“كامل” و”عامل”.. سيرة إنسان ومؤسسة


عندما يخوض أي باحث في غمار الميدانين الأهلي والمدني العربي، يصطدم بثقوب سوداء ولوائح إتهامية طالت وتطال خزائن بعض جمعيات المجتمع المدني وحراكاتها المتقطعة أو المدفوعة الأجر، ولنا في تجارب جمعيات في لبنان ومصر وفلسطين المحتلة والعراق ودول عربية عديدة، الكثير من الأسئلة وعلامات الإستفهام.

من ينسى شهادة الديبلوماسي الأميركي جيفري فيلتمان أمام الكونغرس الأميركي عن أموال دفعتها الولايات المتحدة إلى وسائل إعلامية لبنانية وإلى جمعيات بعنوان “المجتمع المدني” بهدف تشويه صورة المقاومة في لبنان، أو ما أثاره بشار شموط في كتابه الأخير عن الريبة التي تطال عمل مؤسسات المجتمع المدني تحت سلطة ما بعد أوسلو، أو في شهادة السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون في الكونغرس أيضاً عن دعمها المالي لهذه الجمعيات أثناء أحداث 25 يناير المصرية وغيرها من دفاتر مُغلقة ومُغلّفة بالأسرار، أو ما جاء في كتاب الدكتورة أماني قنديل في الموضوع عينه.. ولكنها إتهامات لا يُمكن أن تطال جهود وتاريخ جمعيات، مثل مؤسسة “عامل” في لبنان، وهذا ما تطرق إليه الدكتور كامل مهنا في صفحات كتابه الجديد، بعنوان:”أبعاد التنمية والعولمة المستبدّة – مؤسسة عامل الدولية والقطاع المدني في لبنان” (صادر عن دار الفاربي).

والحقيقة أنه بينما كان الكثير من أصدقاء كامل مهنا يقرأون كتابه الجديد، فاجأهم بكتاب ثانٍ بعنوان “الصحة من نيران الحرب إلى تداعيات الجائحة” (مؤسسة عامل والقطاع المدني يمنعان تفكك المجتمع اللبناني).

لن أخوض في غمار الكتاب الثاني الصادر عن دار الفارابي أيضاً، على أهمية عنوانه الصحي المحلي والعالمي (كورونا) وكيفية الحفاظ على صحة البشرية، بل سأركز على كتاب “أبعاد التنمية” لأهمية وحساسية الموضوع، ومن خلاله للإطلالة على شخصية الكاتب الذي يصح القول فيه إنه كتلة متقدة من النشاط والحيوية برغم سنواته الـ 78، إذ أنه أضاء هذه الشمعة الأخيرة قبل أيام قليلة.

لم يكد يطل العام 1979، حتى كانت ولادة “عامل” التي تحتفل هذه السنة بعيدها الثاني والأربعين، وهذا الرقم إن دل على شيء، إنما على أن مهنا أعطى أكثر من نصف عمره لهذه التجربة الفريدة من نوعها في لبنان والعالم العربي

أولاً، من هو كامل مهنا؟

هو رجل خيامي، نسبة إلى بلدة الخيام الجنوبية، في قضاء مرجعيون، الرابضة في جنوب جبل عامل، المطلة على سهل الحولة في شمال شرق فلسطين، البلدة التي تتميز بخلطة طائفية وعائلية وسياسية وحزبية، جعلتها تفيض بالنشاط الثقافي والسياسي والإجتماعي.

نشأة كامل مهنا، إبن المزارع الخيامي أسعد مهنا، كان لا بد أن تكون فلسطينية. لم يكن قد أطفأ الشمعة الخامسة، حتى كان وأبناء جيله شهوداً على نكبة فلسطين. الحرب. التهجير. الدم. الحرائق. جيش الإنقاذ. التبرعات. الملاجىء. التهجير.

في مدرسة الخيام الرسمية، حصّل كامل صفوفه الإبتدائية والتكميلية، قبل أن ينتقل إلى صيدا لنيل شهادة “البروفيه”. درسه الأول في النضال المطلبي والوطني تلقاه في صيدا “حاضرة الجنوب”، حسب صديقه المؤرخ الدكتور إبراهيم بيضون. في مدرسة عين الحلوة، أكمل صفوف المرحلة الثانوية، قبل أن يتخرج من ثانوية رمل الظريف في بيروت حاملاً البكالوريا القسم الثاني (رياضيات).

في العام 1962، ركب سفينة إيطالية من مرفأ بيروت، إلى فرنسا للتخصص في الطب، المهنة التي كان يحلم بها. وصل للدراسة في غرنوبل ومنها أكمل إلى مدينة تور في السنة الثانية، حيث إنتخب أميناً عاماً لأول إتحاد طلبة للبنانيين هناك. قررت السلطات الفرنسية طرده في آخر سني درسَهُ الطب. ضريبة لا بد منها لأجل فلسطين التي إنتصر إليها، غداة نكبة العام 1967، قبل أن يتراجع الفرنسيون عن قرار طرده، بعد عرائض وإحتجاجات، فيكمل دراسة الطب هناك ويتخرج في إختصاص طب الأطفال في العام 1973، ومن هناك، رأى نفسه ثائراً وطبيباً متطوعاً في ظفار (سلطنة عمان). عاد من تجربة الخليج، لينخرط بممارسة الطب في مناطق الفقر والحرمان في النبعة وبرج حمود وتل الزعتر. لم تدم تجربته في هذه الأحياء طويلاً. إندلعت الحرب الأهلية. حوصر وداوى وأسعف ووجد نفسه ينزح كما غيره من اللبنانيين والفلسطينيين.

يصح القول إن الإجتياح الإسرائيلي في العام 1978، شكل نقطة تحول في مسيرة كامل مهنا. في البداية كانت تجربة “النجدة الإجتماعية”، ومنها قاد ورشة من المتطوعين الذين شاركوا في إعمال إغاثة الجنوبيين النازحين من قراهم، ولا سيما في العاصمة، مستظلاً بدعم المناخ اليساري اللبناني والفلسطيني. لم يكد يطل العام 1979، حتى كانت ولادة “عامل” التي تحتفل هذه السنة بعيدها الثاني والأربعين، وهذا الرقم إن دل على شيء، إنما على أن مهنا أعطى أكثر من نصف عمره لهذه التجربة الفريدة من نوعها في لبنان والعالم العربي. لماذا؟

من جمعية محلية في العام 1979، إلى جمعية دولية مقرها جنيف في العام 2010، وصولاً إلى إقدام وزير المال الأسبق البروفسور جورج قرم على إطلاق مبادرة ترشيح مؤسسة “عامل” لنيل جائزة نوبل للسلام للعام 2016

يشرح مهنا في كتابه “أبعاد التنمية والعولمة المستبدّة” بعض فصول هذه التجربة. يقول إن العمل الأهلي في لبنان بدأ في العام 1857 “بتأسيس أول مستشفى مجاني بمبادرة من جبور الكلّاب”، ويضيف أن العمل الأهلي تطور في الحقبتين العثمانية والفرنسية، مروراً بالاستقلال (1943) والحرب الأهلية اللبنانية (1975ـ1976) وصولاً إلى مرحلة السلم الأهلي الرجراج راهناً.

ولعل النقطة المركزية/العائق في ما أشار إليه مهنا هو “أن التطور الاجتماعي في لبنان لم يواكب التطور العالمي نتيجة طبيعة النظام الاقطاعي”، ثم “الواقع الطائفي الذي ألقى بظلاله على التركيبة اللبنانية”. يضيء مهنا على صورة واقع اجتماعي واقتصادي يعكس سياسة عدم التوازن في الإنماء بين جميع مناطق لبنان، وبالتالي كان هذا الخلل البنيوي من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى محنة الحرب الأهلية عام 1975.

في جدول منشور في الكتاب إياه، نرى أن عمر المؤسسات/ الجمعيات في بيروت وجبل لبنان بلغ 160 سنة، وفي بيروت وصيدا وطرابلس 130 سنة، وفي الشوف 40 سنة، وفي الجنوب والبقاع والضاحية 35 سنة (ص123). وعليه، يرى مهنا أن العمل الإنساني تطور في لبنان عبر ثلاثة محاور: المرحلة التبشيرية الاستعمارية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم المرحلة النضالية التضامنية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، في ظل تصاعد حركات التحرر الوطني في العالم، أما المرحلة الثالثة، أي مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي واعتماد سياسة السوق، وهي المرحلة الراهنة، فقد تحوّل العمل الإنساني فيها إلى عمل تقني، وأحياناً تجاري، لا بل شكل في حالات معينة مظلة لأهداف سياسية وأمنية، كما حصل في بعض دول المنطقة غداة ما يسمى “الربيع العربي”.

في ظل هذه التفاوتات المُشار إليها آنفاً، ولا سيما في خضم الحرب الأهلية عام 1975، وما تلاها من اجتياح اسرائيلي أول (1978) وثانٍ (1982)، كان لا بد لجمعيات العمل الأهلي أن تتوالد وأن تشكل بديلاً في غياب الدولة ودورها، ولكن “معظمها انخرط في جمعيات وروابط وتنظيمات سياسية تتعارض مع فكرة المجتمع المدني على الصعيد الوطني”، كما يقول مهنا.. وهنا، تبدأ حكاية مؤسسة “عامل” التي لن تنفصل عن تجربة مؤسسها الدكتور مهنا.

من جمعية محلية في العام 1979، إلى جمعية دولية مقرها جنيف في العام 2010، وصولاً إلى إقدام وزير المال الأسبق البروفسور جورج قرم على إطلاق مبادرة ترشيح مؤسسة “عامل” لنيل جائزة نوبل للسلام للعام 2016 “نظراً لدورها في مجال تنمية الديموقراطية وثقافة المواطنة وتعزيز حقوق الانسان في لبنان” (يتضمن كتاب “عامل”… في الطريق إلى نوبل 2016 / كامل مهنا أول مرشح لبناني لنيل الجائزة شهادات من شخصيات سياسية لبنانية أمثال الرئيسين السابقين للحكومة سليم الحص وتمام سلام، وشخصيات عالمية تدعم هذا الترشيح).

كامل مهنا، يسابق الزمن، “لا يتعب ولا يهدأ، ويُحسن توظيف علاقاته وصداقاته الدولية والإنسانية تعزيزاً لقدرات “عامل” في خدمة الناس”، كما كتب طلال سلمان في إحدى إفتتاحيات “السفير”

تستحق مؤسسة “عامل” تسليط الضوء على مسارها، وما رافقها من تطور عملي وفكري ومثابرة، فلم تنقطع مع فريق عملها عن مواكبة خدمة الإنسان، وتشجيع إنسانيته، ولهذا، اعتمدت التخطيط والبرمجة، ورسم التطلعات تحت شعار “التفكير الإيجابي والتفاؤل المستمر”، لأن “عامل” جمعية مدنية لا طائفية، لديها 25 مركزاً في كل مناطق لبنان، يعمل فيها 800 شخص.

في الفصل الرابع من الكتاب، وتحت عنوان “مؤسسة عامل الدولية حالة عالمية مكافحة”، ما يضيء على بعض سيرة المؤسسة، ومنها أن “عامل” تحاول أن تلعب دور المحرك في تقديم نموذج يمكن أن يُقتدى في مؤسسات القطاع العام، وأن تكون النموذج، فكراً وقولاً وعملاً، فهي تعمل على تعميق ثقافة التطوع، وربط عمل هذه التجربة بقضايا الوعي الاجتماعي – السياسي الوطني منه والقومي وفي طليعتها قضية فلسطين، إضافة إلى مواكبة أوضاع النازحين الفلسطينيين في المخيمات، أو السوريين، والعراقيين وغيرهم، ونقل الشعار السياسي إلى الواقع الاجتماعي، والبقاء خارج التوظيف السياسي، ورفض قبول مساعدات الجهات التي تعمل ضد مصالح الشعوب (مثلاً، لم تقبل “عامل” منذ نشأتها حتى يومنا هذا أية مساعدة من “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” (يو إس آيد) – ص181).

أما عن القضايا الرئيسية التي يواجهها القطاع المدني في لبنان فقد ناقشها كامل مهنا، في كتابه من ثلاثة جوانب: العلاقة بالجهات المانحة، العلاقة مع الدولة، والعلاقة بين مكونات القطاع المدني، ليخلص إلى الدعوة لإعادة النظر في موضوع العلاقة مع الجهات المانحة والتعاطي معها بروح الموضوعية والعلاقة الندية بين أطراف شركاء لا أوصياء، “لأن المسكوت عنه في العلاقة القائمة بين الهيئات المانحة والمنظمات الأهلية هو أن للمساعدات الخارجية دوراً سياسياً يتمثل بتكريس علاقة التبعية”(ص202).

“أبعاد التنمية والعولمة المستبدّة-مؤسسة عامل الدولية والقطاع المدني في لبنان”، كتاب يتضمن فصولاً ثمانية، عرضت لتجارب “عامل” الميدانية وأسباب استمرارها منذ أربعة عقود، إضافة إلى تفصيل نظري/ برنامجي لواقع القضايا الرئيسية التي يواجهها القطاع المدني في لبنان، المعوقات، استراتيجية عمل هذا القطاع، وخريطة طريق للإصلاح في لبنان رسمتها “عامل”، ما يجعل أي متابع لهذا القطاع المجتمعي أن يُدرِج الكتاب في رفوف أبحاثه. فالكتاب/المضمون مادة دسمة في دائرته، وقد أضفى مهنا لمسته الشخصية مع أنه “لا تغريني الكتابة”، لكنها لمسة التفوق على أنانية المسؤول بإعطائه الدور الواسع لفريق من الباحثين ومن ذوي الإختصاص يغرفون من تجربة شاب قاده طموحه والحماسة الوطنية والقومية والانسانية والعملانية إلى أن تكون “عامل” في خدمة الإنسان، تبدد العوائق والتحديات التي واجهتها، متسلحة بشجاعة طبيب طاف بقاعاً وبؤرا ثورية عربية عديدة، وبإرث عائلي توأم العصامية، وتضامن أسري في طليعته فايدة الزوجة والأم والمناضلة والمُحفزة إلى جانب أولادهم أسعد وزينة ومريم ونور.. و”رنة” من الضحكات يطلقها كامل مهنا الذي يُطرب الأصدقاء دائماً بباقة من النكات يجمعها ويرويها ليكسر رتابة المجالس والإجتماعات.

كامل مهنا، يسابق الزمن، “لا يتعب ولا يهدأ، ويُحسن توظيف علاقاته وصداقاته الدولية والإنسانية تعزيزاً لقدرات “عامل” في خدمة الناس”، كما كتب الأستاذ طلال سلمان في إحدى إفتتاحيات “السفير”، الجريدة التي كان يعتبرها رئيس مؤسسة “عامل” بيته الثاني، وكان مقاتلاً حتى اللحظة الأخيرة لمنع تنفيذ قرار إقفالها.

* المصدر: https://180post.com

تعليقات: