يوسف غزاوي: في معنى ما بعد الحداثة Poste- Modernisme


استتباعاً لمقالتين سابقتين؛ الأولى حول معنى المعاصرة، والثانية حول معنى الحداثة، فإنّ هذه المقالة تتناول «ما بعد الحداثة» لنستكمل بها الثالوث الفكريّ - الفنّيّ (الحداثة - ما بعد الحداثة - المعاصرة) الذي صبغ القرن العشرين امتداداً لقرننا الحاليّ.

عندما نقرأ عبارة (ما بعد الحداثة) هل نعي معناها العميق، أبعادها، دلالاتها ودورها في زمننا الحاضر، ظروف نشأتها واختلافها عن الحداثة؟ هي أسئلة مشروعة لمفهوم فكريّ شرعنته متاهات الإنسان المعاصر تحت عنوان التغيير والبحث عن الأفضل. فماذا قدّمت ما بعد الحداثة للإنسان، وماذا أخذت منه؟

كما تعدّدت تعريفات الحداثة فإنّ ما بعد الحداثة، بدورها، لم تبتعد عن هذا الشيء؛ فليس هناك ما بعد حداثة واحدة، بل هناك ما بعد حداثيّات، لكنّها تشترك جميعها في بعض الأسس النظريّة. هذا المصطلح من أهمّ المصطلحات التي شاعت وسادت منذ خمسينيّات القرن الفائت، ولم يهتد أحد بعد الى تحديد مصدره: فهناك من يعيد المفردة الى المؤرخ البريطاني «آرنولد توينبي» 1954، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأميركي «تشارلز أولسون» في الخمسينيّات الميلادية، وهناك من يحيلها إلى ناقد الثقافة «ليزلي فيدلر»، ويحدد زمانها بعام 1956.

مهما يكن من أمر، فإنّ ما بعد الحداثة هي حركة شموليّة أيضاً كما الحداثة، تنشط في الفضاءات كافة: السياسيّة، الاقتصاديّة، التعليميّة، الاجتماعيّة، الفلسفيّة، الأخلاقيّة النفسيّة، المعرفيّة، الانتروبولوجيّة... وتتشظى ما بعد الحداثة إلى ما بعد حداثات مختلفة، وهي أبرز ما تكون في العمارة وتخطيط المدن. يمكننا التمييز بين قسمين كبيرين منها:

Postmodernty

أو Postmodernité

و Postmodrenism

الأولى، تعالج المنهج والنظريّة النقديّة فلسفياًّ ومعرفياًّ، والثانية كممارسة عمليّة وكتطبيق لهذه المنهجيّة والنظريّة على حقل معيّن كالأدب أو الفن أو الموسيقى أو العمارة... هي ردّة فعل على الحداثة كما هو متفق عليه بين الكثير من آراء المفكرين.

لا مركزية الإنسان

بالنسبة لتاريخ بدء ما بعد الحداثة تتعدّد الآراء، كما حصل مع الحداثة، فيقول (المسيري) إنّ سوزان سونتاج، الكاتبة الأميركية المدافعة عن السحاق، نشرت عام 1963 كتابا بعنوان «ضد التفسير»... فكثير من مؤرخي الفكر الغربي يعدون تاريخ صدور هذا الكتاب هوأيضا تاريخ مولد ما بعد الحداثة.

أمّا الروائية الانكليزية (فرجينيا وولف 1882 - 1941) فقالت: إن الحداثة (أو العالم الحديث) بدأت في ديسمبر سنة 1910 حين تغيّرت شخصية الإنسان!! وقد أعاد (تشارلز ديكنز) صياغة عبارة وولف، وأضاف بجديّة ساخرة (السخرية واحدة من سمات ما بعد الحداثة): إنّ الحداثة انتهت في 15 يوليو 1972 في تمام الساعة 3,32 عصراً تحديداً في الساعة والدقيقة اللتين شهدتا إزالة المشروع السكني Pruitt Igoe الذي صمّمه الحداثي (منورو ياماساكي) عندما قرّر مهندسو مدينة سانت لويس الأميركية عدم صلاحيّته، ويقول (روبرت راي): الحق أنّ مصطلح ما بعد الحداثة قد شاع بداية في مجال العمارة ثم تبنته الفنون والآداب، وبات أسلوباً جماليّاً ووضعاً ثقافيّاً وممارسة نقديّة وموقعاً سياسيّاً وحالة اقتصاديّة.

ad

فالإنسان حيوان لا يعرف غير التربّص والافتراس والصراع وحبّ البقاء والأنانيّة والبحث عن المنفعة واللذة، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأعجم، يعيش وحيداً منعزلاً عن غيره من البشر المتربّصين به.

لقد قلبت ما بعد الحداثة نظريّات الحداثة وفرضيّاتها. احتفت الحداثة بالعمق والمعنى، أمّا ما بعد الحداثة فقد نادت بعدم ثبات المعنى وانفتاح النص وتعدّد القراءات (نذكر هنا كتاب «رولان بارت» «العمل المفتوح»). حاربت ما بعد الحداثة النخبة والنخبويّة، وآمنت بالسطحية والمبتذل اليومي، وتغلب فيها الهامش على المركز. قوّضت ما بعد الحداثة السلالم الهرميّة، واهتمت بأشكال التعدّديّة اهتماماً شديداً. ما بعد الحداثة تشظ وتشتيت، شكل مفتوح، دال Signifiant. تبنّت ما بعد الحداثة طروحات البنيويّة وما بعدها، وأبرز منظرّيها ومفكريها: جاك دريدا، جاك لاكان، رولان بارت، ميشال فوكو وغيرهم... الذين أسسوا لثقافة ما بعد حداثة. يمكننا القول آنئذ إنّ ما بعد الحداثة عجزت عن تقديم البديل عن الحداثة والمأزق الذي وقعت فيه. يشير ليوتار إلى أنّ ما بعد الحداثة هي ما بعد ميتافيزيقيا، ما بعد صناعية، وهي ذات سمات تعدّدية. تطرّف آخرون فقالوا إنّ ما بعد الحداثة مصطلح يشير إلى السير إلى الوراء ومخالفة التيار السائد قولاً وفعلاً وتفكيراً.

يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه «دراسة التاريخ» إنّ عصر ما بعد الحداثة في الغرب سيهيمن عليه القلق واللاعقلانية وفقدان الأمل والعجز.

ترك ما بعد الحداثي مدنه تنمو عشوائيّاً بذاتها، باسم الدعوة إلى ترك الناس يعيشون كما يرغبون. وبفضل إنسان ما بعد الداثة بات الإنسان لا يؤمن بشيء، وهو مجرّد منظم أو منسّق، يؤمن بالتجاور... التجاور فقط.

تحتلّ قضية التجاور حيزاً مهما في فكر ما بعد الحداثي. فتعقيدات المدينة الغربية الحديثة تعطي فكرة عن هذا الشيء؛ في هذه المدينة تفوح رائحة الطعام الصيني قريباً من سندويشات ماكدونالد، بجانبه مطعم فرنسيّ يمكنك أن تحتسيَ فيه نبيذاً فرنسيّاً فاخراً. يمكنك أن تلبس الجينز أو أي قطع من الثياب هندسها أحد ألمع المصمّمين.

بلغة أخرى، تستطيع أن تعيش وتلبس وتأكل على إيقاع تزامن ثقافيّ يجعله الإنتاج الكبير والاستهلاك الموسع الهائل الخيارات ممكنا. هي مفارقات في شوارع المدن الكبرى. لهذا لم يعد تعريف الزمان والمكان كما كان عليه في السابق. فالتجاور وتزامن الأنماط والقيم والأمزجة والأشكال والمباني والمساحات والحضاريات تشكل «القرية العالمية».

(ينكر ما بعد الحداثيّ دور الطليعة التي حكمت الحداثيّين، وينظر إليها بسخرية).

تذكر الفنانة والباحثة مي غصوب في كتابها «ما بعد الحداثة..» (جان بودريار) الذي يرى ما بعد الحداثة بأنها انطلاق الصورة من الواقع ثم الانقطاع عنه، ويعطي مثلاً على ذلك حرب الخليج التي شاهدها في وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة ليقول بأنّ هذه الحرب لم تقع بل أنّ ما رأيناه هو صورة زائفة عنها ليس أكثر!

ad

أمّا في هندسة العمارة فتعطي غصوب أمثلة عن بيروت التي تمثل أزمنة ما بعد الحداثة بأبنيتها المنوّعة (القديمة والحديثة) ووجود النراجيل ذات الزينة الشرقيّة إلى جانب الأواني الأوروبّية. وتتطرق إلى هندسة المعماري (حسن فتحي) الذي أراد إنشاء «عمارة للفقراء» تكون تقليدية، غير مزيّنة، مادتها الطين الخالص.

انفصال الدال Le signifiant عن المدلول Le signifié

المعنى عند (دريدا) يأتي من خلال علاقة الدوال ببعضها، وليس من خلال علاقة الدال بالمدلول... ليصل إلى القول إن ما بعد الحداثة ليست معادية للمنظومات الدينيّة فحسب، وإنما هي معادية للمنظومات الإنسانية الإلحاديّة أيضاً. هناك معانٍ بعدد القراء، فهي مجرد مجال عشوائيّ للعب الدول ورقصها... فتتعدّد المعاني... قال دريدا إنّ استراتيجيّة دون غاية، وتفكيره لا هدف له... ثم أضاف قائلاً إنّه يرضى بالجنون كعنوان لما بعد الحداثة.

علم آخر من أعلام ما بعد الحداثة والتفكيكية هو (ميشال فوكو 1936 - 1984)، مفكر فرنسي، يعتبر من آباء المدرسة التفكيكية. كتاباته ساخرة ومتشككة وعنيفة في راديكاليتها، وهي أيضاً، مضحكة ولا أخلاقيّة في إطاحتها بكل تقليدي ملتزم. كتاباته تعكس فكر ما بعد ماركسية. كتب في الجنون وتاريخه، وفي الحمقى... يتوقف طويلاً أمام جنون الفلاسفة والشعراء والأدباء والفنانين، أمثال نيتشه، ولدراين، آرتو، جيرار دورنيفال، غويا، فان غوغ، ساد... الخ. لكنه يقول إنّ هؤلاء المجانين الكبار قدموا روائع خالدة للثقافة وللإنسانيّة. أمّا قضية نهاية التاريخ فيرى هيغل أنّ التاريخ مقدس وله غاية محددة، وأنه سيصل إلى نهايته حينما تتحقق هذه النهاية. أمّا فلسفة ما بعد الحداثة فتعتبر قمة الثورة ضد الهيغيليّة. التاريخ يصل إلى نهايته (فوكوياما) و(هنتنجتون): إنّ ما بعد الحداثة إعلان لنهاية التاريخ ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الحر، ليحلّ محله إنسان ذو بعد واحد لا عمق له ولا ذاكرة ولا قيمة.

مهما يكن من أمر التعريفات والآراء فإنّ ما بعد الحداثة، برأينا، هي ما بعد إنسانيّة، هي اتجاه فكريّ طبيعيّ لمسار منهجيّ (إنسانيّ) سائر نحو هلاك حتميّ لهذا الكائن العبثيّ الذي حمل شعار ما بعد الحداثة «الجنون» عنواناً له، ونحن الآن نعيش مرحلة ما بعد بعد الحداثة. فكيف سيكون عليه الأمر بعد الما بعد؟

* د. يوسف غزاوي (أستاذ جامعيّ، فنان تشكيليّ وباحث)

تعليقات: