باسل عبدالله: إلى روح والدي محمد خليل عبدالله في الذكرى السنوية الأولى لرحيله


كان محمد خليل مُتفوِّقاً في صفه على باقي أترابه في مدرسة الخيام الرسمية، ما دفع بمدير المدرسة وبأساتذته إلى ترفيعه صفاً إضافياً من صفوف المرحلة الابتدائية. وحَظِي يومها بين رفاقه بلقب "الأستاذ"، اللقب الذي لم يفارقه حتى آخر أيام حياته.

نال "الأستاذ" شهادة السرتيفيكا بتفوُّق؛ ونحن نتكلم عن زمن أربعينيات القرن الماضي حيث كان صدى نيل هذه الشهادة أهم من صدى نيل شهادة الدكتوراه في أيامنا هذه، وتحديداً بالنسبة لفتًى من عائلة غير ميسورة أو فقيرة نشأ في بلدة واقعة على أطراف البلاد، وفي منطقة مُهَمَّشة لم تبلغها عطايا الدولة آنذاك.

سعى طالبنا الطموح إلى متابعة دراسته، ما اضطره إلى الانتقال إلى مدينة النبطية والالتحاق بإحدى المدارس القليلة التي تستقبل طلاب المرحلة المتوسطة. وبسبب بُعد المسافة بين الخيام والنبطية اضطُر والدي الحبيب إلى استئجار مسكن صغير هناك مع طلاب آخرين؛ كان كلما مررنا بقربه في طريقنا إلى الخيام، يُشير بإصابعه إلى موقعه، ويُكرر لنا: "هَون أخدت الغرفة مع شبّين". ثم يضع كفّه بحسرة على جبينه، في محاولةٍ منه لتحليل معطيات ما حصل معه يومها وتقييمها، ويُردف قائلاً: "بس شو هالحكي! ما كان عاد فيي كمِّل دفع أجرتها، ... بالآخر اضطريت إترك المدرسة وإرجع عالخيام اشتغل بالأرض تا طلِّع شوية مصاري، ...هيدا كله قبل ما إنزل عا بيروت!".

لا شيء يبقى لنا من أحبّائنا الذين رحلوا عنّا، بعدما يرحلون، سوى بعض تلك الذكريات الحميمة معهم، وبعض تلك القصص التي باحوا "لنا تحديداً" بها بفرحٍ أو بحزنٍ أو بحسرة، وكرَّرُوها مِراراً على مسامعنا قصداً، لكوننا كنّا الأغلى والأقرب إلى قلوبهم... والتي، للأسف لم نكن نجيد التفاعل معها آنذاك!

اليوم،

وبشكل ما،

وبعدما غادرونا،

تعود إلينا،

وبقوة،

تفاصيل تلك القصص التي رَوَوها لنا،

وتلك الذكريات الحميمة التي جمعتنا بهم،

فتختلج في قلوبنا، وتكشف لنا ولو متأخرة،

حسرتنا

مِن فكرة أنه فاتنا أن نخبرهم

بأننا، رغم عدم تفاعلنا مع قصصهم حينها، أو عدم تعبيرنا لهم عن فرحنا بها، إلا أنّ هذه القصص كانت فعلياً تُسعد قلوبنا وتملؤُها بالغبطة وبالسرور... كما كانت تُشعِرنا بالفخر لوجودهم في حياتنا!

لو عاد بي الزمن إلى الوراء، وسمعت إحدى تلك القصص منك يا أبي، لما كنت كتمت فرحي بها مثلما فعلت حينها، بل لكنت ابتسمت ابتسامة عريضة، ونظرت في عينيك لأقول لك: "الرائع محمد عبدالله!".

* باسل عبدالله

تعليقات: