا للخسارة.

ومنذ سنوات، يلجأ الفقراء الى مؤسسات خاصة أنشأها أصحابها خصيصًا للقروض الصغيرة، بحيث يودع المقترض لديها ما يملكه من الذهب وتُقرضه ما يوازي تقريبًا ثلاثة أرباعه لقاء تأسيس ملف محتسب له. ويبدأ الشخص المعني بتسديد قرضه وفق دفعات شهرية، ولقد وقع غالبيتهم، بعجز كبير جراء الارتفاع الذي طال سعر صرف الليرة بالدولار الاميركي. ومنهم على سبيل المثال: م. م. الذي اقترض منذ سنتين مبلغًا لاستكمال بناء منزله في بعلبك، وعجز عن تسديده مما إضطره الى سحب وديعته وبيعها في السوق، بأقل من قيمتها الحقيقية، لتسديد الدفعات المتبقية.

وفي الإطار عينه، هناك مؤسسات احتالت على زبائنها، وراحت تتهرّب من إعادة الودائع العائدة لهم، وبعضها أغلق مكاتبه وأعلن إفلاسه، وحصلت على أثرها إشكالات بينها وبين المودعين أنفسهم، علمًا أنّ بعضها يملك فروعًا في مناطق لبنانية عدة، ومنذ جائحة كورونا حتى يومنا هذا، يتجمع أمام مكاتبها عشرات الأشخاص للمطالبة بحقوقهم، حتى أنّه حصل إشكال مسلح «هوليوودي» أمام فرع إحدى المؤسسات في محلة حي السلم منذ حوالى الشهر تقريبًا. واللافت في هذا الامر، أن لا قوانين ولا وزارات أو إدارات ترعى وتراقب تلك المؤسسات، التي تفرخ فروعًا لها في المناطق بشكل متواصل وعلى عينك يا تاجر.

تقول م.ز.: «لم يخطر في بالي يومًا، أن أبيع أغراضي والذهب القليل الذي اشتريته ذات يوم عزّ. تصوّر أنني أنبش خزانتي لأبحث بين أمتعتي عن قطعة ثياب أصبحت في حاجة الى ثمنها، على الرغم من حاجتي الى ارتدائها، فأنا أعمل منذ عشرين عامًا، وكنت ولا أزال - واليوم بدرجة اقلّ- أعطي ما يزيد عن حاجتي الى المحتاجين، وأشعر بسعادة تغمرني كلما تسببت ببسمةٍ لهذا أو ذاك. أنا اليوم أبحث عن طريقة لأسدّد بها قرض سيارتي، لذلك بعت سلسالاً وخاتمًا من الذهب، وأبحث عن أمتعةٍ لأبيعها أيضاً. عليّ ان أخفف عن نفسي وقع هذه الظروف الاقتصادية التي تكسرنا وتجعلنا في مهب الريح».

أ. ش. موظف يتقاضى أقل من 800 ألف ل. ل. شهريًا، وهو يعاني وجود حصى في كليته، أكّد له الطبيب أنّ التفتيت لم يعد يجدي، فلا بدّ من سحب الحصوة، وهذا يتطلب استئجار جهاز حديث من احدى الشركات الطبية الخاصة، ولكن تكلفته تبلغ 800 دولار، بحسب سعر السوق السوداء للدولار، أي ما يعادل أجر عمله لثمانية أشهر. وفي حين لا يغطّي الضمان الصحي تكلفة هذا الجهاز، فقد لجأت زوجته الى بيع ما تملك من ذهب، وإستدانة المبلغ المتبقّي لحلّ هذه «المعضلة» الصحية.

هي نماذج مختلفة من المجتمع اللبناني، داهمها الفقر على حين غرّة، وتسلّل الى بيوتهم من دون استئذان، فارضًا عليهم حياةً من نوع آخر. من هنا لم يكن مستغربًا أنّ السواد الأعظم من اللبنانيين، الذين سنحت لهم فرصة للتعبير عن مطالبهم منذ 17 تشرين ولغاية تاريخه، كان في أولوية مطالبهم الحصول على ضمان صحي لهم ولعائلاتهم، أو أنّهم لا يملكون حتى ثمن دواء لعلاج مرضاهم.

لطالما كان اللبناني مرفوع الرأس، وهو لن يسمح للإحباط أن يقضي على طموحاته وحقه في العيش بكرامة، وسيواجه كل الصعاب ويتحمّلها، حتى ينعم، كسائر شعوب العالم، بحياةٍ سعيدة، في وطنٍ سقط لأجله آلاف الشهداء.

تعليقات: