علي نعيم عبدالله في ذكراه الأربعين

المرحوم علي نعيم عبدالله
المرحوم علي نعيم عبدالله


تأنيت كثيرا بالكتابة، ولكن قلمي انسل بين يدي قبل أن تبلغ ذكرى الأربعين موعدها (6 تموز 2008)، فقد يأخذ المرء قلمه ويكتب نعي صديق أو رفيق درب، وقد ينساق القلم لسرد موجز حياة أحد من الأعلام الذي يسلمون الراية كل يوم هنا وهناك، ولكن أن تكتب عن شخص لم يكن قريب نسب فقط، بل كان يعكس مرآة الناقد الذاتي لمختلف أوجه الحياة التي تواجه الفرد بين طواحين هذه الدنيا بدء بالجيد منها وأن كان السيئ أكثر. هذا الشخص لم يكن أيضا خالي وما يمثله الخال من درجة القرابة من ابن أخته وحنّوه على شقيقته، بل مثّل الضمير الواقف أمام المرء ليوجه خطاه إلى جادة ما هو حق وصواب. كما كان ذلك الشخص الذي يشد على المعصمين ويتآزر عند فاصل كل نجاح مُحرز أو انجاز مكتسب.

ولد المرحوم الخال علي نعيم عبدالله في مطلع عام 1947 في بلدته الخيام" تلك القرية الجنوبية الصامدة في حضن جبل الشيخ الأشم والمستلقية على الحدود الدولية لفلسطين المغتصبة. وكأن ولادته كانت موقوتة قبيل فاجعة اغتصاب فلسطين، لتظل نكبتها ماثلة أمام ناظريه أنى ارتحل، متعلقا منذ صغره بأهداب اليسار منسلخا من انتمائه العشائري التقليدي، ومع أول وعيه خارج محيطه العائلي، تفتحت عينيه على منظر السلاح بين يدي الثوار أثناء تفاقم أحداث عام 1957 وما برح أسم الرئيس عبد الناصر يرن في أذنيه مقرونا بحركته القومية العربية الشاملة، وأدرك معاناة بلدته الخيام من تبعات تلك الأحداث الدامية من قصف مدفعي موتور من قبل قوى الموالاة، إلى الانقطاع المتعمد لمياه الشفة عن البلدة وعودة الصبايا لملأ جرارهن من عين البلدة القديمة.

مثل أبو نعيم أمثولة الفتى الجنوبي الصرف، فتزود بقسط تعليمه اليسير من مدرسة القرية الابتدائية وصرامة الأستاذ علي (مدّ الله بعمره) مرورا بثانوية مركز القضاء وتأديب أبونا الخوري، وانتهاءً بامتحانات شهادة الثانوية في دمشق الشام (كانت تسمى حينئذ شهادة "الموحّـدة")، فكافح في مجاهل الحياة بدء من سهول ومروج قريته الخيام، وكأي شاب عاملي يمم وجهه شطر عاصمة بلده، ليعمل في أول وظيفة مسائية متواضعة وجدها أمامه، وان كان يستبقي فصل الصيف دوما للعودة لمرج الخيام ليجبل ترابه بعرقه مساعدا أهل بيته عند قطف المواسم وحصد الغلال.

وأن كانت فترة الستينات من القرن العشرين مثلت زمن مراهقة الفتى علي عبدالله، إلا أنها كانت بداية مشواره مع نهم القراءة وحبه الأخّاذ للمطالعة، واستساغته للشعر بالأخص الغزلي منه وبالطليعة دواوين شعر نزار قباني حيث كان للمرأة جانب وافر من شخصيته، دون أن نغفل تعلقه بالصيد في موسم طيور الفرّي والسمان، وممارسة رياضة الغطس بالصيف في مياه نبع الدردارة الباردة واستظلاله بشجرة "ألكينا" العتيقة عند خاله الحاج "أبو علي نعيم"، فحبه للقراءة تلك، جعلته يكوّن مكتبته الخاصة في بيته الجنوبي، التي لاحقا تم استعارة كتبها مؤقتا عند تأسيس المكتبة العامة في بلدة الخيام (أحرقت مكتبته الخاصة مع بيت العائلة خلال المأساة التي تعرضت لها بلدة الخيام في نيسان 1977)، وحيث أن أغلب الكتب المتوفرة ترنو دوما نحو الثقافة اليسارية من قومية عربية أو شمولية عالمية، لذا كرّست هذه المفاهيم المستحدثة في نفسه بذرة التمرد على الحاضر والرفض للواقع المعاش بين الثالوث الغاشم الفقر والجهل والمرض.

فكان في طليعة شباب الخيام الذي هب للتدريب على أيدي رجال المقاومة الفلسطينية عندما افتتحوا أول مركز لهم في بلدة الخيام، صاقلا تجربته النضالية بمجالات عدة منها المشاركة بفعالية وحماس في الماكينات الانتخابي لمرشحي قوى اليسار باذلا أقصى ما باستطاعته في سبيل تحقيق إنجاز يستحق الذكر (مع ملاحظة أن أي من هؤلاء المرشحين لم يكلفوا خاطرهم ويقوموا بواجب العزاء عند وفاته) كما نجده مندفعا بقوة في تنظيم الإضرابات وقيادة التظاهرات في بلدته "الخيام" دفاعا عن القضية الفلسطينية ورجالها أو ضد تقاعس الدولة اللبنانية في حماية الأهالي من القصف الصهيوني الهمجي الذي كانت تتعرض له بلدة الخيام والقرى الحدودية المجاورة، وكم من مرة نجده يأخذ المبادرة ويتحمل مسئولية تهريب المنشورات والمطبوعات من بيروت إلى بلدته الخيام والتي ستوزع في تلك التظاهرات والإضرابات (وصلت به الجرأة في إحدى المرات إلى تسخير سيارة أحد مخبري شعبة الاستخبارات غفلة لتوصيل تلك المناشير للبلدة)، هذا بالإضافة إلى مشاركته بشجاعة في مختلف التظاهرات النضالية التي عمت لبنان في تلك الفترة بسبب اشتعال المد الثوري العارم في مختلف أصقاع الوطن العربي، بدء من مدينة بيروت، قلب العروبة النابض آنذاك ضد المخططات الاستعمارية الخبيثة أو تأييدا لمطالب الحركة الطلابية الناشئة، مرورا بتظاهرات صيدا عاصمة الجنوب كصدى للأزمات المعيشية المتفاقمة وانتهاءً بتظاهرات واعتصامات النبطية حاضرة جبل عامل مناصرة لمطالب العمال المقهورين وبالأخص أزمة الريجي. كما ونجد أيضا منظرا أخر من مظاهر تجربته النضالية بالتطوع في فعاليات "الحركة الاجتماعية" التي أسسها المطران غريغوار حداد والتي انبثق عنها لاحقا "تيار المجتمع المدني" حيث قام بالتجوال في مختلف قرى الجنوب اللبناني موزعا المساعدات والإعانات البسيطة التي كانت ترد للحركة، ومشتركا في المشروع الذي تعاقدت الحركة به مع مصلحة الإنعاش الاجتماعي، لإجراء مسح ميداني شامل للعائلات المحتاجة والفقيرة في مختلف القرى اللبنانية.

مع مطلع عام 1971، فجعت عائلته بوفاة معيلها ذلك المجاهد الجبار في محراثه، والذي كان يحمل في ملامحه بصمات الرجل العاملي الأصيل المتشبث بأرضه ومعوله إلى أخر يوما بحياته، وكانت وفاة الوالد العزيز بالمرض الخبيث، والذي سيعود نفس المرض بعد 37 سنة لينقض عليه، فقد ألقيت مسئولية العائلة على عاتق الفتى الناشئ، حيث كان أخويه الأكبرين مهاجرين في الخليج، فتحمل مسئولية الأسرة وما تعنيه تلك المسئولية اتجاه ما تبقى من الأخوة والأخوات ، فقام بواجبه خير قيام إلى أن أتجه شطر الخليج ملتحقا بأخوته الكبار. فوصل أبوظبي في خريف عام 1972، وكانت حينئذ تخطو الإمارة أول خطواتها نحو المدنية والحضارة ، وبمساعدة من ابن خاله السفير اللبناني آنذاك المرحوم/ حسيب خنجر العبدالله ، التحق بوظيفة محاسب في الديوان الأميري، وتدرج في الوظائف الحكومية في الأمانة العامة للمجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي إلى أن أصبح رئيس تحرير الجريدة الرسمية في الإمارة. وفي عام 1990، استقال من الوظيفة الحكومية متفرغا لعمله في القطاع الخاص حيث كان قد أسس شركة تتعاط في التجارة وتمثيل الشركات الأجنبية.

عرف عنه بين أوساط الجالية اللبنانية في الإمارات حبه الجم لمساعدة أفراد الجالية سواء أبناء بلدته الخيام أو غيرهم، وخاصة أثناء حرب السنتين (1975 - 1976)، حيث كان بيته النزل الأول الذي استقبل العديد من الأهل والأقارب الهاربين من لهيب تلك الحرب المشئومة، وتكررت القصة أثناء عدوان 1982 على الجنوب اللبناني وما تبعه أيضا من هجرة نحو دول الخليج العربي، فلم يقصر أبدا اتجاه القادمين الجدد إلى عالم الاغتراب والهجرة (بعضهم قابل معروفه وإحسانه بالجحود والنكران سواء في حياته أو بعد مماته). كما وسخر جميع إمكانياته المتعددة وصداقاته المتنوعة حيث كان مكتبه في أبوظبي مقصد طالبي الخدمة سواء من أجل إيجاد وظيفة ما أو إنجاز معاملة حكومية متعثرة، أو كفالة معسرا في قضية مالية، أو إرسال مساعدة إلى من يحتاجها في لبنان والذين ضاقت بهم السبل وبالأخص اليتامى والأرامل وطلاب العلم.

حمل المرحوم علي عبدالله معاناته مع مرضه ورحل باكر في يوم 27/5/2008، وإن كانت قصته مع المرض طويلة على مدى عمره الزمني الذي انقضى في غفلة من الدهر، فعانى وهو لم يبلغ العشرين من الآلام المبرحة للأسنان، التي لازمته لأعوام عديدة، وفي ثلاثيناته تحمل بكبرياء شديد آلام المعدة وتقرحاتها، أم في أربعينياته فقد وثب إليه مرض الديسك في عاموده الفقري ولم يبرح منه إلا بعد إجراء أول عملية جراحية له، أما في نهاية عقده الخامس، ففاجأه مرض تضخم الغدة الدرقية مما أضطره لإزالتها في عام 1996، وكانت أخر معاركه مع المرض الخبيث غداة انقضاء عقده السادس.

إعداد الحاج/ أحمد مالك عبدالله

هاتف: 6222270 – 97150

العنوان الالكتروني:ahmad60@eim.ae

ص. ب. 3346

أبوظبي – الإمارات العربية المتحدة

تعليقات: