حكاية صورة: يوم حرّر ثوار لبنان أرنون بأكفهم العارية

صورة تحرير أرنون التي تصدرت الصحف والمجلات العالمية في 26 شباط 1999
صورة تحرير أرنون التي تصدرت الصحف والمجلات العالمية في 26 شباط 1999


كانت اللحظات تتوسط الوقت المتدني بين الظهيرة، وساعة أفول المساء، من يوم الجمعة بتاريخ 26 شباط 1999؛ حشد لا مثيل له من شباب لبنان، قدموا من مختلف المطارح والجامعات والمنظمات الشبابية، جلهم من العاصمة بيروت؛ تشخص العيون نحو أسلاك العدو الإسرائيلي، الشائكة، التي قضمت أرنون بتاريخ الثامن عشر من الشهر عينه، من محاذاة «بركتها»، من المناطق المحررة لتضيفها إلى الاحتلال المباشر. تدق ساعة «الصفر»، تمسك الأكف العارية، إلا من العزيمة والتحدي، تلك الأسلاك، وعلى هزج الأناشيد الوطنية والصرخات المدوية، المنددة بالاحتلال، لتنتزع هذه الأسلاك وتقذفها إلى مسافات طويلة، وتدخل أرنون، برغم كل شارات التحذير من «الألغام» المزروعة، لتعلن تحريرها من قبضة الاحتلال.

كان لا بدّ، وفي هذا الجو المثقل بكل شيء: بحركة الشباب المفاجئة، وعزيمتهم وصراخهم وأناشيدهم وتحديهم لكل خطر متوقع؛ بأزيز الرصاص الملعلع من مواقع العدو في قلعة الشقيف، فوق رؤوس محرري الأسلاك؛ بحشد من المصورين والإعلاميين وممثلي الوكالات المحلية والأجنبية، كن لا بدّ للعين من أن ترصد كل ما تتوق إليه ويرجفها في تلك اللحظات «المجنونة». ولالتقاط الصورة، الصورة، كان لا بد كذلك من تقدم دخول الشباب إلى أرض أرنون لالتقاط صورهم وهم ينتزعون الأسلاك ويسحبونها.

مغلاق الكاميرا، وعدستها، دارا من دون هدوء أو كلل أو توقف، اللحظات في حينها كانت تشبه كل شيء مديد، إلا اللحظات. وبعد كل ما دار في هذا الجوّ المحموم، والجعبة تكدست بالأفكار والأفلام، مثلها مثل الطريق إلى أرنون التي لم يبق فيها متنفس حتى لحركة السير أو الانتقال، مثقلة هي الأخرى بالآلاف التي تقاطرت إليها من كل حدب وصوب للتتبارك «بالتحرير» أو فضولاً أو من أفواج إعلامية جديدة، وصل إليها الخبر، فسارعت للالتحاق بـ«الركب»؛ وكان لي شرف إذاعة أول خبر عن تحرير أرنون، مباشرة من هناك، وببث مباشر على الهواء، عبر إذاعة «صوت الشعب»، كان يجب الانتقال نحو بيروت لإطلاق الصور والخبر.

أفلام الصور وصلت أولاً إلى وكالة «رويترز»، ثم إلى جريدة النهار التي كنت أعمل مراسلاً لها. نقيب المصورين الصحافيين في لبنان، مدير التصوير في وكالة رويترز الزميل جمال السعيدي بدأ باختيار الصور التي يجب أن توزع إلى «كل العالم»؛ وكانت بينها، صورة شباب ارنون يقبضون على الأسلاك، يصرخون، يرتفع فوقهم العلم اللبناني، بحركة عفوية «ممتلئة» لتختصر مشهد ما جرى في أرنون.

الصورة عينها، تصدرت الصفحات الأولى في الصحف اللبنانية كافة، والمئات من الصحف العربية والأجنبية. واختارها رئيس الجمهورية العماد إميل لحود لتتصدر «صفحة» قاعة الاستقبال في القصر الجمهوري، وبقيت إلى تاريخ انتقال الرئيس ميشال سليمان إلى القصر، وإصداره أمراً بإزالتها من القاعة.

يومها، في العام 1999، قررت الحكومة اللبنانية إصدار «طابع» بريدي، يحمل هذه الصورة؛ ثم اسدل الستار على هذا القرار، من دون أسباب مسوّغة، أو أي قرار رسمي آخر. لكن بقيت الصورة بعدسة «كامل جابر» لتعبر عن استهلال غيث التحرير، الذي لم يطل أمده، وكان «شاملاً» في الرابع والعشرين من أيار عام 2000.

تعليقات: