الكاتب المهندس عدنان إبراهيم سمور
في المقلب الآخر من العالم الإسلامي كان هناك منظرون ومفكرون متنورون وعاملون على تحقيق مشروع نهضة إسلامية وقومية بالتزامن مع مشروع النهضة العربي وكانت إنطلاقة المنظرين الساعين الى هذه النهضة من الحوزات العلمية في كل من النجف الأشرف وقم المقدسة نظرا للدور الوظيفي العلمي والتوعوي والتوجيهي الذي لعبته الحوزات العلمية على إمتداد تاريخها.
إضافة إلى رجال الدين كان هناك مفكرون ومنظرون وطنيون وقوميون متأثرون بالتاريخ الحضاري للمنطقة أو متأثرون بالنهضة الغربية التي تحققت وصارت نموذجا عالميا يسعون لتقليده والتأثر به أو بالثورة الشيوعية الإشتراكية لاحقا والتي مثل قطبها الإتحاد السوفياتي نظرا لما حملته من شعارات إنسانية ومن طرحها لقيم العدالة والمساواة ونصرة طبقة الفلاحين والكادحين .
فرق جوهري بين الحوزات الشيعية وكليات الشريعة السنية في تأمين مصادر تمويلها.
فيما يخص الحوزات العلمية وطلاب العلوم الدينية كانت هناك ميزة مهمة جدا في تأمين المداخيل المالية لطلاب العلوم الدينية وما تحتاجه الحوزات العلمية الشيعية من إنفاق ومصارفات حيث كان يتم تأمينها من أموال الخمس والزكاة والحقوق الشرعية والتبرعات من أغنياء الطائفة والمقتدرين ماليا ولا دخل للحكومات والأنظمة الحاكمة بتمويل مؤسسة الحوزة، الأمر الذي أمن للعلماء وطلاب العلوم هامشا واسعا من الحرية في التعبير وإبداء الرأي والنقد وفي اتخاذ المواقف المعترضة على أداء النظام والحكام حيث تدعو الحاجة وحيث يتم تجاوز الخطوط الحمر في مراعاة حقوق الناس وقضايا مستقبلهم ومصيرهم وذلك على عكس كليات الشريعة للطوائف السنية والوهابية في العالم العربي وتركيا التي كانت مرتهنة بشكل كبير في تمويلها وتأمين رواتب العلماء وطلاب العلوم فيها إلى موازنات حكومات الدول التي تعيش في ظلها وهذا أمر بالغ التأثير على حرية الرأي والقدرة على التأثير في تغيير الواقع والإعتراض على القوانين والإجراءات التي تضر بمصالح الناس وتشكل اعتداء على حرية العبادة والحرية الشخصية ومراعاة احكام الشريعة في سلوك المواطنين الفردية والجماعية.
>تمويل الأحزاب الوطنية والقومية.
أما الأحزاب الوطنية والقومية فكانت تحتاج لتأمين نفقاتها إلى دعم الدول الخارجية المؤثرة في نشأتها أو المتوافقة معها في القراءة السياسية للأمور وهي ملزمة بما يترتب عليها جراء ذلك من إطاعة وإلتزام بالتوجيهات من الدول الداعمة لها تماما كما هو الحال في الأحزاب والمنظمات الغير إسلامية في العالم العربي.
حوزات النجف وقم ومدى التنسيق بينها.
كانت الحوزات العلمية في النجف وقم تدار بواسطة مراجع غالبا يفضلون عدم التدخل في السياسة إلا في حالات حرجة ومؤذية جدا لمصالح الناس وكانت درجة التنسيق عالية بين الحوزتين نظرا لتبادل العلماء الأساتذة والأفكار والمناهج بشكل دائم ونظرا لأن عامل الدين والإنتماء الديني يفوق أي إنتماء وطني أو عرقي أو ما شاكل لذلك كانت هناك شراكة من قبل المراجع والعلماء الطليعيين في ادارة العمل الثوري المقاوم للإستعمار ومشاريعه في المنطقة على غرار ما حصل فيما عرف بثورة العشرين في العراق التي قادها العلماء العراقيون من السنة والشيعة ضد الإحتلال الإنكليزي والتي شهدت عملية قمع قاسية من قبل القوات الإنكليزية للثوار الذين كان من أبرز قادتهم الشيخ مهدي الخليصي ومحمد حسن الصدر ومحمد تقي الشيرازي . ولم يكتب لهذه الثورة أن تحقق نجاحات عملية على أرض الواقع بل شكلت ارهاصا يمكن البناء عليه لاحقا عندما تتاح الفرصة من جديد للنهوض والتغيير.
الشريف حسين ورهانه الخاطىء على الإنكليز.
مثل ما سمي بثورة الشريف حسين تجربة قاسية نتجت عن قراءة خاطئة للشريف حسين الذي بنى امالا كبارا على وعود الحكومة البريطانية بأنها ستمنحه حكما مستقلا على العالم العربي في حال تعاون معها في مقاومة الوجود التركي في المنطقة ولكن حقيقة الأمر أن بريطانيا وحلفاءها كانوا يخدعون الشريف حسين وأبناءه ونكثوا بكل تعهداتهم بعد إطمئنانهم من إخراج الوجود العثماني من المنطقة وقاموا بتقسيمها فيما بينهم بطريقة مثيرة للشبهة ولإحتمال إثارة الخلافت الإثنية والطائفية بين شعوب الدول التي تشكلت حديثا كلما إحتاجت الدول المهيمنة الى هذه الخلافات.
تدخل رجال الدين المتنورين بالسياسة في التجربة الإيرانية .
أما في إيران فقد كان هناك تباين جوهري في تجربة النهوض قياسا لمشروع النهوض الحاصل في المنطقة العربية وذلك بسبب وجود إختلاف بنيوي في مكونات كل تجربة وبسبب وجود إختلاف عميق في التجربة الحضارية لكل شعب من الشعوب.
فرجل الدين الشيعي كان له دور حر كما سبق وذكرنا وعلاقته بالناس علاقة ثقة وعلاقة قيادة إجتماعية وعلاقة حمل هم الناس وهم حاجاتهم ومطالبهم من السلطة الحاكمة أيا كانت طبيعتها الأمر الذي أمن غطاءا جماهيريا لرجل الدين المتصدي لموضوع خدمة الناس وأكسبه هالة وحصانة نسبية وسعت من هامش تأثيره وأكسبته جرأة في سلوكه ومواقفه إتجاه السلطة.
* - مثل ما يعرف ب ثورة التنباك في إيران باكورة مشروع النهضة في أيران حيث وقف الشعب وأمامه علماء الدين الأحرار في وجه السلطة الجائرة من جهة وفي وجه المستعمر الذي يمرر مشاريعه ومؤامراته على مصالح الشعب من خلال قيادات قام هو بتعيينها في مواقع المسؤولية في الدول التي إنتدب عليها . وقد اعلن الميرزا حسن الشيرازي عام 1891 على أثر منح ناصر الدين شاه عام 1890إمتيازا للرائد الإنكليزي جيرالد أف. تالبوت يمكنه من إحتكار كامل إنتاج التبغ الإيراني لمدة خمسين عاما حيث تضرر ما يقارب ال200.000 مواطن إيراني كانوا يستفيدون من زراعة وصناعة وتجارة التبغ في وقت كان فيه معظم سكان ايران غارقون في الفقر والعوز وتعتبر نسبة المتضررين مرتفعة جدا قياسا لعدد سكان إيران يومها .
كانت نتيجة هذه الثورة أن أجبر ناصر الدين شاه على إلغاء هذه الإتفاقية وكانت هذه التجربة تمثل أول تدخل شجاع وناجح لرجال الدين في أمور الحكم والسياسة وحماية حقوق الناس من الإستضعاف والهيمنة في لحظة تاريخية حرجة خاصة أن الأمر يتعلق بكسر قرار وتراجع عن إتفاقية مع دولة عظمى لها هيبتها وسطوتها وحضورها.
- بين العامين 1905 و 1911 حصلت الثورة الدستورية التي سميت أيضا
بحركة المشروطة (1905-1911). والتي قادها الميرزا السيد محمد صادق الطبطبائي ورفيق دربه وجهاده السيد عبدالله البهبهاني في مواجهة مظفر الدين القاجاري الذي زاد الضرائب على المستضعفين الفقراء من مواطنيه ورهن البلاد وإقتصادها لبريطانيا وشركاتها ومستثمريها ليمول جولاته في اوروبا واحتفالاته الباذخة ، الأمر الذي أدى إلى إحتجاجات وإضرابات بقيادة العالمين الجليلين الطبطبائي وبهبهاني الذين جاءا من النجف بتنسيق مع المراجع لأداء مهمتهم الأمر الذي ألزم الشاه الحاكم في نهاية المطاف بالرضوخ لمطالب المحتجين وتشكيل مجلس شورى (برلمان) كما أدى إلى إنتاج أول دستور للدولة في إيران.
مثلت الثورة الدستورية محطة ثانية لتدخل رجال الدين في تصويب أداء قيادة الدولة لمصلحة الناس الذين أدركوا أن تعاونهم مع العلماء الثوريين يمثل نقطة قوة لهم يجب التمسك بها بكل قوة لتأمين حماية الحقوق وتخفيف بطش السلطة وتجاوزاتها.
تجربة السيد حسن مدرس.
في مرحلة الثورة الدستورية بدأ يبرز إسم أحد العلماء الذي تمتع بكفاءات ذهنية وفكرية وحضور ذهن ابداعي إضافة لزهد قل نظيره في متع الدنيا إضافة لشجاعة في مواجهة الطواغيط قل نظيرها في تاريخ الشعوب وكان السيد حسن المدرس هو هذا العالم الذي رشحه العلماء والناس لتمثيلهم في الندوة البرلمانية فترشح وفاز في الإنتخابات وصار ممثلا للأقلية بداية وكان له حضور وهيبة وكلف من قبل المراجع كواحد من المجموعة المشرفة على الدستور الجديد لحفظ مصالح العباد والبلاد من جور السلطات والمستعمر .
بعد أن كان هو صلة الوصل بين المراجع وبين الناس في ثورة التنباك بداية وفي الثورة الدستورية لاحقا وفي ثورة العشرين التي قادها علماء النجف في العراق وكان السيد المدرس رجلا منفتحا وساعيا الى تحقيق الوحدة الإسلامية في مواجهة مشاريع الإستعمار في المنطقة حيث سافر إلى تركيا والتقى بالعلماء الأتراك ودافع عن الخلافة العثمانية في مواجهة الإحتلال البريطاني في تلك المرحلة معتبرا أن الأتراك رغم أخطائهم وظلمهم لشعوب المنطقة فإنهم أقل سوءا وقسوة وضررا من الإنكليز وقد دلت هذه الرؤية الصائبة على عمق فهم واستيعاب السيد المدرس لحقيقة الأمور وخلفياتها ومخاطرها على مستقبل المنطقة.
السيد حسن المدرس هو أول من استخدم عبارة (ديانتنا عين سياستنا وسياستنا عين ديانتنا) التي نقلها ورددها عنه الإمام الخميني لاحقا وكان متأثرا فيه لدرجة كبيرة وكان يعطل عن الحوزة ايام إجتماع البرلمان ويحضر إلى طهران ليستمع إلى مداخلات السيد المدرس ويستفيد منها . وقال عنه في ذكرى إستشهاده ( رضا خان كان يخاف من المدرس وبريطانيا كذلك كانت تخاف منه والإستعمار كله خاف المدرس لذلك سيبقى المدرس حيا ما دام التاريخ حيا).
ولإدراك مستوى الشجاعة التي كان يتمتع بها السيد المدرس أيضا يذكر التاريخ أن رضا خان قبل أن يقوم بإنقلابه على القاجاريين بدعم من الإنكليز قدم إقتراحا مخادعا مفاده أن يكلف بتشكيل نظام جمهوري في إيران . ولكن السيد المدرس بما يملكه من عمق بصيرة وفهم لنوايا الإنكليز ورضا خان قال معلقا على هذا الإقتراح ( إن ثورة يريدها هؤلاء المستبدون "يقصد رضا خان وأسياده " أنا أعارضها لأنها ستكون وسيلة بيد الإنكليز ولن تكون بخدمة الشعب).
نتيجة النجاحات التي حققها تطور دور السيد المدرس وصار مسؤول أكبر كتلة في البرلمان فقام بإستدعاء رضا خان للإستيضاح وذلك قبل الإنقلاب الذي أوصل رضا خان لأن يصبح شاه إيران وكان هذا الموقف من السيد المدرس يعتبر شديد الجرأة والتطاول على مقام رضا خان المحسوب على الإنكليز وصاحب الصلاحيات الواسعة في البلاد فما كان من رضا خان إلا أن أعد مجموعة من جلاوزته وأوقفهم عند مدخل البرلمان يوم الإستيضاح وعندما حضر السيد المدرس الى المكان وكانت الجماهير محتشدة هناك بدأ الجلاوزة بالهتاف "الموت للمدرس" ثم هتفوا "يعيش رضا خان" فما كان من المدرس إلا أن توقف للحظة ونظر إلى الناس بهدوء ثم تابع سيره وصعد درج مدخل البرلمان وعاود النظر إلى الناس المحتشدين وقال لهم "يجب أن تهتفوا الموت لرضا خان". فالتهبت الحناجر بالهتاف كما طلب ، وسر الناس بموقف السيد الشجاع الذي أضاف قولوا "يعيش المدرس " ففعلوا بحماس شديد فتابع السيد سيره حتى وصل إلى مقربة من رضا خان عند سفرة الدرج العليا وأمسكه بتلابيبه ونظر الى الناس وقال "قولوا مئة مرة الموت لرضا خان " ففعلوا فعقب "قولوا يعيش المدرس مئة مرة " ففعلوا أيضا بكل حماس فاقترب الجلاوزة ليؤذوا السيد ويتطاولوا عليه لكن الناس والنواب الحاضرين منعوهم من المساس به وحموه .
بعد الحرب العالمية الأولى بدأت بريطانيا تعزز نفوذها داخل المؤسسات الرسمية الإيرانية وقامت عام 1919 بتشكيل حكومة إيرانية بقيادة مسؤول إيراني يدعى وفوق الدولة الذي وقع مع الإنكليز إتفاقية منحهم بموجبها حرية إدارة الشؤون العسكرية والمالية لإيران بواسطة مجموعة من المستشارين البريطانيين لكن السيد حسن المدرس رفض هذه الإتفاقية و طلب من الملك القاجاري رفض ضغوط الإنكليز عليه فاستجاب لمطلبه وحرض الناس على النزول إلى الشارع وإظهار معارضتهم للإتفاقية وتمكن بذلك من إفشالها وإلغائها الأمر الذي عالجه الإنكليز الدهاة بتأليف حكومة جديدة تآمر رئيسها معهم ومع رضا خان وزير الدفاع يومها وقاموا باحتلال طهران وسجنوا المعارضين بمن فيهم السيد المدرس. وسرعان ما استلم رضا خان رئاسة الحكومة بعد استقالة رئيسها ثم انقلب على الأسرة القاجارية وآخر ملوكها أحمد شاه وصار هو شاه إيران عام 1926.
وقد حاول رضا شاه إغتيال السيد المدرس عدة مرات لكن السيد نجا منها وظل محافظا على شجاعته في المواجهة والرد على المتسلطين.
وهكذا تحول السيد المدرس إلى رمز وطني ملهم وصاحب تجربة برلمانية حرة وشجاعة تمكن من خلالها من الفوز بقلوب الناس الذين وثقوا به وأطاعوه وحموه وعملوا تحت توجيهاته السلمية بصفته قائد مشرع نهضة إيران وكانت سياسة السيد المدرس مغطاة من قبل زعيم حوزة قم العلمية اية الله عبد الكريم الحائري الذي يعتبر أحد المجددين الكبار والمساهمين في تطوير مناهج وهيكليات عمل الحوزة وإعطائها دورا محوريا في صناعة الأحداث وتوعية الناس والتأسيس لنهضة المجتمع من خلال دعم العلماء المتنورين والثوريين أمثال السيد المدرس.
نهاية رضا شاه.
بمرور الوقت وتطور التجربة البرلمانية وضغط الشارع وأخطاء رضا شاه الكثيرة خاصة تأثره بأفكار كمال أتاتورك العلمانية والمتخاصمة مع الدين ومظاهر التدين مثل منع الحجاب والعمامة و تعطيل خطب الجمعة وعدم السماح بإقامة مجاس العزاء الأمر الذي إستفز الشارع المؤمن المحافظ وأبقى الأوضاع متوترة بين السلطة والشارع.
وارتكب رضا شاه خطأه القاتل في الحرب العالمية الثانية حيث تحالف مع المانيا ضد الإنكليز وهكذا حكم على نفسه بترك السلطة والتنحي لمصلحة إبنه محمد رضا شاه .
تجربة محمد مصدق.
التجربة البرلمانية الناجحة على يد السيد المدرس مهدت لأن يصل لاحقا إلى رئاسة الحكومة في إيران رجل مخلص لمصلحة الناس وطني ويمتلك جرأة إتخاذ المواقف القاسية في مواجهة الدول الكبرى مثل بريطانيا التي كانت تتحكم بمفاصل الإقتصاد الإيراني بطريقة أخطبوبية لا تبقي للحكومة الإيرانية وشعبها إلا فتاة الفتاة.
أدى نجاح مصدق عندما كان نائبا في البرلمان وبالتعاون مع النائب آية الله ابو القاسم الكاشاني أحد المشاركين في ثورة العشرين في العراق إلى تمرير مشروع تأميم النفط وإنتزاع الوصاية البريطانية على إثر هذه الحادثة أجبر الشاه بسبب ضغط الشارع على تكليف الشاه محمد رضا له بتشكيل الحكومة في العام 1951 وأطلق مصدق بعد تكليفه ما عرف لاحقا بثورة مصدق وهو قرار طرد شركة النفط الإنكلوإيرانية وقام بتأميمها حيث كانت قد أسست عام 1901 وكانت تحتكر النفط الإيراني وإنتاجه وكانت تجني جراء ذلك ارباحا طائلة نظرا لوفرة النفط يومها في إيران وسهولة إستخراجه في وقت كان يعاني الشعب من الفقر المدقع .
الإمام الخميني يتابع مسيرة أسلافه ويتلافى أخطاءهم.
هكذا تحول محمد مصدق إلى بطل ورمز وطني إضافي في ظل حكم رضا شاه وكان لتحالفه مع العلماء من خلال الشيخ الكاشاني نقطة قوة هائلة نظرا لدعم الشارع الإيراني لهذا التحالف الذي تخلى عنه وأهمله مصدق لاحقا في مرحلة خطرة من صراعه مع الشاه واعتقد أن الشارع معه بغض النظر عن موقف العلماء وموافقة الكاشاني على مواقفه وسياساته وكان يعتبر أن العلماء لا يمتلكون خبرة إدارة مؤسسات الدولة التي تحتاج إلى التكنوقراط وكان يؤمن بضرورة فصل الدين عن الدولة وقد كلفته هذه القراءة الخاطئة والإصرار عليها ان ينجح الشاه بالتعاون مع الأمريكان في الإنقلاب عليه وإعتقاله وإفشال مشروعه لتحرير إيران وإقتصادها من الهيمنة الغربية.
إنتهت ثورة مصدق بانقلاب الشاه عليها ولكنه تحول في نظر الشعب الإيراني إلى قائد تجربة تحرر ومحاولة نهوض مضافة إلى تجربة السيد المدرس وقد استلهمت الثورة الإسلامية اللاحقة الكثير من الرصيد الذي تركته ثورات التنباك والدستور وتأميم النفط وراكمت عليها واستفادت من ثغراتها وتمكنت من تحقيق الإنتصار على النظام الشاهنشاهي واقتلعت مشروع الهيمنة الغربية على شعب ايران وثروات إيران من جذوره من خلال ثورة تعاون فيها رجال الدين مع الأحزاب الوطنية والقومية والشيوعية وقدموا التضحيات المشتركة ولكن للأسف دب الخلاف بين شركاء الثورة بعد الإنتصار ووصلت الأمور بينهم إلى درجة العداء والصراع الدموي الذي راح ضحيته خيرة كوادر القادة ورجال الدين الثوريين الكبار في أدق مراحل تأسيس النظام الثوري الجديد وقد تم إغتيال هؤلاء القادة الكبار الذين أمثال (مرتضى مطهري وبهشتي وباهونار ومحمد علي رجائي وعشرات النواب والمسؤولين في تفجير البرلمان في مرحلة كانوا منهمكين فيها في تنضيج وبلورة نظام الجمهورية الإسلامية الفتية .
لقد قاد الإمام الخميني هذا المشروع النهضوي العملاق في ظروف شديدة التعقيد وأثبت أنه صاحب شخصية نضجت بهدوء في ظل أحداث وتجارب غنية وعاين إنجازات ومواقف رموز إسلامية ووطنية كبيرة وبنى وربى وأهل مجموعة من الرجال والكوادر والعلماء المعتقدين والواثقين بحكمته وبصيرته وأصحاب التجارب الميدانية في تحريك الجماهير وتوعيتها وتوظيف جهودها في خدمة مشروع النهضة .
الإمام الخميني وفلسطين وقدسها ومشروع الوحدة الإسلامية.
لقد أثبت الإمام الخميني أنه مدرك لأهمية مشروع الوحدة الإسلامية باكرا حيث طرحه وأكد عليه منذ إرهاصات الثورة الأولى وعمل على تحقيقه على أرض الواقع بعد إنتصار الثورة من خلال المؤتمرات الإسلامية الجامعة وتأسيس مراكز التقريب بين المذاهب ودعم الحركات الثورية الإسلامية في العالم بغض النظر عن إنتماءآتها المذهبية كما قامت إيران بدعم عملية خالد الإسلمبولي في مصر الذي إغتال أنور السادات وكما حصل في دعم مسلمي البوسنة في حروب التصفية العرقية التي قادها الصرب ضدهم وتبنت إيران القضية الفلسطينية ودعمتها من منطلق إيماني،إعتقادي وإنساني وقامت بتأسيس سفارة لفلسطين في طهران مكان سفارة الكيان الصهيوني وأعلن الإمام الخميني آخر يوم جمعة في شهر رمضان من كل عام يوما عالميا للقدس للتضامن معها وإبراز حق المسلمين بها والمطابة بتحريرها ودعم كافة فصائل المقاومة الفلسطينية بالمواقف السياسية الدولية وبالمال والخبرات والسلاح . كما دعمت الجمهورية الإسلامية شعب أفغانستان ومقاومته للمحتل السوفياتي أولا والأميركي لاحقا كما سعت إيران لتحويل موسم الحج السنوي إلى منبر ومنصة لتلاقي وتوحيد جهود المسلمين في مواجهة التحديات التي تعاني منها مجتمعاتهم وخاصة تسلط دول الهيمنة الغربية واميركا على دولهم وثرواتهم وقرارهم السياسي.
مواجة اميركا وحلفاءها لمشروع الوحدة الإسلامية.
وبالمقابل فإن اميركا ومن يدور في فلكها من الأنظمة العربية وخاصة المملكة العربية السعودية ودول الخليج التي تتأثر بها لعبوا دورا معيقا ومعرقلا لكل هذه الخطوات التوحيدية الإيجابية واستثمروا مليارات الدولارات لتشويه وتكفير ومحاربة هذه الثورة المخلصة والفتية وقدموا دعمهم لكل الحركات والأحزاب والأنظمة المناهضة لمشروع الوحدة نظرا لتضرر عروشهم ومصالحهم منه وقاموا بتنشيط ونشر ودعم حركات التكفير وبث روح القتل والإلغاء بين المسلمين ليعيقوا مشروع الوحدة الذي يمثل خطوة أولى بإتجاه نهضة شعوب المنطقة وراحوا يعملون على نشر ثقافة الإختلاف على الأساس القومي بين العرب والفرس وراحوا ينعتون المتعاطف مع ايران الإسلام بأنه يتعاطف مع الوثنية المجوسية في مقابل الإسلام . وقد حاولت إيران الإسلام إفشال مخططاتهم ومكائدهم وتجاوزت عن كثير من الأخطاء التي تم إرتكابها من قبل الحركات الثورية نتيجة انخداعها بضغوطات الأنظمة العربية المعادية لمشروع النهضة الذي تقوده إيران في المنطقة الأمر الذي ساهم في تأخير الكثير من الإنجازات والإنتصارات على الإحتلال.
الإخوان المسلمين في مصر ضيعوا فرصة وحدة تاريخية.
وقد حاولت إيران استثمار فرصة تاريخية مرت وتمثلت بالربيع العربي يوم تمكن الإخوان المسلمون من الوصول إلى السلطة في مصر العريقة حضاريا وثقافيا والغنية بالمنظرين والمفكرين المتنورين المؤسسين لمشروع النهضة الذي تحتاجه شعوب المنطقة. ولكن ردة فعل الإخوان المسلمين مثلت صدمة لإيران المنفتحة على الوحدة والتكامل بين الحركات الإسلامية حيث عجز الإخوان المسلمون عن المحافظة على الإنجاز الذي حققوه نتيجة تحالفاتهم ورهاناتهم الخاطئة ونتيجة عدم وصولهم إلى إستنتاجات وخلاصات صحيحة للثغرات والأخطاء التي وقعت فيها حركتهم في تجاربها السابقة. وهكذا خسرت إيران ومشروعها النهضوي فرصة إنتظرتها طويلا وبنت عليها آمالا كبارا لأن الشريك الذي انتظرته لم يكن يشاركها الحلم والمشاعر ذاتها.
واليوم بعد تكرار المحاولات والأخطاء من قبل حركات التحرر خاصة بعد ما حصل في سوريا في حرب تفتيتها ومحاولة قلب نظامها فقد ثبت وإتضح أن التعاون بين الجمهورية الإسلامية وحلفاءها في محور المقاومة والممانعة مع الحركات الإسلامية السنية في المنطقة وعلى رأسها حركات الثورة الفلسطينية وخاصة حماس والجهاد الإسلامي يمثل الطريق الأقصر والأسهل لتحقيق الأهداف التكتيكية والإستراتيجية . واتضح أيضا أن الأنظمة العربية بمعظمها تعمل جاهدة على التطبيع ومستعجلة جدا للإنتهاء من موضوع فلسطين وتحريرها بالنسيان ودفع المال بدل العودة والثورة والجهاد والتحرير.
بوادر بروز مشروع وحدة جهادية إسلامية متناغمة.
لذلك ما بدأنا نلمسه بعد إنتفاضة فلسطين الشاملة الأخيرة ومبادرة سيف قدسها الإستثنائية في خلق معادلات ردع جديدة بالتعاون المعلن والواضح مع الجمهورية الإسلامية وحلفاءها الإقليميين مثل سوريا والعراق واليمن وحزب الله لبنان بات يوحي بأن الفجوة التي كان يعاني منها مشروع الوحدة الإسلامية بدأ ترميمها وردمها خاصة أن العنوان الذي تمثله المقاومة الفلسطينية عنوان غني بالقداسة الدينية وبالمعاني الإنسانية العميقة والنبيلة والتي يجتمع ويتضامن معها ليس فقط شعوب المنطقة بل شعوب العالم كما بدا واضحا من خلال مضاهرات ومسيرات الدعم التي ضجت بها مدن وعواصم أوروبا وأميركا وآسيا الأمر الذي يحتم علينا أن نتشبث بأجواء الوحدة الجديدة والصادقة التي برزت وأن نراكم عليها ونطورها بمشاريع تعاون جهادي مشترك يساهم بتقريب موعد إنتصار شعب ومقاومة فلسطين على مشروع إستعماري مزمن ومتجذر كما يؤسس لنهضة شعوب المنطقة بعد تخلصها من مشروع الهيمنة الغربي والأميركي وستسقط نتيجة هذه الإنتصارات أنظمة عميلة سعت بكل طاقات وثروات دولها وشعوبها لإعاقة وتدمير مشروع النهضة الذي بدأت معالم ظهوره وإتضاحه تبرز يوما بعد يوم اكثر فأكثر.
وبالوحدة والتعاون ونبذ الفرقة والفتن سيشرق إن شاء الله قريبا فجر الإنتصار المرتقب.
* المهندس عدنان إبراهيم سمور.
باحث عن الحقيقة.
31/05/2021
الجزء الأول من موضوع "مشروع نهضة المنطقة والإضافة التي قدمتها سيف قدسها لهذا المشروع"
تعليقات: