شهادة امرأة من عشائر الهرمل: العنف والثأر والنزوح


|الثلاثاء22/09/2020شارك المقال :0

شهادة امرأة من عشائر الهرمل: العنف والثأر والنزوح (1)

هذه الشهادة لامرأة من عشائر الهرمل، ينقسم السرد فيها إلى قسمين، الأول يخبر بعضاً من سيرتها بين الهرمل وبيروت، والقسم الثاني يجيب عن سؤال حول علاقتها بالعنف، عبر سرد مجموعة أحداث عايشتها، يربط بينها تأثيرها الحاسم في نظرتها إلى العالم، وتحفيزها لمخاوف من أن يطالها العنف والقتل، هي أو أحد أحبائها. ولدت المرأة في منتصف القرن الماضي، وهي حقبة بدأ فيها نزوح عشائر الهرمل أولاً من السفح الشرقي للسلسلة الغربية، إلى أحياء الهرمل الطرفية، التي تكونت فيها أحياء جديدة يغلب عليها المكوّن العشائري. وثانياً من الهرمل إلى ضاحية بيروت الجنوبية، التي قصدتها العشائر بحثا عن مستقبل مختلف لهم ولأولادهم. وصلت المرأة بيروت في فترة كانت المدينة تتحضر فيها لحرب طاحنة، ستبعثر أحلامها النسوية وطموحاتها السياسية، لتنتهي في النهاية ربّة منزل، كما كثير من نساء جيلها المناضلات، اللواتي لم يجدن مكاناً في العنف اليومي الذي ابتلع الجميع يومها.

القسم الأول:

قبل عقود طويلة، كان "الزمن العشائري" في الهرمل ينقسم بين الجرود العالية صيفاً والأودية المنخفضة شتاءً. ينطبق هذا على عائلة أبي التي اعتادت إمضاء الشتاء في وادي منعزل يقع بين عكار والهرمل، والصيف في جبل مجاور يبدو من بعيد شبيها بالقلعة بسبب احاطته بالصخور من جميع الجهات.

غالباً، اختار جدي هذه المنطقة بسبب موقعها الاستراتيجي الذي يمكّنه من حمايتها بطريقة أسهل في حال حصول معارك ثأر مع عشائر أخرى أو في حال مجيء العساكر لإلقاء القبض على أحد المطلوبين من العائلة. السلبي في الموضوع، أن عمومتي لم يكونوا يرون خلال الشتاء أحداً سواهم وسوى الماعز والغنم، ما انعكس على طباعهم التي أصبحت قاسية وخشنة.

-1-

لا تزال صورة عمي في المتراس محفورة في رأسي حتى اليوم. لا أعرف ماذا كنت أفعل هناك أو كيف سمحوا لي بالتواجد بينهم، مع أني كنت طفلة لا تتجاوز العاشرة. كان واقفاً خلف الصخرة والرصاص يتطاير من بارودته. تجمدت في أرضي وأنا أرى المشهد. كنت أحبه ولم اظن يوماً أن بمقدوره إيذاء نملة. لكنه لم يطلق النار كي يقتل كما أخبرني لاحقاً، بل فقط كي يمنع أهالي البلدة العكارية من المجيء إلى أرضنا والأخذ بثأر إبنهم القتيل.

بدأت المشكلة حين تشاجر أحد أولاد عمي مع رعاة ماعز من القبيات. كان صغيراً ولا يعرف الكثير عن الحياة. ضرب حجراً عليهم، فأصاب ولداً في رأسه. ليس من المفترض بالحجر أن يقتل، لكن حظ الولد كان سيئاً.

بعد أيام من الاشتباكات المتقطعة، تدخل المصلحون وانتهت المشكلة من دون أن يُقتل أحد. مع ذلك، بقيت لأسابيع أعجز عن النوم. أسمع صوتاً غريباً على سطح الخيمة، فأحسب أنهم يضربون الحجارة علينا من بعيد. أظل مستيقظة حتى تريني أمي بنفسها أنهم ليسوا في الخارج.

كنت أخاف أيضاً أن يحرقوا خيمنا خلال الليل. أحلم أنهم صبّوا المازوت على سقف الخيمة المصنوع من الشوك، والنار اندلعت ونحن نيام. عززت مخاوفي القصص التي كنت أسمعها من الزوار خلال سهرات الشتاء الطويلة، عن خيم حرقت خلال أزمات عشائرية سابقة، كشكل من أشكال الثأر من أصحابها.

-2-

حين بدأت أنماط الحياة بالتغير في الهرمل، ولم تعد الزراعة وتربية الماعز وصناعة الفحم، قادرة على تأمين المعيشة، بدأت العشائر تمضي الشتاء في البلدة عوضاً عن الوادي. وهو ما حصل مع عائلة أبي التي انتقلت إلى أحد أحياء الهرمل الطرفية.

لا أذكر الكثير عن ذلك الحي، سوى تلك المغارة التي قيل أن ذئباً يعيش فيها، بالإضافة للقبور في آخر التل، التي كنت أخاف المرور بجانبها، وأضطر أحياناً أن أمشي حافية القدمين ظناً مني أني سأوقظ الأموات من نومهم.

لم نعش طويلاً في هذا الحي، لأن أبي كان يخاف علينا كثيراً. ولم يعد قادراً على تحمل العيش بين العشائر، بسبب كثرة مشاكلهم. الحادثة التي دفعته لأخذ القرار بالمغادرة، حادثة قتل فيها إثنان من الدرك بعد محاولتهم اعتقال وجيه العشيرة، ما دفع الدولة للإنتقام بشكل عنيف.

المشكلة يمكن اختصارها بتعيين ضابط جديد في الهرمل، يبدو أنه كان متحمّساً، وظن أنه يستطيع بهذه السهولة فرض الأمن على العشائر. ما حصل ربما كان متوقعاً بالنسبة لأي شخص يعرف المنطقة. كيف تريد إلقاء القبض على وجيه عشيرة من دون انتظار حصول ردود فعل عنيفة؟

يومها، هرب جميع ذكور العائلة إلى الجرد، وتركونا نحن النساء والأولاد وحدنا. أتت الدبابات والشاحنات الممتلئة بالعسكر. خربوا المنازل والأغراض، وأتلفوا الزرع والمونة التي كانت طعامنا الوحيد في الشتاء. لم تنتهِ المشكلة سوى عند حصول العفو العام عن المطلوبين من قبل فؤاد شهاب، الذي قرر التعامل مع المنطقة بطريقة مختلفة، تعتمد على التنمية والتفهّم عوضاً عن مواجهة العنف بالعنف.

-3-

لم يكن بيتنا يتسع لغرفة منفصلة للأولاد، أو مساحة نمضي فيها وقت فراغنا. لذلك كنا نبقى مع أهلنا وزوارهم في الغرفة ذاتها خلال ليالي الشتاء الطويلة، ونسمع قصصاً عن أحداث كانت تحصل في تلك الحقبة أو حصلت قبل عقود طويلة.

من القصص الأكثر عنفا التي سمعتها منهم، تلك التي تخبر كيفية انتقال زعامة إحدى العشائر من فخذ إلى آخر قبل نصف قرن. وهي عشيرة لطالما عرفت بقتل الإخوة وأولاد العم لبعضهم البعض، لدرجة تظن للوهلة الأولى أن صراعاً خفيّا كان قائماً بين أجنحة العائلة على مملكة أو امبراطورية، وليس على زعامة عشيرة تعتبر من الأصغر في جرود الهرمل.

ليس هناك ما يفسر ذلك، سوى ضعف الموارد في أرضهم الجافة، وعدم وجود ما يكفي من قطعان ماعز أو أراضٍ زراعية لإطعام جميع الأفواه. قوتهم العسكرية كانت رأس مالهم الوحيد في هذا العالم، التي إن لم يستفيدوا منها في السياسة، يستثمروها بأنفسهم للغزو وفرض الخوات على القرى المحيطة.

من ناحية أخرى، لطالما أضعف هذه العشيرة صراع الإخوة وأولاد العم، وقوّض قرارهم بين العشائر الأخرى. في كل مرة يستلم أحد الأفخاذ السلطة، يبدأ باضطهاد الأطراف الأخرى من أجل إضعافها ومنعها من منافسته. يصل الاضطهاد أحياناً حد منعهم من ركوب الأحصنة، واقتناء البواريد. وفي أكثر من مناسبة، وصل حد منع بعض البيوت من إشعال النار.

مرة، أجبر زعيم العشيرة الفخذ الآخر على إبرام معاهدة، يُقسمون فيها على التسليم بزعامة الفخذ الأول وعدم محاولة أخذ الزعامة منهم. ذهبوا لإبرام المعاهدة قرب تمثال سيدة رأس بعلبك التي تؤمن بها وبعجائبها عشائر الهرمل، بالرغم من انها رمز مسيحي. خلال عودتهم من قرية رأس بعلبك، تقدم وجهاء الفخذ المتزعم، رجال الفخذ الثاني الذين مشوا على الأقدام وراءهم.

اتفق رجال الفخذ الثاني أن يقوم كل واحد منهم، بقتل الرجل الذي أمامه، وبذلك يتمكنون من القضاء فعلياً على جميع وجهاء الفخذ المتزعّم، وهو ما حصل يومها وأدى فعلياً إلى استلامهم الزعامة، التي بقوا يحتفظون بها لسنوات طويلة من بعدها (اليوم تحلل موقع الزعيم مقابل وجهاء ذوي سلطة رمزية).

لا تزال قبور القتلى حتى اليوم موجودة في المكان نفسه الذي قتلوا فيه. ستة قبور وحيدة في الصحراء الفاصلة بين الهرمل ورأس بعلبك، مصنوعة من حجارة تبدو شبيهة بتلك الموجودة في الآثار الرومانية. عندما رأيتها للمرة الأولى في حياتي شعرت برهبة غريبة. ومن يومها لم أعد أمرّ في تلك المنطقة المسكونة بأرواح قتلى لا يزالون ينادون بالإنتقام والثأر.

-4-

بعد نصف قرن من تلك الحادثة، بدأت العشائر رحلة نزوح طويلة من الجرود إلى البلدة. لم تكن العشائر معتادة العيش مع بعضها البعض، ما أدى إلى ظهور الخلافات القديمة على السطح. شهدت تلك الفترة ازدياداً ملحوظاً في أحداث العنف والثأر بشكل غير مسبوق، ما جعل عيش عائلات الهرمل الأصلية كابوساً لا ينتهي.

كان كل شيء يبدأ في السوق.. إما بسبب طرطشة مياه أو أفضلية مرور أو حتى نظرة غريبة. عندما كان يُقتل أحدهم تبدأ عمليات الثأر. مرات عدة، كنا نضطر للانتقال إلى بيت أحد أقاربنا داخل أحياء الهرمل القديمة، لأن مجنوناً قرر أن يطلق النار أو يضرب آر. بي. جي نحو حيّنا.

عندها، قرر أبي نقلنا بعيداً عن أقاربنا، إلى حي يسكنه أبناء عائلات الهرمل التي تعتبر أقل عنفاً بأضعاف من العشائر. لكن بالرغم من ذلك، استمر خوفه علينا. فالهرمل بالنسبة إليه بأكملها أصبحت معرضة للمشاكل. عشرات الأشخاص قتلوا في ساحات الهرمل وأسواقها على مدى العقود اللاحقة، جزء كبير منهم عن طريق الخطأ، لأنه صودف مرورهم في اللحظة التي قرر أحدهم اطلاق النار على شخص آخر.

كان يرى الرصاص الطائش أكثر قتلاً، من الذي يطلقه صاحبه بهدف القتل، وكان لديه نظريته الخاصة التي كنت أراها صحيحة: "الناس تطلق النار غالباً من أجل التهديد (إن لم يكن هناك ثأر) ولا تقتل سوى في الحالات الاستثنائية، لذلك الأبرياء عرضة للقتل أكثر من المجرمين".

أي شخص يتابع عن كثب حصيلة الإشكالات بين العشائر، سيلاحظ أن نسبة الذين يقتلون عن طريق الخطأ تفوق بأضعاف الذين يقتلون عمداً. طبعاً، في زمننا هذا، أصبح كلام أبي أكثر صحّة، وينطبق أيضاً على عائلات البلدة الأقل احترافاً في عالم العنف والمشاكل، الذين ازداد السلاح في أيديهم بشكل كبير بعد بداية الحرب السورية.

تعليقات: