اللبنانيون يواجهون خطر التشرّد.. وإيجارات المدن تطرد سكانها

اللبنانيون يواجهون خطر التشرّد
اللبنانيون يواجهون خطر التشرّد


«تسهيل إسكان اللبنانيين المعوزين وذوي الدخل المتواضع وذوي الدخل المحدود في مساكن ملائمة في المدن والقرى». هذا ما تنص عليه المادة الأولى من قانون الإسكان الصادر قبل 56 عاماً (1965/58)، فيما لم تؤدّ السياسات الحكومية، طوال تلك الفترة، إلّا إلى العكس، ووصل الأمر إلى تداعي قطاع السكن حتى بات كثيرون من اللبنانيين حالياً أمام خطر التشرّد، حرفياً.

تعاني سارة، الأم لخمسة أطفال، من هاجس الرجوع إلى الشارع بسبب عجزها عن سداد إيجار المنزل وتراكم الدفعات عليها، هي التي خبرت جيداً معنى افتراش الشارع. إذ «سكنت» لثلاثة أيام، مع أطفالها، تحت أحد الجسور بعدما اضطرت الى إخلاء منزلها وحجز المالك على الأثاث. مساعدة أصدقائها ورفاقها لها مكّنتها من العودة إلى العيش تحت سقف. لكنها تدرك أن «إحسانهم» إليها قد لا يدوم في ظل الضائقة التي تصيب الجميع، وأن حقها البديهي في السكن مهدد في أي لحظة. وهو ما يدركه «أبو لميا»، جيداً. فالرجل الذي يعمل في جمع التنك لم «يتنعّم» بالبيت المهجور الذي أمّنته إحدى الجمعيات له ولابنته أكثر من ثلاثة أشهر، لعجزه عن تأمين الإيجار بعد فترة الإقامة المجانية.

الباحثة المدينية في «استديو أشغال»، نادين بكداش، لفتت إلى أن «التشرّد ظاهرة حديثة بدأنا نشهدها أخيراً وتطاول كل اللبنانيين، ما يؤشر إلى مدى تطور الأزمة وتفاقمها». وأوضحت أن الحالات التي نحن على دراية بها «تصيب العجزة وكبار السن ممن لا معيل لهم. وهناك عائلات بأكملها تعاني التشرّد، ولو لمدة قصيرة، وتسكن في الشوارع إلى حين إيجاد بديل».

وقد زاد الانهيار الاقتصادي والنقدي فوضى سوق الإيجارات سواء في التسعير أو في الشروط التي يخضع لها كثير من المستأجرين المستضعفين خلافاً للقانون، والتي تضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الدفع أو افتراش الطرقات والأرصفة.


عدم تفشي حالات التشرّد بشكل كبير حتى اللحظة لا يعني أن الخطر غير قائم

تكفي جولة في شوارع بيروت تحديداً، وفي بعض المناطق الأخرى لتأكيد ذلك. فـ«حالات التشرد في شارع الحمرا، مثلاً، أصبحت لافتة، ولا نقصد هنا تشرد الأطفال وأولاد اللاجئين، بل تشرد المسنّين اللبنانيين»، بحسب ما تقول لـ«الأخبار» مديرة برنامج العدالة الاجتماعية والمدنية في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية منى فواز، لافتة إلى أنّ «تشرّد اللبنانيين هو وجه آخر من أوجه أزمة السكن، وهو مرشح للتوسع، وعلينا أن نتوقع ارتفاع أعداد المشردين كلما تفاقمت الأزمة الاقتصاديّة».

تشير فواز إلى أن بعض المالكين باتوا يستبدلون المُستأجرين اللبنانيين بنازحين سوريين لأن هؤلاء «أقدر على الدفع»، وفي بعض الحالات «يتذاكى المالكون ويتظاهرون بالتسامح وغضّ النظر عن تأخر المستأجرين في تسديد البدلات لعدة أشهر ليسهل عليهم طردهم لاحقاً بشكل قانوني».

ووفق المعطيات، ارتفعت وتيرة التهديدات بالإخلاء التي يتعرض لها الكثير من المستأجرين الذين بات متعذّراً عليهم تحمل بدلات الإيجار التي باتت تشكّل القسم الأكبر من مداخيل لم تعد تساوي شيئاً. تلفت بكداش إلى أن «كثيرين يتعرضون لتهديدات بالإخلاء ولا يملكون خيارات بديلة. وفي عدد من الحالات التي تابعناها واجهت بعض العائلات والأفراد إخلاءات متكررة، حيث اضطروا للتنقل بين عدة مساكن وأُجبروا على إخلائها في كل مرة لعدم قدرتهم على دفع الإيجار». أما عدم تفشي حالات التشرد بشكل كبير حتى اللحظة، فـ«لا يعني أن الخطر غير قائم لأن كثيرين ممن ليسوا مشردين بالمعنى الفعلي يقيمون في مساكن لا تمتّ إلى ظروف العيش اللائق بصلة، ما يقلص عدد الحالات التي تفترش الطرقات. لكن ظروف حياتهم لا تقل سوءاً عن المشردين، وهو ما يفرض توسيع تعريف التشرد ليشمل هذه الحالات، خصوصاً أن القانون لا يحدد الأماكن التي يسمح بتأجيرها للسكن. البعض يسكنون في مستودعات أو في غرف مع عشرات آخرين، وفي أماكن لا يصلها نور أو هواء ولا تتوافر فيها تسهيلات تصلح لإقامة البشر».

وتلفت بكداش إلى أن «بعض المشرّدين يصعب عليهم ترك المناطق التي عاشوا فيها وبنوا فيها ذكريات وعلاقات، لذلك نجدهم يتشردون حيث اعتادوا السكن، إما تحت الجسور أو في أبنية مهجورة أو ما يتوافر لهم»، فيما «تتعامل معهم البلديات كعبء جمالي، وبدل مساعدتهم تسعى إلى إبعادهم عن بعض الأحياء إلى حيث تتعذّر رؤيتهم».


إيجارات المدن تطرد سكانها

حتى عام 2019، كانت التقديرات تُشير إلى أن نحو 87% من المُقيمين في لبنان يقطنون في مناطق حضرية، غالبيتهم تسكن في المدن الكبرى. الأزمة الاقتصادية الراهنة ستغيّر، على الأرجح، هذه التقديرات بفعل تزايد «النزوح» إلى الأرياف. وهي عودة لا تخلو من «عواقب اجتماعية وخيمة» لما قد تساهم فيه من زيادة الانغلاق والتقوقع ونموّ العصبيات المناطقية والعشائرية، فضلاً عن أن الحياة «هناك» أسهل من «هنا» بسبب غياب الإنماء ومركزية العاصمة في حياة اللبنانيين

مع دخول الانهيار عامه الثالث، تُشارف غالبية عقود الإيجار السكنية في مختلف المناطق عموماً، والمدن خصوصاً، على الانتهاء، فيما ترتفع حدّة «المُفاوضات» بين المالك والمُستأجر على خلفية البدل الشهري للمأجور لتنتهي غالباً بالفشل.

مُقارنةً مع بقية السلع والخدمات التي ارتفعت أسعار بعضها في السنتين الماضيتين بنسبة تجاوزت الـ 400%، زادت التكاليف المرتبطة بالمسكن (القيمة التأجيرية، الماء، الكهرباء، والمحروقات..) بين خريف 2019 وخريف 2020 بنسبة تقل عن 14%، وفق مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت. هذه الزيادة «المقبولة» سبقت تفاقم الانهيار ورفع الدعم عن المحروقات واشتداد أزمتَي الكهرباء والمياه، ما يشير الى «التحاق» كلفة السكن، قريباً، بـ«موكب» أسعار بقية السلع والخدمات.

ومع انتهاء عقود الإيجارات التي نُظّمت قبل الأزمة وتجاوز قيمة الإيجارات «الجديدة» أضعاف الحد الأدنى للأجور، وفي ظلّ اشتداد الانهيار، غدا قرار العودة الى الريف خياراً وحيداً لكثيرين ممن يملكون «ترف» الاستقرار في القرى و«استثمار» مداخيلهم لتأمين غذائهم وحاجياتهم.

تقول ليلى، وهي ربة منزل انتقلت وعائلتها من بيروت إلى «الضيعة»، إن زوجها «عاطل من العمل منذ أشهر، والأولاد لا يزالون في المدرسة، فيما ارتفعت كلفة المعيشة ولا أقارب لنا في الاغتراب لمدّنا بالدولارات»، لذلك «رجعنا عالضيعة وسجلت الأولاد في المدرسة الرسمية هناك»، علماً بأن الخيار لم يكن سهلاً، إذ «مضت عقود على سكننا في بيروت، ولدينا هنا ذكريات وأصدقاء، وأولادنا كبروا في أحيائها».

حال ليلى من حال كثيرين من اللبنانيين الذين هجروا مسقط رأسهم سعياً وراء الدراسة والعمل في المناطق الحضرية التي كانت، حتى عام 2019، «تؤوي» نحو 87% من المُقيمين في لبنان، وفق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN HABITAT)، ونحو 64% من هؤلاء يعيشون في المدن الكبرى: بيروت، طرابلس، زحلة، صيدا وصور.


غياب الإنماء في الأرياف يُصعّب تعميم تجربة «النزوح» إلى القرى

يُجمع عدد من الخبراء المدينيين على أن الأزمة الحالية من شأنها أن تغيّر معادلات السكن وتعيد توزيع السكان على المناطق بسبب موجات العودة الى الأرياف. إلا أن لهذه العودة التي يُجبر عليها هؤلاء تداعيات و«عواقب اجتماعية وخيمة وآثاراً نفسية»، بحسب الباحثة المدينية في «استوديو أشغال» نادين بكداش. إذ إن «المسكن ليس حجراً فقط، بل ذكريات وصداقات وعلاقات ونشاطات. ومن غير السهل سلخ إنسان عن محيط اعتاد العيش فيه. كما أن كثيرين من يعودون إلى القرى كانوا قد انقطعوا عن قراهم لفترات طويلة، ولا علاقات اجتماعية وحميمية لهم فيها كتلك التي تربطهم في المدن التي قضوا فيها معظم حياتهم». وفق بكداش، «المطلوب التعامل مع هذا الأمر بواقعية وعدم الانجرار إلى الرومانسية، لأن الدفع نحو خيارات غير طوعية، بل مفروضة بحكم الأمر الواقع، قد ينتج منها مزيد من الانغلاق والتقوقع ونمو العصبيات المناطقية والعائلية والعشائرية»، لافتةً إلى أن المدينة «فضاء يسهّل الدمج والاختلاط والتواصل مع شرائح المجتمع كافةً». أضف إلى ذلك، ما هو «ضمان» أن تكون «مقوّمات الصمود» في القرية في الظروف الحالية أفضل؟ و«إذا افترضنا أن نقلة كهذه تؤمّن حلاً لمشكلة السكن وتوفّر كلفة الإيجارات، فماذا عن بقية المصاريف؟».

مديرة برنامج العدالة الاجتماعية والمدينية في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية، منى فواز، تلفت إلى أن «الحديث عن تراجع دور المدينة وتفضيل حياة الريف والعمل أونلاين ليس جديداً، ويعود الى حوالى عقدين من الزمن» مع فورة الاتصالات العالمية. لكن «هذه التوقعات لم تتحقق حول العالم، أقلّه بالحد الذي كان متوقعاً». ورغم تضافر عوامل عدة تدفع كثيرين إلى التفكير بالانتقال للعيش في القرية، تُشير إلى «كثير من الأمور العالقة التي قد تصعّب اعتماد خيار كهذا على نطاق واسع في المدى القريب، منها غياب الإنماء في الأطراف والأرياف، وعدم توافر نقل عام حديث ولائق، وارتفاع كلفة البنزين وغيرها...».

إيجارات المدن تطرد سكانها
إيجارات المدن تطرد سكانها


تعليقات: