\"إخفاء\" المحروقات: تواطؤ الشركات والقوى السياسية والأمنية

يعمل المحظيون سياسياً وحزبياً على تخزين كميات من البنزين والمازوت (ريشار سمور)
يعمل المحظيون سياسياً وحزبياً على تخزين كميات من البنزين والمازوت (ريشار سمور)


الثابت الوحيد هو أن لبنان سقط في دوّامة لا خروج منها، إلاّ بتصوّرٍ مختلف عمّا كانت تُدار به البلاد على مدى العقود الثلاثة الماضية. وإلى حين بلورة آلية جديدة للإدارة، سيدفع الجميع الثمن، بدءاً ممّا نشهده من أزمات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ومن فقدان للسلع أو تقنين توفيرها ورفع أسعارها، وعلى رأسها المحروقات التي باتت كالبورصة، ترتفع أسهم توفّرها وتنخفض على وقع الأزمات السياسية وتأرجح سعر الدولار في السوق السوداء.

تقنين أم أزمة؟

التنقّل من شمال البلاد إلى جنوبها، مروراً في مناطق الداخل، يؤكّد وجود خطب ما بخصوص توفير المحروقات. وتتبدّل صُوَر التعبير عن الخطب بحسب المناطق. فبعض محطات المحروقات ترفع خراطيمها معلنة عدم وجود أي كميات للبيع، فيما أخرى تقنّن البيع بمعدّل 20 ألف ليرة لكل سيارة. وبعض المحطات تقنّن توقيت فتح أبوابها بمعدّل ساعتين صباحاً وساعتين بعد الظهر.

لا يستغرب ممثل الشركات الموزعة للمحروقات في لبنان فادي أبو شقرا، كلّ ما يُنقَل من مشاهد على المحطّات، ومن ضمنها طوابير السيارات. فبرأيه، "اليوم لا يستورد لبنان بالوتيرة نفسها التي كان يستورد بها سابقاً". وبحسب ما يقوله لـ"المدن"، فإن "ألمسألة متوقّفة على توفير الاعتمادات للاستيراد. وبفعل البطء في عملية الاستيراد، تتجه بعض الشركات إلى اعتماد سياسة التقشّف في الإفراج عن مخزونها". وهنا يتكامل تقصير الدولة مع مصالح الشركات المستوردة لعدم تسليم السوق كامل حاجته. لكن ما تشهده محطات المحروقات حتى الآن "هو شحّ وليس أزمة، لأن المسألة تتوقّف عند التقنين وليس انقطاع المحروقات كلياً".

رفض وصف الواقع بالأزمة، يحيل إلى التساؤل حول ما ستؤول إليه الأوضاع بعد رفع مصرف لبنان الدعم عن استيراد المحروقات، وهو ما بشَّرَ به حاكم المصرف المركزي رياض سلامة. فحتى وإن كان السوق في وضع التقنين لا الأزمة، فهو يحتاج إلى تدخّل ورعاية من الدولة. وبغياب الرعاية، يصبح القلق من تطوّر الأوضاع إلى أزمة، مشروعاً.

الحلول مفقودة

على النقيض تماماً ممّا يقوله الأشقر، يلعب النفوذ الحزبي والتجاري دوراً بارزاً في اختلاق أزمة لا مبرّر لها. فمن الجنوب إلى الشمال، يعمل المحظيون سياسياً وحزبياً على تخزين كميات من البنزين والمازوت، وهو ما تميّزت به منطقة الجنوب تحديداً بعد انكشاف هوية عدد من الحزبيين والنافذين. وهذا الفعل يؤكّد أن كل ما يجري في هذا الملف هو أمر مفتعل ولا يتناسب مع حجم أزمة توفير الدولار للاستيراد.

والأمر اللافت هو معرفة أماكن وهوية من يخزّن المحروقات ومن يمنع توفيرها في السوق. فالقوى السياسية والأمنية والحزبية وأهل القطاع النفطي، يدركون كافة تفاصيل الأزمة، لكنّهم يواصلون اللعبة والتظاهر بأنّ شيئاً ما خارج المألوف يحدث.

في جميع الأحوال، وفي معرض المقارنة بين الشحّ والأزمة، يبدو أننا مقبلون على الأخطر. فالأزمة المقبلة لن تُختَصَر بطوابير السيارات أمام المحطات، إذ قد تمتد إلى طوابير المرضى أمام المستشفيات وطوابير أمام الأفران، لأن المازوت مادة أساسية في تسيير أكثر من مرفق وقطاع. وهنا "كان من المفترض بالدولة أن تدير الشح أو الأزمة أو مهما كانت التسمية"، على حد تعبير مصادر في وزارة الطاقة. لكن "غياب الحكومة القوية وانغماس وزارة الطاقة في مشاريع يستفيد منها بعض الأشخاص، أفقَدَ الدولة قدرتها على تنظيم توفير المحروقات".

وتشير المصادر إلى أن "الشركات المستوردة للنفط، بالاضافة إلى الموزّعين، لا يريدون المغامرة بتوفير كامل احتياجات السوق من المحروقات، لأنهم يتوقّعون الأسوأ دائماً، فلا حلول واضحة تطمئنهم. لذلك يتّجهون إلى حماية أنفسهم عبر تقنين توفير المحروقات، لضمان استمرارية البيع بأسعار مرتفعة مع كل محطّة ارتفاع للدولار".

الإشارة إلى فقدان الحلول "ليس تهويلاً بقدر ما هو توصيف للواقع"، برأي المصادر. إذ أن "القوى السياسية فقدت السيطرة على الأرض وأصبح كل شيء يسير بحسب نفوذ من يملك المال والمّادة المراد بيعها، وكل النقابات المعنية باستيراد وتوزيع وبيع المحروقات تعلم ذلك، لكن لا أحد من تلك الجهات يحمل مسؤولية الإعلان الصريح عن الواقع".

فقدان السيطرة يعني "استمرار مسلسل تقنين المحروقات". أمّا الحل. فلا حل. "بهذه البساطة يُختَصَر الأمر.. لأن من يُفترض بهم إيجاد الحل وتطبيقه، منشغلون بتوزيع المناصب في الحكومة".

أمام وزارة الطاقة دور مهم لتلعبه، بمؤازرة من القوى الأمنية ووزارة الاقتصاد، غير أن أحداً من هذه الجهات لا يقدّم أكثر من دور فلكلوري. وعليه، هي مسألة وقت حتى ترتفع أسعار المحروقات بمعدّلات تُجبر الكثير من اللبنانيين على تقنين شراء المحروقات من تلقاء أنفسهم، ما يقلل نسبة التقنين ويزيد مستوى الأزمة. وعندها، لن يقوى أحد على وصف الواقع بأقلّ من "الأزمة".

تعليقات: