د. يوسف غزاوي: فنون ما بعد الحداثة.. العودة إلى القديم

ساندرو شيا ــ «المدخن ذو القفاز الأصفر» (1980)
ساندرو شيا ــ «المدخن ذو القفاز الأصفر» (1980)


إذا كانت فنون الحداثة ألغت كلّ ما يتعلّق بأساليب وتيّارات فنّيّة سابقة، فإنّ ما بعد الحداثة أعادت الدفّة إلى هذا القديم الذي لا غنى عنه في مسار الفنّ التشكيليّ وتوجّهاته، مع إعطائه روحاً جديدة مجبولة بالسخرية والتهكّم، وخليط غريب هجين من أشياء كثيرة، وحضور لافت للمرأة. يجد الباحث مالكولم برادبري من يؤكد موت ما بعد الحداثة، ومن يؤيّد استمراريتها. يقول إنّ مصطلح ما بعد الحداثة يُقصد به النتاجات الفنيّة التي جاءت بعد الحرب، وهي خليط من الفن التقليديّ ومن فن «اللافن». تعني ما بعد الحداثة الفنيّة العودة إلى الأصول ضمن مفهوم جديد. إنّ تيارات ما بعد الحداثة الفنيّة لسنوات الثمانينيّات من القرن الفائت، تتأتى مصادرها من أفق متعددة. نجد تأثيرات فن الديكور الإسلامي بألوانه العالية المشرقة وأشكاله المنمقة القائمة على المناظر الطبيعية، وأيضاً الموضوعات الإباحية من الشرق، وأيضاً الاستعارة من الخزف المكسيكي والهندسة المغربية. ونجد فيه أيضاً تأثير الفن الشعبي «البوب آرت» وإيثاره الكليشيه والموضوعات أو العناصر المطبوعة على النسيج الصناعي. تبقى ما بعد الحداثة على مسمع القديم والحقيقة الآلية في آن، مع تأكيدها على الوظائف الجماليّة. من جهة أخرى، هناك التصاق مفتوح بتاريخانيّة مؤكدة موصولة بانتقائيّة وتعدّديّة. وهي بهذا تعارض عمل الطليعيين، حيث أخذت على عاتقها التهكم والسخرية والسقوط الوسخ لمفاهيم الطليعيّين. إنّ ما يميّز فناني ما بعد الحداثة (ولا سيّما فناني الثمانينيّات) وفناني المعاصرة هو العودة إلى التقنيّات التقليدية والفريسك والتصوير الزيتي والأكواريل والرسم والموزاييك والنحت بالحجر وبالبرونز كاحتجاج هائل لجيل الشباب في مواجهة الجيل القديم الذي أعلن نهاية فن التصوير la peinture. نرى هيمنة وغلبة السخرية على أعمالهم كمحرّك لما بعد- الطليعيّ، وعدم الاهتمام بمنابع الأفكار... هذا من دون أن نشير إلى أعمال فنانين غارقة في ابتذالها وطرحها وسخريتها وتطرّفها.

تعطي الراحلة مي غصوب أمثلة في الفن التشكيلي، فرينيه ماغريت (1898 ــ 1967) يودّ القول في لوحة غليونه الشهيرة Ceci n’est pas une pipe، إنّ هذا ليس غليوناً، بل صورته الزائفة، وهو ما يعتقده ما بعد الحداثيين. وتتطرّق غصوب إلى أندي وارهول للتساؤل حول تمثيله للحداثة أو ما بعد الحداثة حين نُزع الخط الفاصل ما بين الصورة وبين صنع الصورة. وتذكر في هذا الإطار، صورة مارلين مونرو، لتصل إلى التساؤل حول الكومبيوتر: هل ما نتلاعب به هو مجرّد صورة على شاشة الكومبيوتر، أم أنّ ما نسجله عليها هو الواقع؟ فمثقّفو ما بعد الحداثة يصفون فنانيهم بـ«البدو الرحل» كنقيض لـ«الطليعة».

رأى الراحل عبد الوهاب المسيري، منظّر ما بعد الحداثة، أنّ فن القرن العشرين هو فن مكعّبات ومربّعات ودوائر وألوان. ويصبح كلّ شيء مرجعية ذاته، مكتفياً بذاته، من دون أيّ معنى أو مدلول في عالم مادي. أبرز ما يمثّل ذلك الفن المفاهيمي، ويعطي مثالاً على ذلك الفنان بييرو مانزوني الذي كان يعلّب برازه ويبيعه. يقارن بين الفن ونيتشه حيث النظام عند كليهما مؤقت وواقع وهمي لا توجد فيه حقيقة. يلغي نيتشه المساحة بين النص والحقيقة، بين المبدع والحقيقة بل بين نص وآخر. سنلقي الضوء سريعاً على بعض نماذج فنون ما بعد الحداثة.


نسيج وديكور

Decoration & Pattern هذا التيار الفنّيّ هو تيّار «ما بعد حداثي» يمكن ترجمته بـ «نسيج وديكور» أو «نسيج وتزيين». تيّار فنّي، فيه تشظٍّ وتشتيت وتفكيكيّة وخلط المظاهر والنظريات والآراء. نجد في هذا التيار مصادر متأتيّة من أفق عدّة مختلفة: هناك تأثيرات فن الديكور الإسلامي بألوانه العالية المشرقة وأشكالها المنمّقة القائمة على المناظر الطبيعيّة، وأيضاً الموضوعات الإباحيّة من الشرق، والاستعارة من الخزف المكسيكيّ والهندسة المغربيّة... ونجد أيضاً تأثير الفن الشعبيّ وإيثاره للكليشيه والموضوعات أو العناصر المطبوعة على النسيج الصناعيّ. تتعارض حركة الـ P & D مع الطليعي l›avant-garde حول نقطتين: من جهة رفضها لمفهوم تلقائيّة العمل لمصلحة مفهوم ما لعملٍ حاملٍ لتأثيرات عدّة، ببقائها على مسمع القديم والحقيقة الحاليّة في آن، التي تميّز الانطباعات والجاذبيّات، مع تأكيدها على الوظائف الجماليّة. من جهة أخرى، هناك التصاق مفتوح بتاريخانيّة مؤكدة موصولة بانتقائيّة وتعدّديّة. كل هذا يفسّر الصدمات التي فرضتها تلك الحركة على ما بعد الطليعيّ post avant-garde. كان لهذه الحركة تأثير اجتماعيّ وسياسيّ مهمّ في إطار تقدير النساء الفنانات، حيث أعطت الكلام للتعبير الأنثويّ في مجالاته الفنيّة، وهو أمر امتازت به مرحلة ما بعد الحداثة. إنّ جيل ثمانينيّات القرن العشرين، وهو جيل الشباب، قد خصّ، وبامتياز، في عمله جمالية «بدائية» عنوانها عدائية الفن، أو ضد الفن anti-art، حيث أخذت الخاصيّة البدائيّة على عاتقها الوجوه التهكّميّة والسخرية والسقوط «الوسخ» للمفاهيم الفارغة للطليعيّ l›avant-garde.


سيغمار بولك

سيغمار بولك (1941 ــ 2010) فنان بولوني الأصل درس في ألمانيا على يد جوزيف بويز في «أكاديمية داسلدورف». سيكون هذا الفنان الممثل الأوّل للواقعية الرأسمالية التي أنشأها مع الفنان جيرار ريشتر (1932)، حيث ستتقارب أعمالهما وتتشابه. بعثت هذه الحركة صداها في ألمانيا في الستينيّات، بعيداً من التعبيريّة التي وسمت جيله، ووقت ظهور «حركة الفلوكسس» Le Fluxus. عمله تجريبيّ، إذ استعمل كل الوسائل على مسطح اللوحة الذي التقت فيه المواد الكيماويّة والجذريّة المختلفة. هناك صلات بين عمله وحركة الـP&D لأنه يستعمل بشكل غريب ودائم نسيجاً مزخرفاً مطبوعاً ومصنّعاً. في صوره وأفلامه وبعض منحوتاته، يمزج الفني مع المبتذل التافه الزقاقي والأرتيزانا والصناعي. في عمل له تحت عنوان Le copiste عام 1982، استعمل تخطيطاً لرسم قديم، ثمّ راكب عليه لمسات لونية غلبت عليها المصادفة، فأعطى حجماً وبعداً للمنظر الطبيعيّ الرومانطيقي.

استوعب جوليان شنايبل تأثيرات تاريخ الفن ووسائط الصورة – الكليشيه

أفكاره في الفن تفتح بعداً آخر، وتخلق شكلاً جديداً من التعبير. يرسم مشاهد دينية ورؤى ملغزة سوداء. جمع كثافة الفولوكلور الفلمندي مع سحر المضيء – والمعتم للختم الشرقي les estampes، وخاصة الياباني منه. لا يعزل اليومي عن استراتيجيته الفنية. بالنسبة إليه، فإنّ الواقع مصفى من خلال السخرية. لا يأخذ شيئاً على محمل الجدّ. الواقع بالنسبة إليه غير واقعي، هو كذب ونفاق، متعارض وغير واعٍ. محترفه مختبر كيميائي. حمل معه دائماً كاميرا التصوير وكاميرا الفيديو.

بولك هو من الأشخاص المفاتيح للفن المعاصر. كل هذه الأمور جعلت منه واحداً من كبار ممثلي الفن ما بعد الطليعي في ثمانينيّات القرن العشرين. نجد أيضاً في هذا المجال دايفد سال وجوليان شنايبل. في المشهد الأميركي، نجد فنانين كباراً، يأتي على رأسهم دايفد سال وجوليان شنايبل. ستكون لأعمالهم قابلية العدوى بفناني ما بعد الطليعي الأوروبيين، وأيضاً ببعث الحيوية والنشاط الأوليّ في الساحة الفنية في الولايات المتحدة الأميركية.

يُعتبر دايفد سال واحداً من ممثلي الصورة التصويرية الأميركية الجديدة New Image painting américain، التي تبدل العناصر الواقعية أو الشعبية بتصوير مُستثمر بطاقة تعبيريّة قوية بانحراف أو ميل نحو ايقونوغرافية مُقتصدة. نرى هذا المسار في الحكايات الملغزة التصويرية لدافيد سال بامتزاجاتها المؤسلبة والمعقدة. يعمل الفنان، على غرار بولك وبيكابيا، من خلال البروجوكتور والصور بالأسود والأبيض وطبقات لونيّة شبه شفافة، إضافة إلى تقنيات أخرى وصولاً إلى فن السينما. وقد شكّل الجسد الإنسانيّ، وخاصّة الأنثوي، حقلاً لاستكشاف الإنسان. رسم ولوّن المرأة بأوضاع غريبة مختلفة مركزاً على أعضائها الجنسية، ولا سيّما عضوها التناسليّ على طريقة البورنوغراف. تكشف أعماله على مستوى المسطحات التقنيّة والشكليّة والدلاليّة، عن توازن خاص ونادر ما بين التاريخ والحاضر، بين الحقيقة البسيكولوجية والفيزيولوجية، بين فن مثقف وتافه، بين ايروتيكيّة وبورنوغرافيّة، بين تفخيم مؤرخ وتفاهة. أظهرت أعماله شكّاً بنهاية الزمن ورغبة سريّة باجتيازه.


جوليان شنايبل

أعمال شنايبل لها طابع ووجه شاذ وغريب. وفّق الفنان بين تأثيرات متعدّدة لها طابع أوروبي، ولها أيضاً جذورها الأميركية التي تعود إلى التعبيرية التجريدية. استوعب هذا الفنان تأثيرات تاريخ الفن ووسائط الصورة – الكليشيه. عاش هذا الفنان بعض الوقت في أوروبا قبل أن ينجح في الذهاب إلى أميركا. تأثر بشكل كبير بأعمال جوزيف بويز وبولك وكيفر.

يرسم شنايبل ويلوّن على حوامل عدّة كالمخمل والجلود ومحفظات من القنب، ويستعمل أيضاً نتفاً من الصحون والأواني الزجاجيّة وقرون الأيّل وشقفاً من هياكل السيارة والقطن وتروس الساعة (دواليب الساعة) وأطراف الخشب. الحجم الهائل لأعماله هدفت إلى الإمساك بانتباه المشاهد. لا يتردّد لهذا السبب في استعمال حوائج وتأثيرات بدائية لخدمة الخيال التصويري الأخاذ. وحسب تعبيره، فإنّ على عمله أن يسلب لبّ المشاهد. هذا ما حصل معنا أثناء مشاهدتنا لأعماله في «مركز جورج بومبيدو» في باريس نهاية ثمانينيّات القرن الفائت. بعض عناصر أعماله فيها تصوير باروكيّ، بالرغم من التركيز الذي تستحوذه الصورة على عمله. ونجد أيضاً موضوعات دينية، ولا نشكّ أبداً بلجوء الفنان إلى موضوع القديس سباستيان وقد عُذب بالسهام، أو إلى المسيح مصلوباً. نجد في عمله التجريد والتشخيص متحابين ومتآلفين. رموز ومجازات سكنت أعماله، تظهر لنا سحراً من هذا الخليط الشاذ.

فنانون آخرون معاصرون انضووا تحت تيار الـ P& D كالفنان الإيطاليّ ميمو بالادينو الذي استوحى تقنية الموزاييك وتمفصلات السجاديات الشرقية والفريسك الكلاسيكي. سجاداته هي نسيج وحياكة الكوسموبولوجيّة للعالم القديم المسيحيّ والثقافة البدائيّة الأفريقيّة وجنوب شرق آسيا.

انطلق بالادينو من «تجريدات – علامات» من روحية بول كلي وفاسيلي كاندينسكي، ممّا يعني من فناني الحداثة. وقد ركز على اللونين الأحمر والأصفر كتعبير عن روح الشرق وضوئه. وهناك الفنان ساندرو شيا الذي جمع في عمله الكلاسيكيّة الجديدة لبيكاسو، وشاعرية شاغال الحلمية. وفي منحوتاته، قلّد رودان. أمّا موضوعاته فهي شديدة الزقاقيّة والابتذال كعمله «المدخن ذو القفاز الأصفر» المنفذ عام 1980، حيث يقف شخص يدخن. وبدلاً من أن ينفث دخانه من فمه، نراه يحبق (يضرط)! أو قد يحمل أشخاص لوحاته خنجراً بأيديهم وهم في حالة الاستعداد للطعن... دلالة على الغدر والعدائيّة كعمله المعنون «لعبة أيدي» Jeu de mains المنفذ عام 1981.

أمّا دوكوبيل فقد قدّم عام 1982 سلسلة مدهشة بعنوان «صور زرقاء عن الحبّ». نجد في أعماله إشكاليات اجتماعيّة – اقتصاديّة.

ما يميّز هؤلاء الفنانين هو العودة إلى التقنيّات التقليديّة والفريسك والتصوير الزيتيّ والأكواريل والرسم التخطيطيّ والموزاييك والنحت بالحجر والبرونز، كاحتجاج هائل لجيل الشباب في مواجهة الجيل القديم الذي أعلن نهاية فن التصوير. ونرى أيضاً هيمنة وغلبة السخرية على أعمالهم كمحرك لما بعد– الطليعيّ، وعدم الاهتمام بمنابع الأفكار. على ضوء هذه السخرية، نصل إلى توضيح العلاقة المعقدة بين الطليعي l›avant – garde وما بعد الطليعي Le poste avant- garde لثمانينيّات القرن العشرين.

* د. يوسف غزاوي (أستاذ جامعيّ، فنان تشكيليّ وباحث)

تعليقات: