عن القنطرة وطريقها التي تروي قصص الانتصار

بقايا السياج الشائك في القنطرة (حسن بحسون)
بقايا السياج الشائك في القنطرة (حسن بحسون)


إنه عيد التحرير في «مقاطعة الجنوب» التي خصّتها الحكومة الحالية قبل عام بالعيد كله، تحتفل به وحدها بعد أن ألغته عيداً وطنياً وعطلة رسمية. لكن المقاطعة هي لها من القنطرة إلى شبعا... مقاومة شعبية وبالسلاح

الطريق إلى القنطرة هي العيد كله. الأشجار والصخور والطيور وعيون الماء هي أطفال العيد. وأي عيد يزامن المدى بين الغندورية وبوابة القنطرة؟! إنه وادي الحجير. في أوله نصب شهداء المقاومة الذين سقطوا في مواجهات الغندورية التي حسمت النصر، وفي آخره لا شيء يبقي لزمن الاحتلال أثراً. حتى إن بوابتي العبور اللتين أذلّ عملاؤها الكثيرين في زمن الاحتلال وأعزّتهم المقاومة في زمن النصر، قلعتا من جذورهما، إما لأن الأهالي قلعوا معها ذكرياتهم عليها، أو لأن بائعي الحديد لم يبقوا لها باقية.

هذه طريق الانتصارات المزمنة التي تنسي الجنوبيين على طرفي الوادي ندوب الاحتلال والاعتداءات المتكررة التي ليس أولها فصول العملاء في وادي السلوقي أو وادي الشهداء ومواقع الشومرية وحرج الزين والصلعة وفي كل زاوية هنا وهناك، وعساه آخرها عدوان تموز.

طريق النصر ما قبل الأخير الذي مشى قبل تعقّب المقاومين للجنود الإسرائيليين ودباباتهم في عدوان تموز، كان نهار الأحد في مثل هذا اليوم الأول للتحرير قبل ثماني سنوات، حينما سار بقرار مسبق ومنسق، بعض الأهالي المبعدين من قراهم المحتلة حينها وبعض سكان قرى التماس المقابلة ظهراً من الغندورية نزولاً باتجاه وادي الحجير، واقتحموا بوابتي القنطرة حيث يبدأ الاحتلال وأكملوا صعودهم باتجاه البلدة ليعلموها أنها ولدت من جديد، قبل أن يتركوها مجدداً ليدقوا أجراس الحرية في بلدتي عدشيت القصير ودير سريان المقابلتين، وإليها إلى القرى كلها.

عقيل إبراهيم الذي لم يترك بلدته دير سريان في احتلالها وحريتها إلا في أيار من عام 1985 إلى بيروت، التي كأنه نزلها خصيصاً ليتلقّف رصاصة طائشة قصدته أثناء مروره صدفة في أحد الشوارع خلال حرب المخيمات ليعود على عربة متحركة، يقول إنه وسواه ممن بقي في البلدة من عجائز، علموا بنبأ الحرية «إما عبر الإذاعة أو عبر اتصال ممن علم قبلهم خارج المنطقة المحتلة، وإما أنهم فوجئوا بمواكب التحرير، لأنه لم يكن ما يوحي باندحار الإسرائيليين والعملاء من مواقعهم».

ويروي سمير ناصر محطات مسيرة الحرية التي كلما وصلت إلى بلدة انتظرها سكان البلدة التالية ليستقووا بهم ضد الإسرائيليين والعملاء الذين كانوا لا يزالون في مواقعهم. ولدى استكمال المسيرة بعد دير سريان إلى الطيبة باتجاه العديسة، أقفل العملاء مدخلها بالسواتر الترابية، فانبرى الشهيد سلمان رمال من الأهالي بجرافته لفتح الطريق قبل أن تعاجله قذيفة من موقع العويض المقابل.

الذكريات

صارت الذكريات هاجساً هنا يجعل الواقع سراباً ولا يبقى سواها. تتكدّس ذكريات ذلك اليوم وما قبله وما بعده، ويتمسك بها الأهالي ويتسابقون على سردها تكراراً ولو على مسامعهم، كأنها الإرث الوحيد الباقي في حرب الإبادة ضدهم «كأننا بعد حين قد نمسك ذكريات المقاومة والانتصار كما يمسك الفلسطينيون الآن مفاتيح العودة» تقول الأسيرة المحررة وفيقة عليق من القنطرة. وتتابع «ليس مستبعداً أن ينكروا علينا كل ما قدّمناه واستحققناه بالدم والمقاومة أولئك أشباه اللبنانيين الذين يتركون الآن البحث في كل مشاكلنا وينشغلون بضرورة نزع سلاح المقاومة». وتقارن بينهم وبينها لحظة نذرت يوم إبعادها من البلدة أن «تعود إليها لحظة تحريرها ماشية حافية أينما كانت، حين أطلقت في عام 1986 من معتقل الخيام لتعاملها مع المقاومة بعد أن قبعت فيه 7 أشهر و4 أيام و4 ساعات».

بين القرى، العيد هذا العام يطفح مرارة بدأت تملأ جرار السكان منذ عام، حينما ألغت الحكومة ذكرى التحرير كعيد وطني، حتى فاض بالحملة المكثفة ضد المقاومة وسلاحها وشعبها. حتى بات الشعور الجنوبي العام بأنها «مقاطعة معزولة متمردة وخارجة عن الشرعية تعد الجيوش عدتها لمهاجمتها وإسقاطها» يقول عقيل الذي لم تذب غصته حتى الآن إذا ما استذكر لحظة واحدة من زمن الاحتلال. لا يحتاج عقيل لأن يستفيض في سرد الزمن الأسود بل يكتفي بأن يقرأ السلام على فضل كريّم المبعد من دير سريان الذي يعيش قريباً في النبطية، كان يرسل إلى أمه التي باعدهما الاحتلال لسنوات وتعيش وحدها في البلدة، أغراضاً ولوازم ومالاً مع سائق من كفركلا كل أسبوع. وفي يوم اشترى فضل الأغراض وطلب إلى السائق أن يوصلها كالعادة إلى أمه، فأجابه «أمك ماتت منذ أيام عدة». لأن فضل هو «كل جنوبي كان قابعاً تحت الاحتلال أو الإبعاد على السواء، يبدو أن لا أحد سوانا يدرك ما عانيناه، مثلما تركنا نقلّع شوكنا بأيدينا في الاحتلال وحتى بعد التحرير، لذا فإنه من السهل أن يدعو البعض إلى نزع سلاح المقاومة أو كشف شبكة اتصالاتها أو حتى ينشد اتفاق سلام مع إسرائيل».

عن القنطرة

لا تختلف بوابة المنطقة المحررة في العيد الثامن لاقتلاع المعبر الحديدي عند مدخل القنطرة عن بوابة فاطمة. تعب المحررون حتى من العتب على الدولة التي جاءت بأمها وأبيها بعد أيام من إنجاز التحرير واجتمعت في بنت جبيل، في جلسة نيابية عامة بحضور الحكومة برئاسة سليم الحص، لبحث تنمية المنطقة وعودتها إلى حضن الدولة التي لم يروها أو يلمسوها أو يحسوها كما طلب الرئيس نبيه بري. لكن هذا ما حصل بالرغم مما وعد به كلا الرئيسين الحص والحريري، من العمل الجاد لتأمين حاجات المواطنين وتحقيق مطالبهم المشروعة التي كان منها أيضاً الطرق التي تشارف الهيئة الإيرانية لإعمار لبنان على إنجازها، والمستشفيات والمستوصفات التي تدعم بعضها وحدات اليونيفيل، وتأمين فرص العمل لآلاف الشبان والشابات الذين لا نجد أثراً لمعظمهم هنا في القنطرة، وهي نموذج لمختلف البلدات الأخرى. طرقها الضيقة التي «رقّع» زفتها مراراً أنقذتها أخيراً الأيدي الإيرانية التي «نفضت» الشوارع والطرق من جذورها وأهّلت شبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، ما عدا شبكة الاتصالات الثابتة التي لم تصل بعد إليها. وإذ زاد عدد القاطنين فيها من 12 عائلة إلى عشرين خلال ثماني سنوات، فإن الحرية هي مكسبها الوحيد بعد أن كانت منطقة عسكرية للإسرائيليين والعملاء.

لكن العتب مرفوع عن الدولة الحالية لناحية وعودها التنموية، لمّا كشّرت لهم عن أنيابها منذ عدوان تموز، وصار الأمل المنشود ولو بالقوة بأن تتركهم ومقاومتهم وشأنهم.

الشيء الإيجابي هذا العام هو أن العيد في 25 أيار يحلّ في يوم العطلة، ما يمكّن أبناء المنطقة المحررة الذين يسكنون خارجها من أن يستذكروا ذلك اليوم تحت شمس الحرية من دون منّة الدولة التي حرمتهم في السنة الماضية من العيد، وأسرتهم في مراكز أعمالهم.

تعليقات: