مسودَّة مُسرَّبة: مصرف لبنان يحاول احتجاز أموال المُصدِّرين


يتّجه مصرف لبنان نحو إصدار تعميم موجَّه إلى "المُصدِّرين"، يُجبرهم فيه على "تحويل قيمة فواتير التصدير إلى المصارف اللبنانية، مع إعطاء المصدِّرين تقديمات معينة لضمان استمرار عملهم"، حسب ما جاء في مسودّة التعميم التي حصلت عليها "المدن" (للاطلاع: اضغط هنا). على أن تُحَدَّد القيمة المطلوبة وفق "معدَّل تقديري لنسبة الأرباح لكل قطاع من قطاعات التصدير. وذلك بعد اجتماعات مع المعنيين في كل قطاع".

أما التقديمات، فهي "إعطاء الحق للمصدِّر بسحب Fresh money (الأموال الطازجة) من هذه المبالغ المحوّلة، بنسبة معادِلة لنسبة الأرباح (المُتَّفَق عليها)، لينفقها كيفما يشاء. وبالنسبة للمبالغ المتبقية من هذه التحويلات، يحق للمصدّر فتح اعتمادات بها لشراء مواده الأولية، مع إعطائه إمكانية سحب نسبة معينة منها بالليرة اللبنانية، وفقاً لسعر صرف يفوق السعر المحدد في المصارف (أي الـ4000 ليرة)".

المسودّة الطُعم

التعميم لم يصدر بشكل رسميّ بعد، بل جرى رميه كصنّارة باتّجاه المصدِّرين عن طريق مسودّة "أُرسِلت من مصرف لبنان إلى وزارة الصناعة، ومنها إلى جمعية الصناعيين التي رفضتها جملة وتفصيلاً"، وفق ما يؤكّده نائب رئيس جمعية الصناعيين، زياد بكداش، في حديث لـ"المدن". وبالتالي، تهدف المسودة إلى الوقوف على ردّ فعل الصناعيين على مضمونها، وعندها، يجري اتخاذ القرار، إمّا بالتراجع أو بالتفاوض على بعض النقاط وخفض السقف المرتفع. وبذلك يتحاشى المركزي اتخاذ قرار نهائي بشكل منفرد، قد يضطر لاحقاً إلى سحبه في حال الاعتراض الشديد عليه أو عدم الالتزام به. فكانت المسودّة مخرجاً مناسباً يقي المركزي الحَرَج، فتأتي الصيغة النهائية بالتشاور مع المستهدفين بالتعميم، وإن على مضض.

من جهتها ترى مصادر في وزارة الصناعة بأن المسودّة "هي مجرّد اقتراحات للتداول وليست قرارات". وتعتبر المصادر في حديث لـ"المدن"، بأن الصناعيين ليس لديهم "قبول مطلق أو رفض مطلق. والمسألة تحتاج إلى بعض الإضافات أو الحذف، للوصول إلى آلية مقبولة للتنفيذ".

المسودّة عبارة عن "مدخل لمصادرة أموال المُصدِّرين من صناعيين وزراعيين وكل مَن يُصدِّر بضائع من لبنان إلى الخارج، تماماً كما جرت مصادرة أموال المودعين"، على حد تعبير بكداش. ومَع أنَ المسودّة تراعي عدم اعتبار الأموال المحوَّلة، أموالاً محجوزة، إلاّ أنه "بمجرّد إجبار المصدّرين على تحويل أموالهم، ضمن اقتصاد حُر، فهو عملية مصادرة".

ويشير بكداش إلى أن "المصدّرين في الأحوال العادية يحوّلون على الأقل نحو 60 بالمئة من أموالهم إلى لبنان لدفع النفقات التشغيلية ورواتب العمال والطباعة والتوضيب وغيرها، ويبقى قسم من الأموال في الخارج لتحويله إلى المورِّدين، بدل تحويله إلى لبنان ثم إعادة تحويله للمورّدين".

تغطية الفشل

يريد مصرف لبنان بتعميمه الذي يمهِّد له، تعويض فشله في استعادة التحويلات المالية من الخارج، بموجب تعميمه رقم 154، المتعلّق بجزء منه بدعوة المصارف "إلى حث عملائها الذين أجروا تحويلات تفوق الـ500 ألف دولار بين تموز 2017 و27 آب 2020 على إعادة 15 بالمئة من قيمة التحويلات، على أن ترتفع هذه النسبة إلى 30 بالمئة بالنسبة إلى أعضاء مجالس إدارة المصارف والأشخاص المعرضين سياسيّاً". فهذا التعميم كان فارغ المضمون ولا مسوِّغ قانونياً يُلزِم استعادة تلك الأموال، طالما أنها خرجت بصورة قانونية ولا إثبات على أن مصدرها عمليات غير مشروعة. وبالتوازي، فإن المصدِّرين، ولأي قطاع انتموا، حصلوا على أموالهم نتيجة عمليات مشروعة، ولا يحق لأحد إلزامهم بتحويل جزء من أرباحهم إلى المصارف اللبنانية.

وإذا كانت ظروف البلاد تسمح باعتماد صيغة "الحث" في التعميم رقم 154، فإن استنزاف الدولارات دفع المركزي إلى اعتماد صيغة "الفرض" مع المصدِّرين، لأن تحويلاتهم "تخفّف الحاجة إلى فتح اعتمادات مدعومة، حين يجري فتح اعتمادات مباشرةً من العملات الأجنبية المحوَّلة من الخارج، ما يخفف العبء على مصرف لبنان. كما ويقلّص الطلب على العملات الأجنبية في السوق الداخلي". لكن هذه الخطوة هي بمثابة تحميل المصدِّرين لمسؤولية عدم توفّر الدولارات اللازمة لتغطية حاجة السوق. وبدل البحث عن المسؤولين الحقيقيين عن شح الدولار وتهريبه إلى الخارج وهدره على تمويل مشاريع الفساد وتوزيعه كجوائز ترضية من خلال الهندسات المالية.. ومؤخّراً تبديده في سياسات دعمٍ يستفيد منها كبار المحتكرين، يعمد المركزي إلى وضع يده على أموال المصدِّرين.

وهنا، يسأل بكداش أصحاب المسودّة ومَن صاغها ومَن يدعمها، "هل يحوِّل أمواله في الخارج إلى لبنان؟ هل يثق بالقطاع المصرفي؟".

بنود الترهيب

في متن المسودّة بنود تُرهب المصدّرين، إذ يفرض المركزي عليهم "تحويل قيمة فواتير التصدير إلى المصارف اللبنانية خلال مهلة أقصاها 45 يوماً من تاريخ التصدير، وهي المهلة المنطقية للدفع، باستثناء الشركات التي تبرز عقوداً أو مراسلات بينها وبين الزبون الخارجي والتي تنص على مهل مختلفة. وعلى المصدّرين توقيع تعهّد بتنفيذ التحويل، على أن يبرز التعهّد عند تقديم كل بيان تصدير للشركة، يحدد فيه المهلة التي تتعهّد خلالها بالتحويل. وفي حال كانت المهلة تتخطى الـ45 يوماً، على الشركة أن ترفق بالتعهّد العقود أو المراسلات المثبتة لذلك".

وفي حال إخلال المصدّر بالتعهّد، "يخطر المصرف المركزي الجمارك بالأمر، ليصار إلى تجميد رقمه الضريبي مؤقتاً، ومنعه من تسجيل أي بيان استيراد أو تصدير، قبل إتمام تعهّده بتحويل المبلغ المطلوب إلى لبنان أو بإدخال مبلغ يعادله من الـFresh money إلى المصارف اللبنانية، كما يمكن فرض عقوبات أخرى (غرامات، حرمانه من الدعم على استيراد المواد الأولية...)".

ولمنع التلاعب بالقيمة المصرّح عنها في التصدير، بهدف تخفيض المبالغ الواجب تحويلها إلى لبنان، يمكن للجمارك فرض إبراز نسخة عن بيانات الاستيراد المسجلة في الخارج خلال مهلة شهرين. كما يمكن للمركزي أن يفرض على المصدّر إجراء التحويلات إلى لبنان من حساب الزبون في الخارج مباشرةً، وليس عن طريق حساب عائد للمصدّر في الخارج.

التصدير في المبدأ يؤدّي لإدخال أموال إلى لبنان، أما إبقاء الأرباح خارجاً خوفاً من احتجازها في المصارف، فهو خوف مشروع، ويعترف به المركزي. إذ يُقرّ "بوجود مشكلة كبرى تكمن في فقدان ثقة المصدّرين بالقطاع المصرفي، ولذلك، على مصرف لبنان أن يكون هو ضمانتهم عن طريق إنشاء وِحدة مهمّتها تلقّي مراجعات المصدّرين". ويردّ بكداش على هذه الضمانة بالتساؤل عن "كل أموال المودعين بمن فيهم الصناعيين، بالإضافة إلى مَن كان يحفظ أموال تعويضات نهاية خدمته، فهل أعادها مصرف لبنان؟".

إذاً، يضع المركزي نفسه حَكَماً في قضيّة هو جلاّدها. متناسياً أن غياب الثقة بالقطاع المصرفي يعني أيضاً غياب الثقة بالمركزي، كونه هو سلطة الوصاية على القطاع المصرفي، وهو المؤتمن على سلامة النقد، وقد خان الأمانة.





تعليقات: