من يُطعم كل هذه الأفواه؟


ربما شعر اللبنانيون ببعض العزاء اذا عرفوا ان ارتفاع اسعار المواد الغذائية ليس ازمة خاصة بلبنان وانهم في هذه "المعاناة الغذائية" على الاقل ليسوا وحدهم. صحيح ان لكل بلد اسبابه المحلية الاضافية التي تضغط على الاسعار ولبنان لديه الكثير، ولكن من مصر واليمن الى بنغلادش واندونيسيا ومن ساحل العاج والكاميرون الى هايتي وبوليفيا ومن بريطانيا الى الولايات المتحدة، بدأ العالم كله يشعر بوطأة ازمة الغذاء وإن بدرجات تتفاوت بين الجوع وبدايات اعادة النظر في استهلاك بعض المواد. وقد تكون هذه "المعاناة الجماعية" الخبر الاقل سوءاً في الازمة التي تجتاح العالم لان الأسوأ هو الوعد العالمي بأنها في بداياتها وأنها ستكون حادة هذه السنة وان وجعها سيطول.

كل ما يحصل اليوم في نطاق ازمة الغذاء خطير وكل ما يقال عن انعكاساتها وعواقبها في المدى البعيد أخطر. ولا يبدو أن في الامر أي مبالغة أو افتعال أو تهويل. المسؤولون الدوليون بدأوا بالتحذير منها قبل نحو سنتين عندما راحت اسعار المواد الاساسية ولا سيما منها الارز والقمح والذرة والصويا والسكر والزيوت والمحروقات ترتفع بسرعة، ولكن قد يكون التنبه لها تأخر لأنها صامتة ذلك أن أول من تصيب اولئك الذين لا صوت مسموعا لهم اي الفقراء، ولأن التركيز يجري على ازمات اخرى "مسموعة" مثل ازمة النفط. لكن الخبراء يقولون اليوم: انسوا النفط، الازمة العالمية هي الغذاء.

الارقام مخيفة. منذ عام 2000 ارتفعت اسعار المواد الاساسية وخصوصاً الحبوب ضعفين أو ثلاثة أضعاف. ويقول البنك الدولي إنه في السنوات الثلاث الاخيرة ارتفعت اسعار كل هذه المواد 80%. لكن الوتيرة تسارعت في الاشهر الاولى من هذه السنة فبلغت أسعار الارز والصويا أرقاماً قياسية، فيما سعر الذرة وصل الى اعلى مستوياته منذ 12 سنة وسعر القمح يواصل صعوده وقد شهد ارتفاعا نسبته 25 % في يوم واحد مثلاً. ويكفي ان الاسعار ارتفعت بين آذار 2007 وآذار 2008 بهذه النسب: القمح 130%، الصويا 87%، الارز 74%، الذرة 31%. هذا يترتب عليه طبعاً ارتفاع في اسعار اللحوم والدجاج والبيض ومشتقات الحليب.

صار القلق عاماً الى حد انه بدأ ينعكس حتى في مدينة غنية مثل نيويورك. ففي حين تشهد أسعار المواد الاساسية ارتفاعا متسارعا من أسبوع الى آخر يتجاوز احياناً 100%، بدأت المحلات التجارية الكبرى بتحديد كمية بيع بعض المواد وخصوصا الارز للمستهلك الواحد. ولكن اذا كانت الدول المتقدمة قادرة على تحمّل ارتفاع الاسعار فإن هذا الامر مدمّر للدول النامية والفقيرة حيث الغذاء وحده يبتلع ما بين 60% و80% من دخل العائلة مقارنة بنسبة لا تتجاوز 20% في الدول المتقدمة.

بدأت الانفجارات الصغيرة على شكل شغب غذائي يقول الخبراء إنه الأول يشهده العالم على هذا النطاق منذ ثلاثة عقود. احتجاجات دموية في الكاميرون ادت الى مقتل 40 شخصاً. شغب في هايتي أدى الى مقتل ستة اشخاص واطاح رئيس الوزراء. تظاهرات في مصر من اجل الخبز ومثلها في المغرب وتونس واليمن وكذلك في موريتانيا والموزمبيق والسنغال وأوزبكستان وبوليفيا والمكسيك واندونيسيا. حتى في بريطانيا تظاهر أصحاب مزارع الخنازير.

لكن مثل هذه الاحتجاجات ليست إلا وجهاً من وجوه الازمة التي وصفتها مديرة برنامج الغذاء العالمي التابع للامم المتحدة جوزيت شيران بأنها "تسونامي صامت". فمقياس الازمة اليوم هو في ما تتسبب به من فقر وسوء تغذية في الدول الفقيرة. وقد لاحظ المسؤولون والخبراء نمطاً:

نتيجة ارتفاع الاسعار بدأت الطبقة الوسطى في الدول الفقيرة تتخلى عن التأمين الصحي وتخفف أكل اللحوم لتتمكن من الاستمرار في تناول ثلاث وجبات يومياً. وبدأ متوسطو الفقر أي الذين يعيشون بدولارين يومياً يسحبون اولادهم من المدارس ويخففون أكل الخضار كي يستمروا في تحمّل كلفة الارز. والفقراء الذين يعيشون بدولار واحد في اليوم بدأوا يتخلون عن اللحوم والخضار وعن وجبة او وجبتين ليضمنوا تناول وجبة واحدة يوميا. اما المصنفين في فقر مطلق وهؤلاء يعيشون بنصف دولار يومياً فيواجهون كارثة.

وبحسب ارقام الامم المتحدة، هناك نحو مليار شخص في العالم يعيشون بدولار واحد يومياً. واذا ارتفع سعر غذائهم بأكثر التقديرات تحفظا 20% فإن مئة مليون شخص اضافي سينتقلون الى الفقر المطلق. كثيرون انتقلوا لان ارتفاع الاسعار تجاوز هذه النسبة في أماكن عدة.

وضع لا يطاق للفقراء. رئيس البنك الدولي روبرت زوليك قال حديثاً انه "في بنغلادش يستهلك كيس الارز زنة كيلوغرامين نحو نصف الدخل اليومي لعائلة فقيرة وتجاوز سعر رغيف الخبز الضعفين. والفقراء في اليمن ينفقون الان اكثر من ربع دخلهم على الخبز".

وبفعل ارتفاع الاسعار أيضاً بدأ بعض الدول وخصوصاً تلك المنتجة للحبوب فرض اجراءات صارمة. فالفيليبين مثلا جعلت تخزين الارز بغية المضاربة جريمة عقوبتها السجن المؤبد. وفي الهند حيث انتحر 25 الف مزارع عام 2007 نتيجة اليأس من نقص الحبوب وتراكم الديون قررت الحكومة تقييد تصدير الارز. ومثلها فعلت أوكرانيا وفيتنام وغيرهما.

وحددت منظمة الزراعة والاغذية الدولية "الفاو" 36 دولة حتى الآن تعاني ازمة غذاء منها 21 دولة في افريقيا وكلها تحتاج الى مساعدة. ولائحة هذه الدول لا تتجاهل حقيقة كون الازمة تهدد الاستقرار والامن فيها.

والى لائحة الدول، هناك أكثر من 73 مليون شخص في 78 دولة يعتمدون في غذائهم على مساعدات برنامج الغذاء العالمي الذي يؤمن أساساً أكثر من نصف المساعدات الغذائية في العالم. هؤلاء يواجهون احتمال تقلّص حصصهم ما لم يتأمن التمويل الكافي للبرنامج. فهذا أيضاً يعاني أزمة. كلفة المساعدات ارتفعت أكثر من 50% في السنوات الخمس الاخيرة ويتوقع ان تسجل 35% ارتفاعا اضافيا في 2008 و2009. وما لم تسارع الدول المانحة في ضخ 750 مليون دولار اضافي للبرنامج بحلول حزيران، سيضطر الى خفض الحصص الغذائية وعدد الذين يستفيدون منها.

ولكن كيف حصل كل هذا؟

الجواب البسيط هو في هذه المعادلة: الطلب ازداد كثيراً والعرض لا يكفي. الا انه جواب لا يسد جوعاً. فما صنع هذه المعادلة هو مزيج قاتل من ازمات آنية واتجاهات طويلة الامد وسياسات سيئة وحظ عاثر. وقليل من التفاصيل يظهر حجم الازمة ومدى تعقيدها وتشابك أسبابها وصعوبة تفكيكها.

لا شك في ان القوة الكبرى الضاغطة على الاسعار تتمثل في نوعين من الشهية المفتوحة: شهية الاقتصادات الصاعدة وخصوصاً الصين والهند للأكل وشهية الغرب في أميركا واوروبا للمحروقات البيولوجية. كيف؟

بصراحة، الاغنياء يأكلون أكثر من الفقراء. وكل هذا النمو الاقتصادي في الصين والهند وغيرهما ينتج طبقة وسطى جديدة من المستهلكين فتحت شهيتها على الأكل ولا سيما على اللحوم والحليب ومشتقاته. طبقة تغيّر عمليا نظامها الغذائي على نحو أقرب الى نظام الغرب في الاكل.

هذا تطور طبيعي واستياء المسؤولين الصينيين من تحميل البعض بلادهم مسؤولية تجويع العالم في محله. فالطلب على اللحوم من كل الدول النامية تضاعف منذ 1980. وكذلك الطلب على غير اللحوم. ففي الهند مثلاً هناك أكثر من 300 مليون شخص انتقلوا من تناول وجبة واحدة يومياً الى تناول وجبتين. "صحتين" والامل ان يتمكن الجميع من تناول ثلاث وجبات.

لكن المشكلة هنا لا علاقة لها بالحق في الاكل ولا بالصين تحديداً أو بغيرها، بل بحسابات بسيطة: قطعة لحم من 100 سعرة حرارية تحتاج الى 700 سعرة حرارية من غذاء المواشي. وتاليا فإن الاتجاه المتزايد الى أكل اللحوم يزيد الطلب العام على الحبوب. كذلك فإن الانتاج الحديث للحوم يستهلك كميات هائلة من الطاقة.

وتظهر الدراسات ان كمية اللحوم التي يستهلكها الفرد الصيني ارتفعت من 20 كيلوغراماً في السنة عام 1995 الى 50 كيلوغراما الان. ومثل اللحوم وللاسباب عينها، زاد استهلاك الحليب في الصين ثلاثة اضعاف في السنوات الثماني الاخيرة وكذلك استهلاك الخبز. فالاغنياء الجدد يرون أن شرب الحليب وأكل الخبز اسهل بكثير من إعداد عصيدة الارز واكثر تلاؤما مع النمط الجديد لحياتهم وهو اقرب الى النمط الغربي.

في المقابل، أن المخزون العالمي من الحبوب هو في أدنى مستوياته منذ 30 سنة وغير قادر على تلبية هذا الضغط لزيادة الطلب.

واذا كان يطيب للغرب اعتبار شهية الصين أـحد الاسباب الرئيسية للازمة الغذائية، فإن شهية الغرب للمحروقات البيولوجية لا تقل أهمية في اسباب الازمة.

تبسيطاً للمشكلة يمكن القول إن قلق الغرب من خطر تضاؤل النفط وارتفاع اسعاره ومن تغير مناخ الارض نتيجة انبعاث الغازات دفعه الى تطوير محروقات بديلة تصنّع من محاصيل زراعية مثل الذرة والنخيل وقصب السكر وازداد الطلب عليها. ويفترض ان يزداد حجم انتاج هذه المحروقات بقوة في السنوات المقبلة اذ تنوي أميركا انتاج 30 مليار غالون في 2020، فيما يهدف الاتحاد الاوروبي الى أن يكون 10% من كل المحروقات المبيعة في 2020 بيولوجية أو حيوية.

وهذا يعني ببساطة تخصيص محاصيل زراعية اضافية للوقود. والذرة في قلب المشكلة. فأميركا تؤمن 54% من الانتاج العالمي من الذرة، لكن من أصل الانتاج الكلي لهذه المادة يذهب 12% الى صنع "الايثانول" والحصة تتزايد سريعاً ومعها طبعاً سعر الذرة. وهذا لا يؤثر على اسعار الحبوب فحسب، بل على اسعار اللحوم وعلف المواشي.

الاهم أن تصدير الذرة الاميركي يواجه خطر التقلّص في السنوات الثلاث المقبلة اذا استمرت الحكومة في دعم انتاج المحروقات البيولوجية . فحتى السنة المقبلة 2009 فقط يتوقع ان يأكل "الايثانول" وغيره من هذه المحروقات ثلث المحصول الاميركي من الحبوب.

المفارقة تكمن في ان هدف المحروقات البيولوجية هو سلامة البيئة وتحديداً الحد من الاحتباس الحراري واستقلالية الطاقة والتوفير، ولكن تبيّن انها تساهم مباشرة في تهديد الامن الغذائي والادهى تبيّن انها مضرة بالبيئة. بل يذهب بعض الخبراء الى اعتبار سياسة تشجيع انتاج المحروقات البيولوجية "ضربا من الاحتيال" والقول ان فقراء أفريقيا يجوعون كي يكسب بعض الساسة الاميركيين اصواتا في الولايات الزراعية.

على أن الدراسات الجدية أظهرت أن لا توفير على الاطلاق في المحروقات البيولوجية. فاكثر التقديرات تفاؤلاً بيّنت ان انتاج غالون "الايثانول" من الذرة، يتطلّب طاقة تعادل الطاقة التي في الغالون. وأظهرت أيضا أن انتاج هذه المحروقات يعجّل في تغيير المناخ حتى حيث تعتبر السياسات المتبعة لانتاجه جيدة كما في البرازيل التي تنتج "الايثانول" من قصب السكر. فزراعة هذا المحصول هناك كما في أندونيسيا وماليزيا تتطلب قطع آلاف الهكتارات من الغابات المطرية. والنتيجة تقليص مساحات الغابات والمساهمة في الاحتباس الحراري. واخيراً فإن أي أرض تستخدم لزراعة محاصيل مخصصة للمحروقات البيولوجية لم تعد ارضا لزراعة مواد غذائية للبشر.

هذه الحقائق تدفع كثيرين بينهم واضعو سياسات، الى رفع أصواتهم ضد مواصلة سياسة تحويل الغذاء الى وقود والسؤال الذي يطرحونه: هل نزيد المحاصيل الزراعية لإطعام السيارات بدل البشر؟

والى الشهية المتبادلة هناك آثار تغير المناخ والحظ العاثر أن تصيب هذه الآثار او مجرد طقس رديء أكثر المناطق خصباً. فأوستراليا، وهي المصدر العالمي الثاني للقمح، عانت العام الماضي اسوأ جفاف لها في قرن ورأت محصولها من القمح يتقلّص نحو 60%. كذلك تقلّص محصول الصين من الحبوب بنحو 10% في السنوات السبع الاخيرة .

ولعل الاخطر في المدى الابعد وما له علاقة مباشرة بالاحتباس الحراري نتيجة التلوث أو تدمير الغابات أو غيرهما وقد بدأ يؤثر على انتاج الغذاء في الكثير من الدول هو، استناداً الى الامم المتحدة، ان العالم يفقد كل سنة مساحات من الارض الخصبة تعادل مساحة أوكرانيا أي نحو 604 آلاف كيلومتر مربع. أرض خصبة بمساحة اوكرانيا تفقد كل سنة بسبب الجفاف أو تدمير الغابات وعدم استقرار المناخ. تصوروا، تقريبا 57 مرة مساحة لبنان.

هناك أيضاً ارتفاع اسعار النفط. وهذا سبب أساسي. فالمزارع الحديثة تعتمد كثيرا على منتجات النفط. المخصبات والجرارات ونقل المنتجات الزراعية الى المستهلكين. ويمكن فهم حجم ارتفاع الكلفة الان وقد تجاوز سعر برميل النفط 100 دولار. فاستناداً الى البنك الدولي ارتفعت اسعار المخصبات 150% في السنوات الخمس الاخيرة.

وفي المناسبة، ان ارتفاع اسعار النفط له علاقة كبيرة أيضاً بالاقتصادات الصاعدة، الصين والهند وغيرهما، لانها باتت تنافس الاقتصادات الكبيرة الاخرى على الموارد النادرة.

لكن ثمة عاملاً آخر لا يمكن تجاهله وهو حرب العراق. فالذين اندفعوا اليها وعدوا أنفسهم ووعدوا العالم بنفط رخيص يتحقق سريعاً مع زيادة الانتاج. لكن الواقع ان الحرب ادت الى انخفاض الكميات المعروضة الى ما دون المعتاد.

ويضاف الى كل هذه العوامل عاملان آخران، احدهما محاولة بعض الدول المنتجة حماية مستهلكيها المحليين من الازمة بحظر التصدير أو تقييده كما فعلت الهند وأندونيسيا وفيتنام والصين وكمبوديا ومصر وروسيا وأوكرانيا والأرجنتين وتالياً جعل الاوضاع اسوأ في الدول التي اعتادت الاستيراد. اما الثاني، فيتمثل في المراهنين على ارتفاع الاسعار والمضاربين.

تعقيدات الأزمة كثيرة اذاً ومتداخلة يصعب التمييز فيها بوضوح بين ما هو آني وما هو بعيد المدى، لكن استمرارها سيجعل السبب الطبيعي الاهم، اي النمو السكاني، ازمة مضاعفة. فعدد سكان الارض يبلغ اليوم 6,2 مليارات والتقديرات انه سيزيد اكثر من ثلاثة مليارات في أقل من 50 سنة ليبلغ 9,5 مليارات. والبنك الدولي يتوقع ان يتضاعف الطلب على الغذاء بحلول سنة 2030. فاذا كان سيتضاعف في 20 سنة تقريبا من أين ستأكل كل الافواه المفتوحة عندها ولن نتساءل من اين ستأكل في 2050؟ من يُطعمها وماذا؟

الكارثة تقع اليوم لان الانتاج الزراعي لم يستطع في السنوات الاخيرة اللحاق بالطلب المتزايد لاطعام البشر والمواشي والمحروقات البيولوجية. انخفض المخزون العالمي بسرعة، بل ان هذا المخزون من الحبوب اليوم هو في ادنى مستوياته وفيه ما يكفي لأربعين يوما فقط. والبعض في اميركا يتوقع ان يبلغ مخزون القمح هذه السنة أدنى مستوياته منذ 60 عاما. ومع أن انتاج العالم من الحبوب والخضار والفاكهة واللحوم ومشتقات الحليب ازداد في 2007، بحسب برنامج الغذاء العالمي، فإن الاسعار تبقى مرتفعة وسيزيد ارتفاعها في السنوات المقبلة لان الطلب عليها سيظل أكبر من القدرة على تأمينه.

هكذا سيظل العالم يدور في الحلقة نفسها ما لم يتحرك لايجاد الحلول المناسبة للازمة على مستوياتها الراهنة والقريبة والبعيدة. الامم المتحدة انشأت خلية عمل لمتابعة الازمة وكل منظماتها ووكالاتها معنية مباشرة. الجميع فيها والخبراء متفقون ان العلاج الاسرع لتخفيف انعكاس ارتفاع الاسعار على الاكثر فقراً هو ان تدفع الدول الغنية مئات الملايين من الدولارات فورا لبرنامج الغذاء العالمي وتسمح له بمقاييس مرنة لتوزيع المساعدات وسد "الفجوة الغذائية"، كما يسميها، لان الازمة لم توجد مجاعة تحتاج الى جهد طارئ بل انها تعمم التعاسة والفقر في العالم.

اما العلاجات الابعد، فتحتاج الى اعادة نظر في السياسات القائمة، تجارياً وزراعياً وبيئياً وحتى مائيا من أجل انعاش القطاع الزراعي في العالم وخصوصاً في الدول النامية، ليس لتجاوز المأساة الانسانية فحسب بل لاحتواء المخاطر السياسية التي تهدد استقرار الكثير من الدول نتيجة هذه الازمة. فالحال اليوم ان 70% من الدول النامية هي دول مستوردة كلياً للمواد الغذائية، اما النسبة بين الدول الاكثر فقراً فأعلى من ذلك. هذه الشريحة من الدول صارت عاجزة أمام الازمة نظراً الى سرعة ارتفاع الاسعار. فلو كانت الوتيرة أبطأ لكان في الامكان تشجيع الانتاج الزراعي فيها لكنها اليوم تحاول العكس تماما، أي تعزيز الاستيراد بخفض الجمارك والضرائب عن البضائع المستوردة. اما الدول المصدرة فقد فرضت بدورها قيوداً على التصدير.

هذا لن ينقذ أحداً. فمسيرة تحرير التجارة العالمية في العقود الاخيرة لم تحصن الدول النامية في قطاعها الزراعي بل ساهمت في تحويلها دولاً مستوردة كلياً. وهنا ثمة وجهة نظر تحمّل البنك الدولي نفسه مسؤولية هذا الوضع لان الدول النامية خضعت لضغوطه وضغوط صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في تفكيك نظم الجمارك ورفع الحواجز التجارية مما سمح لشركات زراعية اجنبية كبرى ولبضائع اجنبية مدعومة من حكوماتها الغنية بتقويض الانتاج الزراعي المحلي.

في اي حال، إن خبراء البنك الدولي نفسه يدعون الى اعادة نظر ويعترفون بأن اداءه على المستوى الزراعي كان ضعيفا، لان هذه الدول، وبعدما اطلقت اصلاحاتها التجارية لم تجد في القطاع الخاص من يملأ الفراغ الذي خلّفه انسحاب القطاع العام من الزراعة.

ومما يدعو اليه البنك الدولي منذ سنتين تقريبا، مضاعفة استثمارات الري في الارياف الى 40 مليار دولار سنويا لتحسين الانتاج الزراعي بما يسمح بالحدّ من ازمة الغذاء التي رآها آتية لتستمر عقودا. ويقول إن نحو 60% من الغذاء الاضافي لتلبية الطلب المتزايد سيأتي من زراعات مروية تساهم في الوقت عينه في زيادة دخل المزارعين وخفض الفقر في الارياف.

المسؤولون في الامم المتحدة يدعون الى "عقد جديد" للغذاء لا يشمل التمويل السريع لبرنامج الغذاء العالمي من اجل ضمان استمرار مساعداته فحسب، بل يشمل دعم المزارعين في الدول الفقيرة. فبمثل هذا الدعم وخصوصاً لافريقيا يمكن هذه القارة ان تضاعف انتاجها الزراعي في بضع سنوات، ذلك ان المزارعين هناك يزرعون أقل وينتجون اقل نتيجة ارتفاع اسعار المخصبات والادوية والطاقة. وتأمين الدعم لهم اضافة الى تزويدهم البذور سيشكل حافزاً لتنشيط القطاع.

الخلاصة أن تخفيف أعباء الازمة الغذائية وتفكيك اسبابها لضمان غذاء للاجيال المقبلة يحتاج الى التزام دولي طويل الامد وسياسات جديدة. فما يتفق عليه الجميع اليوم هو ان زمن الغذاء الرخيص أو ذي السعر المستقر والذي استمر نحو 30 عاما انتهى الى غير رجعة في مستقبل منظور وان الزراعة وما توفره للانسان دخلت مرحلة انتقالية واضح انها موجعة جدا وقد تبقى كذلك الى ان يجد العالم توازنه الجديد. كل شيء يتغيّر الان والمستقر الوحيد هو ارتفاع الاسعار .

والى أن يجد العالم توازنه الجديد ستظل الازمة، بحسب كل التوقعات، تؤلم وتوقع أذى وسيكون الجوع اكتسب وجوهاً عدة تؤثر بدرجات متفاوتة على الفقراء والاغنياء وبالتأكيد على متوسطي الحال وتؤثر على كمية الغذاء الذي يأكلون ونوعيته وعلى انماط الحياة. وتاليا سيكون على الناس أنفسهم ان يستعدوا للتغيير، والاهم انه سيكون على الدول نفسها ان تسعى الى ايجاد توازن جديد بالسرعة الممكنة يضمن استقرارها ويخفف العبء عن مواطنيها وهم يحاولون البحث عن توازن جديد لحياتهم وغذائهم.

تعليقات: