فقراء الأمس وفقراء اليوم


2تعرفت على ساحة البرج في أواخر ستينيات القرن العشرين، وكان المستولون والمتسولات من معالم هذه الساحة الواسعة، التي كانت تمتد من سينما أمبير إلى سينما الريفولي، وصولا الى مقهى الاوتوماتيك، وحلويات العريسي، وموقف قباني للسيارات العمومية!

لست بصدد الحديث عن هذه الساحة، بل كنت منذ صغري، اتأثر بمشهد الفقراء الذين كانوا يفترشون الأرصفة في كل الفصول، وكنت أحسن إلى بعضهم أحيانا بقروش قليلة، غير فائضة على جيبي، بل عساني أضيف بها رقما إلى ما هم يحتاجونه لعيش بسيط!

كان الفقراء ظاهرون على الملاء، وكل واحد منهم يستقر في ركن أو زاوية من الساحة، كما تفعل قطط المنازل، فلكل منها فسحة صغيرة، تتواجد فيها دائما! تعرفت على بعضهم، ولم أشعر يوما أنهم دوني إنسانيا ووجوديا، بل كانوا يبثون في نفسي شعور الغضب والثورة، لأنهم لم يحصلوا على أكثر من لقمة عيش وضيعة، فيما كثيرون سواهم يلهثون إلى شراء موجودات سوق الذهب في شارع فرعي قريب!

لن يصدقني البعض إذا ذكرت أن حجيج وطواف الناس في ساحة البرج لم يتوقف طوال ال٢٤/٢٤؛ وكانت هذه الساحة الشريان الدافق لكل الوطن.

اقتصر حضور الفقراء على الأرصفة، ولم يدخل معظم البيوت، كما هي حالتنا اليوم، في عهد الأطراف السياسية الحاكمة "القوية"، والمستقوية!

لا يتواجد فقراء اليوم في الساحات والشوارع، لأن أعدادهم قد فاقت عدد السكان، بعد التهجير الفلسطيني، والنزوح السوري!

يغزو الفقر، في ايامنا، معظم البيوت اللبنانية، بيوت العائلات وأبنائها وبناتها، أكثر منها بيوت "العوانس"، ذكورا كانوا، أو إناثا!

كان لبنان في تلك الأيام جميل وبسيط، عاش فيه الناس على بركة الله، برغد وبحبوحة مقبولين، وكانت أمور البشر تسير بتؤدة، واطمئنان!

زاد جشع الفاسدين في السلطة مع الأيام، وانتهى أمر الذين ناضلوا وجاهدوا، إلى العوز والحاجة، كما هو حال الممثل والفنان الكبير المنسي، أنطوان كرباج، الذي انتهى به الإهمال في أيام زمر حيتان المال وأمراء الحرب، إلى مأوى قريب من مستشفى الروم في الأشرفية!

كيف يمكن لرب عائلة من طفلين، أن يوفر أبسط ضرورات العيش لهما، ولا يتعدى راتبه الحد الأدنى للاجور، ناهيك عن كونه يراهن على مشيئة الخالق،

وهبوط المن والسلوى من فضاءات ملاءها تفجير مرفأ بيروت وحرائقه، دخانا أسودا ساما قاتلا!

لا يحسن أحد على فقراء اليوم، هؤلاء الفقراء الذين صرفوا من وظائفهم، أو توقفوا عن التدريس، أو اوغلت في ضلوعهم أمراض فتاكة أقعدتهم أسرى الإنتظار الفارغ، أو ركبوا البحر في مراكب تشققت جنباتها وابتلعتهم كواسر البحر، أو قذفتهم المياه إلى رمال شواطئ النسيان!

فقراء اليوم بشر، نذروا حياتهم لخدمة وطن سطا عليه اللصوص، والسوقة، والاوباش، وطغاة المذاهب والطوائف!

فقراء اليوم ليسوا نقمة على الوطن، إنما زمر التسلط المذهبي، ومافيات تجار المواد الغذائية، وأصحاب الوكالات الحصرية لاستيراد الدواء، هم نقمة الوطن، ومصدر شقاء الناس!

يقول المثل: "إذا جاع الفقير عض القمر"، لأنه يتخيله عندما يصحو من جوعه، رغيفا شهيا ساخنا!

وأقول: إذا جاع الفقير، فإنه لن يتهيب زمركم الأمنية والحمائية، يا أشرار الوطن وأوغاده، ولن يأبه لقوانينكم البالية، بل سوف يهدم قصوركم، ويقضي عليكم، وعلى ذريتكم، التي ديدنها توارث فسادكم وإفسادكم وشروركم!

لن تسمعون نداء بداية ساعة العمل الثوري الشعبي، بل سوف يداهمكم في أوكاركم وجحوركم، ويدق فيها الفقراء رؤوسكم بنعالهم البالية، يا شياطين هذه الفانية!

* سعد نسيب عطاالله

تعليقات: