الأستاذ الخصوصي «شرط» النجاح: التعليم للميسورين فقط!


لم يعد التعليم الخصوصي ترفاً كما قبل جائحة كورونا، بل «حاجة ملحّة» بالنسبة إلى كثير من الأهالي ممن يواجهون صعوبات تعليمية وتقنية في تدريس أولادهم مع التحول إلى التعليم عن بعد. وهي صعوبات أدّت بالبعض إلى الإحجام عن تسجيل أبنائهم في المدرسة هذا العام لعدم قدرتهم على مواكبتهم بأنفسهم، وعجزهم عن تسديد تكاليف التعليم الخصوصي في آن. هكذا، استسلمت سمر خير لفكرة إبقاء أبنائها بلا تحصيل، في انتظار زوال الوباء والعودة إلى الصفوف، لتجنّب تكرار تجربة العام الدراسي الماضي «الفاشلة» مع التعليم «أونلاين».

تلامذة الروضات والحلقة الأولى من التعليم الأساسي بدوا الأكثر حاجة إلى الدروس الخصوصية. لم تتردّد خديجة عطوي، مثلاً، في اعتماد هذا الخيار، للاطمئنان إلى اجتياز ابنتها «مرحلة التأسيس» بنجاح حتى لو كلّف الأمر «قطع اللقمة عن الفم».

ولأن تعليم الصغار يتطلّب مهارة خاصّة، لم تستطِع مدرّسة اللغة الإنكليزية للمرحلة المتوسطة، ميساء بركات، أن تكون معلمة لابنتيها في الأول والثاني أساسي، لذا استعانت بمعلمة خصوصية لديها «أسلوب مناسب في تدريسهما».

كلفة التعليم الخصوصي يحدّدها الأستاذ بالتوافق مع أولياء الأمور، وتراوح بين 200 ألف ليرة و500 ألف شهرياً، بحسب المؤهّلات التي يملكها الأستاذ وخبرته في التعليم من جهة، والصفوف التي يدرّسها من جهة ثانية. فكلّما كان الصف أعلى، كلما كانت كلفة التدريس أكبر. وفي بعض الأحيان، يعرض أهالٍ على الأستاذ أجراً مرتفعاً مقابل جهد إضافي. فماجدة الموسوي تدفع مليون ليرة شهرياً لمعلمة خصوصية لاقتناعها بأن توفير الراحة النفسية لها سينعكس حتماً على جودة تعليم أبنائها.

هذه الكلفة المستجدة تُضاف إلى الأقساط المدرسية واشتراك الكهرباء والإنترنت اللذين يفرضهما التعليم «أونلاين»، تشكل عبئاً مادياً ثقيلاً على الأهالي، كبركات التي تؤمّن بشق النفس 400 ألف ليرة شهرياً لمعلمة خصوصية، «لكن ذلك يبقى أفضل من أن أدفعها لقاء أدوية أعصاب». إذ أن عدم القدرة على الاستعانة بأستاذ خصوصي يدفع الأم إلى توظيف كل مهاراتها وبذل أقصى جهودها لتدريس أولادها وهو ما يسبّب لها ضغوطات نفسية ويخلق جوّاً من التوتر في البيت.


البعض لم يسجّلوا أبناءهم في المدارس للعجز عن دفع كلفة التعليم الخصوصي

ثقافة «إلزامية» التعليم الخصوصي تزامنت مع أزمة اقتصادية خانقة يعيشها اللبنانيون. فظهرت فروقات اجتماعية وتعليمية واضحة بين التلامذة. ويعود ذلك إلى عدم معرفة بعض أولياء الأمور بتقنيات التواصل الحديثة واكتفاء بعض المدارس بتسجيل المواد التعليمية وإرسالها إلى التلامذة على شكل ملفات و«فيديوهات» بلا أيّ شرح. وبحسب الاختصاصية في الإدارة التربوية فاطمة نصر الله، ستواجه إدارات المدارس، بعد زوال الوباء، صعوبة في تقييم التلامذة لقياس الأهداف التي اكتسبها كل تلميذ طوال فترة التعليم عن بعد.


«التخبيص» عن بُعد: ضعف المستويات آتٍ

فاتن الحاج

تجربة التعليم عن بعد أظهرت أن «التخبيص» الحاصل لا يكمن في استخدام الوسائط التواصلية المستخدمة بل في غياب إعداد المعلمين للمحتوى المقدّم عبر هذه الوسائط وعدم وجود هندسة تربوية تضمن عملية الاكتساب. النتيجة، عاجلاً أم آجلاً، ستظهر ضعفاً في مستوى التلامذة

مع فتح وزارة التربية مسارات مختلفة للتعليم عن بعد، في غياب التخطيط ووحدة المعايير، تُرك كلٌّ من مكوّنات الأسرة التربوية «يدبّر راسو بمعرفتو». نحو 60 في المئة من تلامذة المدارس الرسمية اختاروا - طوعاً أو قسراً - التعليم بواسطة «واتساب». 10 في المئة فقط من المعلمين في القطاع الرسمي البالغ عددهم نحو 40 ألفاً تلقّوا «تدريباً إلكترونياً»، فيما تنطبق مقولة «الشاطر بشطارتو» على بقية المعلمين الذين سعى بعضهم إلى التدرّب الذاتي على المنصات التعليمية التفاعلية («تيمز» و«زوم» وغيرهما)، و«هرب» قسم آخر إلى «واتساب»، إما لعدم إجادتهم استخدام هذه المنصات، أو لأنهم استسهلوا الوسيلة بسبب تجاوب الأهل الذين لا يريدون الالتزام بتعليم تزامني مباشر والبقاء إلى جانب أبنائهم في أوقات محددة. وبذلك، يمكن أن يعودوا إلى الرسائل والـ«فيديوهات» التي تُرسل عبر التطبيق في أيّ وقت.

في المقابل، كثر من الأهالي شكوا من كمية الـ«فويسات» والـ«فيديوهات» التي يتلقّونها يومياً من دون أي شرح للموضوعات والمفاهيم. إذ «بيبعتولنا 20 فويس بالنهار ونحنا بدنا نفرزها»، كما تقول إحدى الأمهات التي أصبحت مقتنعة بأن الاعتماد على أستاذ المدرسة وحده لم يعد يكفي لنجاح ابنها في البريفيه، ولا بد من الاستعانة بمدرّس خصوصي لإعادة شرح الدروس.

بعض المديرين يتحدثون عن «مشهد مخيف». إذ أن بعض التلامذة «لا يحضرون الصفوف وليس هناك أي تواصل بين المدرسة والأهل الذين لا يملكون أدنى فكرة عن تحصيل أبنائهم، إما بسبب ظروف معينة أو لاستخفافهم بالتعليم عن بعد». بحسب مدير متوسطة رسمية، الخلل الأساس «يكمن في تخبّط الإدارة التربوية في وزارة التربية والتناقض بين القرارات الارتجالية. فمن جهة يدعوننا إلى عدم إرهاق التلامذة، ومن جهة يفرضون علينا إعطاء 6 حصص تعليمية في اليوم ويسلبوننا سلطة محاسبة الأساتذة المنكفئين عن أداء واجباتهم». فيما «لم ينجح الرهان على انحسار موجة كورونا ولم توضع خطة ترميم لتعويض التلامذة ما فاتهم من الكفايات المفترض تحصيلها منذ العام الدراسي الماضي».

التلامذة «يُظلَمون في ظل معوقات كثيرة أمام التعلم عن بعد ولا سيما بالنسبة إلى التجهيزات والإنترنت والواقع الاقتصادي»، بحسب أستاذ الفلسفة في التعليم الثانوي الرسمي حسين غدار. صحيح أن «معظم الأساتذة يقومون بأفضل الممكن ضمن المتاح»، إلا أنه لا جدل حول الإنتاجية المحدودة للتعليم عن بعد، رغم أن هذه الإنتاجية تتفاوت بين مدرسة وأخرى ومرحلة عمرية وأخرى، بحسب رئيس اللجان النقابية في التعليم الأساسي الرسمي ركان الفقيه، لافتاً إلى عدم جواز «جلد الأستاذ الذي، كما التلميذ، يعمل في ظروف خانقة صحياً واقتصادياً وفي ظل نظام تربوي متخلّف». لكنه لا يستبعد أن «يتلكأ البعض في أداء واجباته، لكون الإدارة التربوية تركت الأستاذ لضميره، فالرقابة ضعيفة، والمتابعة من جهاز الإرشاد والتوجيه خجولة، في حين أنه ليست لهذا الجهاز صفة المحاسبة». أضف إلى ذلك أن «أزمة التعليم الأساسي الرسمي تكمن في عدم معالجة ملف المتعاقدين لجهة تثبيتهم وإعطائهم حقوقهم علماً أنهم يمثلون الجزء الأكبر من الجسم التعليمي في هذا القطاع».

للقطاع الخاص أيضاً مشاكله مع التعليم عن بعد. فالعودة إلى الصفوف في بداية العام الدراسي كشفت، بحسب عضو مجموعة «نقابيات ونقابيون بلا قيود» والتيار النقابي المستقل، مهى طوق، حجم الفجوة التعليمية بعد الترفيع الآلي للتلامذة العام الماضي. وفي التعليم الخاص، «يظهر واضحاً التفاوت واللاعدالة». ففي حين تؤمّن بعض المدارس الكبيرة 20 أو 40 جيغابايت للتلامذة لمتابعة التعليم «أونلاين»، لا يختلف حال التلامذة «الفقراء» في هذا القطاع عن تلامذة المدارس الرسمية. وفق طوق، «عاجلاً أم آجلاً ستظهر نتائج التخبط ضعفاً في مستوى التلامذة، في حين أنه كان ينتظر ابتداع خطة وطنية تقوم على التعاضد الاجتماعي من خلال السماح للأساتذة الذين يملكون كفاءات ومهارات إلكترونية في التعليم الرسمي والخاص بتدريب زملائهم في التعليم الرسمي والمدارس الخاصة في الأطراف، ولا سيما خلال الصيف الماضي وفي الفترات التي رُفع فيها الحجر». المسؤولية الثانية تقع، بحسب طوق، على بعض إدارات المدارس الخاصة التي لا تصغي إلى مشاكل الأساتذة في هذا التعليم، والهم الأساس بالنسبة إليها أن تظهر للأهل بأنها تدرّس أبناءهم لتبرير تحصيل الأقساط. وتؤكد أن الأستاذ غير قادر على تقييم التلميذ بطريقة عادلة وموضوعية من خلال الاختبارات «أونلاين» بسبب تدخّل الأهل مباشرة في المراحل الأساسية لمساعدة أبنائهم واختراع بعض الطلاب بغطاء من أهلهم أحياناً أدوات غش محترفة عصية على الاكتشاف ولا سيما في المراحل التعليمية العليا، مثل وصل الكمبيوتر بالتلفزيون وغيرها.


الحصة عن بعد لا يجب أن تتجاوز الـ 20 دقيقة بالحد الأقصى لضمان فعّالية الاكتساب

يذهب الباحث في التربية والفنون نعمه نعمه إلى أن «ما يحصل في المدارس حالياً ليس تعليماً عن بعد، إنما تمرير لوقت التلامذة وتبرير لدفع رواتب الأساتذة». إذ «ليست هناك معايير لقياس عملية الاكتساب، والملامة لا تقع على المعلمين الذين يقوم معظمهم بجهد استثنائي». ولفت إلى أن «الجميع يذهبون باتجاه تقييم أداة التعلم (واتساب، تيمز، غوغل كلاسروم، زوم...)، في حين أن المشكلة تكمن في الهندسة التعليمية ومدى تكيّف المضمون مع الأداة». فالحصة الدراسية، مثلاً، «لا يجب أن تتجاوز مبدئياً الـ 20 دقيقة منها 5 دقائق للتحاور مع التلامذة، وبعدها لا يمكن المباشرة بحصة قبل نصف ساعة يُجري خلالها التلميذ نشاطاً مختلفاً كلياً، لأنْ لا أحدَ من المربين والمشرفين على العملية التعليمية يأخذ في الحسبان الضجيج الناتج عن الوسائط التعليمية والذي يخفّض مستوى الاكتساب إلى النصف في أحسن الحالات، فكيف إذا كان مزاج المعلم سيئاً أو وضع التلميذ النفسي غير مستقرّ، عندها الاكتساب يمكن أن ينخفض إلى الصفر». لذلك، لا يتردّد نعمه في اقتراح أن «يرسل المعلمون توجيهات إلى الأهل حول كيفية تعليم أبنائهم وعدم إخضاع التلامذة لهذه التجربة القاسية»!


التّدريب غير إلزامي

رانيا غصوب، رئيسة مكتب الإعداد والتدريب في المركز التربوي للبحوث والإنماء، أقرّت بأن غياب إلزام المعلمين بالتدريب يقف عائقاً دون الوصول إلى العدد الأكبر من المتدرّبين بهدف تطوير كفاياتهم. وفي حال وُجدت الإلزامية، «فلا محاسبة من الجهات المعنية إذا تغيّب المعلمون عن التدريب». وأوضحت أنّ جائحة كورونا عدّلت في خطة التدريب السنوية الاعتيادية الّتي كانت تتضمن نحو 2000 دورة مختلفة وفقاً للمواد والصفوف والموضوعات، وذهب التفكير منذ حلول الجائحة باتجاه البحث عن احتياجات المعلمين في التعليم المدمج والتعليم عن بعد، ليتبين أن هناك ضرورة ليتمكّن المعلّم من مقاربة تحويل التعلم التقليدي إلى تعلم مدمج: أنواع التعلم المدمج، والمحتوى الإلكتروني والأدوات المستخدمة. لذا جرى تصميم ثلاثة مقرّرات تدريبية تفاعلية بحسب وتيرة المتدرب الذاتية، منها استخدام منصّة مايكروسوفت تيمز من أجل تعليم وتعلّم أفضل، منصّة المركز التّربوي: مبادرة التعلّم الرقمي التي تتناول المحتوى وملاءمته مع المنهج اللبناني وتصميم الدروس وتحضيرها للتعليم المدمج. وتقرّر، بحسب غصوب، أن تكون الدورات غير متزامنة مع متابعة آلية، أي إرساء التدرب الذاتي، بحيث إن المعلمين يستطيعون الاطّلاع على محتوى المقرّرات وتنفيذ الأنشطة التفاعلية والتقييمات الذاتية والمشاركة في منتديات المناقشة في الوقت الذي يجدونه مناسباً، فيما تستطيع الإدارة التربوية من خلال نظام إدارة التدريب معرفة من هم المعلمون الذين شاركوا في هذا التدريب وماذا حصّلوا منه. كما تمّ تطوير مقرّرات تدريبية متزامنة تتعلق بتقليص المناهج والدعم النفس - الاجتماعي. ورأت غصوب أن غياب الحوافز (إعطاء درجات وما شابه) يسمح بعزوف المعلمين عن المشاركة.



تعليقات: