غضب بالأمم المتحدة: النظام المصرفي اللبناني يسرق المساعدات الدولية

انزعاج البلدان الداعمة من فكرة ضياع الكثير من تبرعاتها للبنان (الأرشيف، لوسي بارسخيان)
انزعاج البلدان الداعمة من فكرة ضياع الكثير من تبرعاتها للبنان (الأرشيف، لوسي بارسخيان)


مع تمّني الجهات المانحة من لبنان دفع أموال المساعدات لأصحابها بالدولار الأميركي، أو بالليرة اللّبنانية ولكن وفقاً لسعر السوق الموازي، نشر موقع "ذا نيو هيومينيتيريان"، الذي تأسس من قبل الأمم المتحدة عام 1995، والمعني بتتبع الأزمات الإنسانية في العالم، تقريراً مطولاً يتحدث عن تآكل قيمة المساعدات الدولية المقدمة إلى لبنان بسبب انهيار العملة اللبنانية، واعتماد السلطات اللبنانية على الخداع في اعتماد سعر الصرف.


سعر صرف غير واقعي

أقر البرلمان اللبناني منذ فترة وجيزة خطة المساعدات التي سيحصل عليها لبنان كقرض من البنك الدولي بقيمة 246 مليون دولار، لدعم مشروع شبكة الأمان الاجتماعي، ودعم الأسر الأكثر فقراً. إلاّ أن تحديد صرف المساعدات بالليرة اللبنانية بسعر صرف بعيد عن الواقع، بحدود ستة آلاف ليرة لبنانية، أثار استهجان الأمم المتحدة والمانحين. وتؤكد وثائق الأمم المتحدة وبعض المسؤولين المرتبطين بالجهات المانحة، أن حل المشكلة الاجتماعية يواجه عقبات سياسية ولوجيستية، وقد يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف.

من المقرر أن تقدم وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية ما يقل قليلاً عن 500 مليون دولار من المساعدات النقدية للاجئين السوريين والفلسطينيين، ولعدد متزايد من المواطنين اللبنانيين في عام 2021. لكن تحويل هذه المساعدات على سعر الصرف الرسمي للمنظمات الدولية، الذي حدده البنك المركزي في أوائل شباط المنصرم عند 6240 ليرة للدولار، بمقارنة سعر الصرف الرسمي الحقيقي والذي يزيد عن 12 ألف ليرة مقابل الدولار، يعني وفق الموقع، خسارة ما يصل إلى 20 مليون دولار شهرياً من قيمة هذه المساعدات.


ضغوط دولية

ورداً على هذه الخسائر الفادحة، ضغطت وكالات الإغاثة والدول المحبطة على السلطات اللبنانية للسماح لها باستخدام سعر الصرف غير الرسمي، أو تقديم إعانات بالدولار. ويشير الموقع نقلاً عن مصادر متعددة في مجتمع المساعدات الدولية إضافةً إلى وثائق الأمم المتحدة، أن هذه الجهود لم تفلح في تحقيق أي تقدم حتى الآن.

لم يستجب مصرف لبنان المركزي لطلبات "ذا نيو هيومينيتيريان" للتعليق على الموضوع. وكذلك رفضت وزارة المالية الأمر نفسه. لكن ملخصاً للخيارات أعدته الأمم المتحدة هذا الشهر واطلع عليه الموقع، أشار إلى أن "السلطات اللبنانية أعربت عن ترددها" بشأن السماح للمنظمات الدولية باستخدام سعر السوق الحقيقي.

في خطابٍ نشرته مؤسسة "طومسون رويترز" الأسبوع الماضي، أشار ممثلو الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي إلى "اتفاق شفهي" بتاريخ 22 شباط المنصرم مع وزارة المالية اللبنانية والبنك المركزي للسماح لمنظمات الإغاثة بتوزيع المساعدات بالدولار. ورغم ذلك، لم يتم التوقيع على أي شيء حتى الآن. وقد لا تكون "الدولرة" الكاملة للمساعدات التي ستصل إلى 1.3 مليون شخص خياراً متاحاً، نظراً لتنوع وعدد برامج المساعدات العاملة في البلاد. وانطلاقاً من ذلك، يقول بعض الخبراء للموقع، أن هذا التخبط يهدد بإذكاء التوترات بين المجتمعات، إذا تلقى بعض الأشخاص المساعدة بالدولار والبعض الآخر بالليرة.


وثائق الأمم المتحدة

وأعربت نجاة رشدي، القائمة بأعمال المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، الأسبوع الماضي، عن قلقها العميق إزاء "التضخم المفرط" الذي يعني وقوع المزيد من اللبنانيين واللاجئين في دائرة الفقر واليأس. وربطاً بانزعاج البلدان الداعمة من فكرة ضياع الكثير من تبرعاتها للبنان بسبب سعر صرف العملة، تزيد هذه البلدان من الضغط لاستخدام سعر الصرف في السوق أو الدولار النقدي.

وفي هذا الإطار، يكشف الموقع وثيقة داخلية للبنك الدولي في شهر شباط المنصرم جاء فيها: "يمكن للمدفوعات بالدولار أن تخفف الضغط على العملة، وتحد من التضخم، وتساعد في تخفيف الارتفاع الكبير في المعروض النقدي. أما الدفع بالليرة فيمكن أن يؤدي إلى حلقة سلبية بين التضخم وانخفاض قيمة العملة".

من ناحيةٍ ثانية، تعبر مسودة وثيقة داخلية أخرى للأمم المتحدة، أُعدت لنجاة رشدي الشهر الماضي، لتحليل خيارات الأمم المتحدة للتعامل مع هذه القضية، عن مخاوف من أن أموال المساعدات لا تصل إلى حيث يجب بسبب التضخم. وبدلاً من ذلك يتم استخدامها لدعم احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وتضيف الوثيقة "في أزمة غير مسبوقة ومأساة إنسانية، يجب استخدام المساهمات بالدولار الأميركي لغرض مساعدة الأسر الضعيفة، بدلاً من إعادة رسملة القطاع المصرفي بالقوة، أو دعم الاحتياطيات الأجنبية للبنك المركزي".

الوثيقة التي تحمل عنوان "المساعدة الإنسانية والإنمائية: الصرف بالليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي: القيمة مقابل المال، التحليل الاقتصادي والمخاطر"، تحذر أيضاً من أن قضية العملة "تثير مخاوف بشأن الفعالية والمساءلة تجاه دافعي الضرائب في البلدان المانحة وتحتم مخاطر قانونية وعواقب سياسية".


تحذير سفير الاتحاد الأوروبي في لبنان

إلى ذلك، كشف الموقع ما كتبه سفير الاتحاد الأوروبي في لبنان، رالف طراف، إلى ممثلة اليونيسف، يوكي موكو، في رسالة عبر البريد الإلكتروني في 3 آذار الجاري، قال فيها: "هذه حالة طوارئ مصطنعة، تم إنشاؤها ودعمها لعدم رغبة صناع القرار اللبنانيين في حل هذه المسألة".

أضاف طراف متوجهاً إلى موكو "من اختصاصك الحصري وحكمك أن تقرري ما إذا كان صرف العملة الصعبة بالسعر الذي تقترحه الحكومة اللبنانية يحترم مبدأ الإدارة المالية السليمة أم لا في الظروف الحالية".

واستطرد طراف محذراً: "إنني على ثقة أنه وفقاً للممارسات القياسية، قد تنظر هيئات الرقابة والتدقيق الداخلية لديكِ في الأمر بأثر رجعي لتقييم ما إذا كان قد تم التمسك بمبدأ الإدارة المالية السليمة أم لا".


حلول هجينة

في الموازاة، يشير الموقع أنه على الرغم من الاتفاق الشفهي بين السلطات المالية اللبنانية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي، يعتقد الكثيرون أنه من غير المحتمل أن تكون جميع برامج المساعدات قادرة على التحول للدفع بالدولار نقداً أو عبر سعر الصرف الحقيقي، وذلك لأن العديد من البرامج التي تقدم مساعدات نقدية قد تأثرت بتخفيض قيمة العملة. ولكونها تُدار من قبل وكالات مختلفة، بدعم من مانحين مختلفين، والأهم من ذلك أنها تفيد قطاعات مختلفة من المجتمع.

وبهذا الخصوص، قالت رشدي في رسالة بالبريد الإلكتروني للموقع، أنه قد تكون هناك حاجة إلى "حلول هجينة"، مع دفع بعض المساعدات بالليرة وتحويلها بمعدل محدد للمنظمات الإنسانية، وبعض المساعدات الأخرى بالدولار.

ويضيف الموقع أنه من المحتمل أيضاً أن يتم التعامل مع برامج المساعدة التي تمر عبر الدولة بشكل مختلف عن تلك التي تمر عبر الأمم المتحدة. وعلى سبيل المثال، وجه الاتحاد الأوروبي حوالى 57.5 مليون دولار من خلال الحكومة اللبنانية في عام 2020 لزيادة رواتب المعلمين الذين يحضرون دروساً للاجئين السوريين.

ينعكس هذا الاحتمال، كما يكشف الموقع، في وثيقة الأمم المتحدة الصادرة في آذار الجاري، والتي تقول إن السلطات اللبنانية اقترحت استخدام "سعر صرف تفضيلي"، من المحتمل أن يكون أقرب إلى سعر السوق، "لأشكال المساعدة التي تمر من خلال الحكومة".


قلق من نشوب توترات

إلاّ أن هذه الحلول الهجينة التي سبق ذكرها، تخلق مخاوف بشأن ما يمكن أن يحدث، إذا حصل لاجئ سوري على أموال بالدولار، وحصل مدرس لبناني للأطفال اللاجئين على أموال بالليرة، التي تنخفض قيمتها بشكل شبه يومي. وفي السياق، تتحدث وثيقة صادرة عن الأمم المتحدة في شباط المنصرم عن "القلق البالغ" بشأن إذكاء التوترات بين من يتلقون مدفوعات بالدولار ومن يتقاضون الليرة اللبنانية، وبين اللاجئين السوريين والمواطنين اللبنانيين. وجاء في التقرير أن "تصعيد الخطاب المناهض للاجئين من شأنه أن يشعل العنف بالنظر إلى هشاشة البلاد".

من جهتها، علّقت نادين خشن، التي تسهل شبكة من 26 منظمة غير حكومية محلية، على هذه المسألة قائلةً: "سيكون من المهم حقاً، إذا تم تطبيق الدولرة، أن ترفع المنظمات غير الحكومية الوعي بشكل كبير حول كيف ستفيد المجتمع الأوسع. لقد رأينا بالفعل حوادث تعرض اللاجئين للمضايقة عند حصولهم على المساعدات في البنوك، لذلك يجب التفكير حول كيفية حماية الناس، وجزء من ذلك سيكون عبر تثقيف الناس حول الفوائد التي تعود على المجتمع ككل".

بدوره، قال مسؤول يمثل المانحين، طلب عدم الكشف عن هويته بحجة أن المناقشات مع لبنان ما زالت مستمرة، إنه يعتقد أن الأشخاص الذين هم جزء من برامج النقد مقابل العمل يمكن أن يكونوا في قائمة الانتظار للحصول على أموالهم بالدولار، لأن أعداداً متساوية من المشاركين في البرامج هم سوريون ولبنانيون.

وخَتم مسؤول في إحدى وكالات الإغاثة، طلب عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية القضية، بالقول "الدولرة أو سعر صرف السوق هو ما يطالب به المانحون، لكن بالتأكيد لن يكون الأمر كما يبتغون. لن يعطي البنك المركزي سعر السوق أبداً".

تعليقات: