«الحرس الشعبي» حمى القرى وبنى الملاجئ: حكايات «الخضرة» وهمدان .. والطلقات الثلاثين الفارغة

يا حبايبنا فين وحشتونا

لسّه فاكرينا ولاّ نسيتونا

دحنا في الغربة

من الهوا دبنا

وانتو في الغربة جوّا في قلوبنا

أوعوا تفتكروا إننا تبنا

مهما فرقونا ولاّ بعدونا

يا حبايبنا...

أغنية لمولانا الشيخ إمام.

وقفت نجمة سعد تنتظر. بعد قليل أتى، بقامته النحيلة المتحمسة، ولحيته غير المشذبة. أخيراً رأيتكِ بالبدلة العسكرية؟ سألها بحبور من تحقق حلمه. ابتسمت لشقيقها. هما يقفان في مكان ما من شبعا، ليل الثاني من كانون الأول .1969 هي محاطة بالصبايا العسكريات مثلها. أنهين لتوهن دورة تدريب عسكرية في سوريا والتحقن بالجبهة مع قوات «الصاعقة». أمين سعد، «الأخضر العربي»، كان حين يجلس معها في بيت العائلة في برج حمود يخبرها عن جميلة بو حيرد. وكان يسألها: «هل أراك يوما بالبدلة؟»، وتجيبه: «وحياة عيونك رح إلبسها». في هذا الليل تحقق نجمة حلم شقيقها. تنضم الى «المقاومة» بعد دورة للنسوة سعت بنفسها لجلب الصبايا اليها. 21 صبية تدربن على السلاح ثم على التمريض. 15 منهن صعدن الى العرقوب. الصاعقة، طلائع جيش حرب التحرير، كانت فصيلاً فلسطينياً موالياً لحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا.

الأخضر العربي كان بعثياً حتى العظم. بعثي مؤمن بالوحدة العربية الى درجة دفعته الى الذهاب سراً سنة 1962 الى سوريا لتوزيع مناشير تعترض على فك الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. ألقي القبض عليه ورمي في سجن المزة ثلاثة وثلاثين يوماً. في دفتر يومياته في السجن، ميّز أمين سعد، المدرّس الابتدائي، يوم 22 شباط عن باقي الأيام. رسم الرقم بخط كبير وكتب: «هذا اليوم الخالد الذي كان يمرّ في الاعوام الثلاثة الماضية، وهو مزين بأحلى مظاهر الزينة والأفراح... هذا اليوم التاريخي، الذي اجمع فيه الشعب العربي في مصر وسوريا على قيام وحدة مقدسة بين الإقليمين وخلق جمهورية عربية متحدة لتكون نواة لوحدة عربية شاملة... تلتقي فيها الآمال العربية في حياة حرة كريمة. يمر هذا اليوم الآن، يرتدي ثوب الحزن الغريب، ويبعث الأسى العميق في أرجاء الوطن العربي... بعدما تحولت الوحدة المقدسة الى نكسة مؤلمة للعروبة»... «صحيح لقد كانت هذه النكسة ضربة عنيفة للعروبة... لكنها ستكون في نفس الوقت دافعاً ثورياً متيناً لخلق الوحدة المنشودة».

في هذه الصفحة من المذكرات، يعود أمين الى مصطلح «النكسة» مراراً. هذا اللبناني النازح وشقيقاته الأربع ووالده من بنت جبيل الى برج حمود، استخدم المصطلح الكئيب قبل خمس سنوات من شيوعه على كل لسان عربي. نكسة 1967 ستنسيه نكسة الانفصال. وكما كل الحالمين حينها، رأى في المقاومة الأمل الوحيد للخروج من تلك الهزيمة المدويّة.

تحمس اللبنانيون بحسب انتماءاتهم، للثورة الفلسطينية. في بنت جبيل حملوا على الاكتاف وحتى الفجر اول الشبان الفدائيين الداخلين الى البلدة في عرس مشهود. كانت السلطة اللبنانية خصماً سياسياً عنيداً للمقاومة الفلسطينية. واندلعت اشتباكات متفرقة بين الجيش اللبناني والفلسطينيين مراراً قبل أن تنفجر هذه الاشتباكات عنيفة بينهما في خريف .1969 انتهت بالذهاب الى مصر جمال عبد الناصر والتوصل الى اتفاق القاهرة. اعترف لبنان للفلسطينيين بحق التسلح وإدارة شؤون المخيمات والانطلاق من أرضه الى الأرض المحتلة. وتعهد الفلسطينيون باحترام سيادة لبنان!

نقاش ذاك الزمن في السياسة حديث لن ينتهي. ما نحكيه هنا هو ما كان يجري على الأرض. وعلى الأرض، كان ممنوعاً على غير الفلسطينيين حمل السلاح. الجيش اللبناني يقيم الحواجز ليمنع اللبنانيين من غير ابناء المنطقة الحدودية من الدخول اليها. غير أن من أراد الالتحاق بالمقاومة كان يأخذ أمر تسهيل المرور من القوى الفلسطينية. هكذا ذهب اللبنانيون مع الفلسطينيين الى الحدود. الأخضر العربي كان حين وصلت شقيقته اليه نائب رئيس منظمة «الصاعقة» في منطقة العرقوب. فرح بها وقال لها إنه سيعود عند التاسعة من صباح غد ليوزعها ورفيقاتها على النقاط الأمامية. أتى الغد، الثالث من كانون الأول، وهي مستيقظة تحلم بأنها اليوم ستصير مقاتلة. عند الخامسة صباحاً دوّى صوت الرصاص والقنابل ومعه صوت أجراس الإنذار. ارتدت بزتها العسكرية وجعبتها وحملت بندقيتها وخرجت من الخيمة تسأل عن الأخضر العربي. «صار في المعركة»... قالوا لها.

كانت قوة إسرائيليــة تتقدم في بيادر شبعا. نزل امين ومعه عــناصـــر. وقــع الاشــتباك بين الاســرائيليين والمــقاومــة. استمر لست ساعات طويلة استخدم فيها الاسرائيليون الطوافات. اشتعلت الجبهة وكانت نجمة في الخطوط الخلفية تسعف المصابين حين وصل مقاتل جريح يحمل بندقيتين. اقتربت لتساعده فقال «اتركيني موت... الاخضر العربي استشهد». ارتجفت ولم تصدق. قال «هذه بندقيته». بقيت نجمة على تماسكها تقوم بعملها. عند التاسعة، وكما وعدها قبل يوم، جاء الأخضر العربي جالساً على ظهر بغل، يسنده رفيقه الجالس خلفه. قالت لرفيقتها بدرية: على الموعد. لا يتأخر امين عن مواعيده. تقول نجمة إن الاخضر كان مبتسماً وهو آتٍ من المعركة شهيداً. مزقت الشظية رئته. أكمل الشهيد طريقه لنقطة آمنة وتابعت عملها في إسعاف المصابين. عند الحادية عشرة انتهت المعركة. صعدت الى حيث شقيقها ممدد. «بكير»، قالت له وهي تضمه الى صدرها. كان عمره حينها 32 سنة. ولد في حيفا. هي، وبعد استشهاده، صار اسمها «الخضرة».

[[[

في أول عام 1969 قال همدان مهدي لوالدته إنه مسافر. غادر برج حمود الى الاردن. اختاره الحزب الشيوعي اللبناني مع 43 آخرين لإجراء دورة التدريب الأول تحت إمرة «جيش التحرير الفلسطيني». كان الحزب المحظور قد قرر حينها إنشاء «الحرس الشعبي» لحماية القرى الحدودية (في الجنوب) من الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة. بعد أكثر من سنة على التدريبات وإنشاء الحرس، اعلنت منظمة الحزب عنه رسمياً.

رأى همدان، عند وصوله ورفاقه، بعض المدربين الفلسطينيين والأردنيين يؤدون صلاة الظهر، فقرر الشاب الشيوعي تلاوة القرآن في الافتتاح الذي سيحضره ابو عمّار شخصياً. بعد الافتتاح بدأت الدورة واستمرت ثلاثة اشهر في الصحراء. وهؤلاء يتدربون على السيمينوف والتشيكية. همدان تدرب على رمي الـ«بي سفن». في اختتام الدورة عاد ابو عمّار. وفي استعراض رمى همدان على هدف وأصابه. قال لأبو عمار «أنا قارئ القرآن في بداية الدورة والرامي الآن». ربت ياسر عرفات على كتفه. بعدها قام رفيق همدان وألقى خطاباً رناناً فعلم أبو عمار ان الرفاق شيوعيون. كان من المفترض ان يتناول ياسر عرفات غداءه معهم لكن «الخبر الأحمر» سدّ نفسه فغادر من دون أن يأكل. وُضِع الرجال في شاحنات قذرة سارت بهم الى منطقة العرقوب. هناك صاروا في مخيم تحت إمرة جيش التحرير...

لم يطل الأمر. قررت قيادة الحزب الشيوعي سحب عناصرها بعدما نالت مرادها، أي إعداد كوادر لنشر الحرس الشعبي في القرى. لم يقبل همدان أن يعمل في بلدته بنت جبيل، فأرسله الحزب الى القرية المجاورة لها، عيناثا. قيل له إن رفيقاً اسمه ابو حسن ايوب سيساعده في ترتيب اوضاعه في القرية. ذهب إليه. همدان تذكر علي أيوب لحظة لقائه به. الأخير كان في الخمسينيات صاحب مطعم في برج حمود، يذهب همدان اليه ليأخذ من عنده المنشورات الحزبية. في تلك الأيام، كان مثل هؤلاء الناس لا يتبادلون الا «كلمة السر» بينما يحلمون بإقامة دولة العدالة. وحتى التقى همدان بأبي حسن في عيناثا لم يكن يعرف أنهما من بلدتين تلتصقان بعضهما ببعض في كل تفصيل.

في عيناثا عمل همدان كأي شيوعي. من دون راتب كان يعيش على ما يرسل الحزب من طعام. وحين اصيب بالنحول صدر قرار حزبي خصص الرفيق همدان بنصف اوقية من «السودة» أسبوعياً. وصار يدخن التبغ الذي يقدمه اليه المزارعون بدلاً من المارلبورو التي لا يملك ثمنها. الخمسون ليرة، راتبه الشهري، راح يصل بانتظام الى أمه من «المسافر» في بلاد الله. وهو، ورفاقه، كانوا يستقبلون الشيوعيين الآتين من مختلف مناطق لبنان، عمالاً وفلاحين وطلاباً ومهندسين وأطباء. يحفرون بالمعاول ويقيمون الملاجئ، ويجوب الأطباء منهم الشوارع يحملون الحقائب في مستوصفات نقالة لتطبيب الناس. ويقيمون الحلقات التثقيفية ويساعدون أهل الأرض في الزراعة والحصاد. مشهد شيوعي كثيف الاحمرار برومانسيته. الحزب قرر أن يخضع الشيوعيين كلهم الى دورات تدريب عسكرية. صاروا يتوافدون كل 15 يوماً الى وادي الحجير. هناك قام المعسكر، يلتحق فيه كل اسبوعين خمسون الى مئة شيوعي. «جمال هادي» اسم طُلب من شيوعي عمره 19 سنة أن يحفظه في نهار مغادرته الى الدورة هو وأربعة آخرون. كانت الأسماء الخمسة الحركية مكتوبة على ورقة تسهيل مهمة صادرة عن الصاعقة. مر هؤلاء بالورقة عن حاجز الجيش والتحقوا بمعسكر وادي الحجير. خلال تلك الدورة تعرض المعسكر لقصف مدفعي اسرائيلي شديد. امطرت قذائف ولم يُجرح رجل. المخيم محمي بالتضاريس الصعبة للوادي.

خلال الدورة طلب جمال من قائد المعسكر السماح له بالذهاب الى سوريا ليخضع للامتحان الرسمي فيها ويوزاي البكالوريا في لبنان. رفض القائد. إما الدورة وإما امتحانك. فضلّ الشاب الدورة على مستقبله العلمي. لا مزاح مع حزب الجماهير الطامح الى تغيير كل شيء. «كان الواحد يفضل الانتحار على أن يفصل من الحزب».

أنهى جمال دورته والتحق بالحرس الشعبي في احدى القرى. يجول نهاراً في ثياب مدنية، في مهمات استطلاع. ليلاً يرتدي ورفاقه بزات عسكرية فيتنامية سميكة ويتسلل الى الاراضي المحتلة. يقترب من مسكاف عام. المهمة استطلاعية، لكن التوجس الشديد كان من الأضواء الكاشفة التي تدور حول المستوطنة. كانوا يظنون أن الضوء موصول برشاش اوتوماتيكي. ما أن يقع الضوء على المقاتل حتى يطلق الرشاش عياراته... كذبة مثل هذه كان لها دوماً مفعول السحر على المستطلعين، تجعلهم أشد حرصاً بما لا يقاس. الحزب سيعلن عن قوات الأنصار، وعناصرها تنتمي الى احزاب شيوعية عربية أخرى اردنية وعراقية وسورية وغيرها. وصار الشيوعيون اللبنانيون يدربون عناصر هذه الأحزاب على السلاح ويشركونهم في العمل التطوعي في القرى. قوات الانصار تجربة لم يكتب لها الاستمرار وسمير العجلوني، الذي سقط شهيداً في ايلول ,1972 كان شيوعياً أردنياً.

الرفيق همدان لم يكن جديداً على حزبه. سنة 1958 «تكتك» ورفاقه على «المارينز» الذين نزلوا على شواطئ بيروت واستقروا عند مستديرة الطيونة. كانوا يطلقون النار على العسكر الاميركي ويهربون. وفي مرة حفروا خندقاً قبالة سينما سلوى وحين مر الجيب الأميركي فتحوا عليه النار. بعد 11 سنة سيكمن الرفيق وآخرون لدورية اسرائيلية راجلة في منطقة «الكيلو تسعة» (الحدود). اطلقوا النار عليها وهربوا. طاردهم الجنود الاسرائيليون، ومن خلف هؤلاء أطل عناصر كمين شيوعي آخر. توفق الحراس الشعبيون بـ11 جندياً، لكنهم لم يعرفوا حصيلة العدو من قتلى وجرحى.

في 6 كانون الثاني 1970 دعت منظمة الحزب الشيوعي في الجنوب الى إنشاء الحرس الشعبي في نداء صدر إثر اعتداء على قرية كفركلا واختطاف عدد من مواطنيها. النداء جاء مسبوكاً باللغة الشيوعية الرائجة حينها. شن هجوماً على «الرجعية اللبنانية» التي تحاول عرقلة اتفاق القاهرة وضرب العمل الفدائي، ثم: «رأت المنظمة من واجبها أن تدعو الشيوعيين في القرى الأمامية وفي كل منطقة الجنوب للمشاركة في حراسة قراهم بالسلاح وفي تنظيم لجان الحرس الشعبي دفاعاً عن القرى والأراضي والمواطنين، الذين هم جميعاً هدف الاعتداءات الاسرائيلية المستمرة. وإذا كانت منظمتنا قد قدمت في الاسابيع الماضية شهيدين من مناضليها الشيوعيين، أحدهما ابراهيم جابر وهو يقوم بواجب الكفاح في الاراضي المحتلة، والثاني علي سويد وهو يقوم بواجبه خلال العدوان الاسرائيلي الغاشم الذي تعرضت له بلدة الخيام، فهي ترى أن هذا هو شرف تعتز به. ومناضلوها الذين يستوحون في كفاحهم مبادئ حزبهم الشيوعي، سيسترخصون الحياة في هذه المهمة الوطنية الكبيرة المقدسة»...

[[[

حُمل الشهيد، الأخضر العربي، الى سوريا. اقيم عرس له فيها. ومن

هناك عادت جنازته الى برج حمود. أوقف في ضهر البيدر ونثرت الورود والأرز عليه. بات ليلته في برج حمود. ومنها خرج الى بنت جبيل بعدما أتى وزير الداخلية كمال جنبلاط وقال لنجمة: «الأخضر خيّنا كلنا».

وفي تظاهرة كبيرة خرج الناس من بيروت يشيعون الأخضر العربي. اصدر جنبلاط امراً بعدم التعرض للذاهبين الى الجنوب لمدة اسبوع. خلف نعش الشهيد دخل السلاح والرجال بكميات كبيرة الى المنطقة الحدودية. في الرحلة التي استمرت ثلاثة ايام من الجنوب وإليه، لوّحت للاخضر العربي آلاف الأكف. وعاد الى بنت جبيل حيث نام هناك. وعاد الى البلدة شقيقاته الأربعة ووالده. نجمة صارت مقاتلة. لكن رفاقها رفضوا ان تشاركهم «الخضرة» في العمليات. ومع ذلك، كانت شقيقة الشهيد تعمل ما استطاعت. تذهب في عملية استطلاع بحثاً عن ثلاثة فدائيين فقدوا قبل ثلاثة ايام. تطلب من الضابط في الجيش اللبناني أن يساعدها فيستغرب طلبها وهي بالبزة العسكرية. يطلب منها أن تعود في الغد بثيابها المدنية، ويهمس في أذنها: أكون قد ارسلت في إجازة الجنود الذين ليسوا معنا.

هكذا يفعل. وفي اليوم الثاني تعود اليه فيرسلها مع صبايا يذهبن الى الحقول للعمل. تعبر من اسفل الشريط الحدودي وتصل الى الأرض المحتلة لتبحث. لا تجد أثراً. كان الاسرائيليون ينشرون بقراً في مناطقهم. إذا ما سمعت البقرة صوتاً ما تقف على قوائمها. هكذا كانوا قد ألقوا القبض على الفدائيين. الخضرة علمت لاحقاً أن الثلاثة قتلوا.

في وقت كان السلاح كثيراً بين ايدي الجميع، كان همدان مهدي ورفاقه دائماً في نقص. يضطرون الى نشر القذائف الاسرائيلية غير المنفجرة، وإخراج مادة الـ«تي ان تي» منها، ثم تذويبها في تنكة توضع على الحطب المشتعل، ثم صب المادة الذائبة في قطع لتصير لاحقاً عبّوات. همدان، ومن أجل السلاح، اضطر أن يلجأ إلى ابنة خالته الخضرة. لم يجدها في المرة الأولى وقال لرفاقها «أبلغوها أن جبران ابن خالتها سأل عنها». في المرة الثانية لم يجدها ايضاً. «الرفيق المسؤول» عن نجمة سعد توجس من هذا الجبران الشيوعي. حين تقابلا في المرة الثالثة، عرفت ابن خالتها همدان. طلب منها سلاحاً ووافقت. راحت تمده بالسلاح وصار بعض رفاقها يكتبون التقارير فيها. المسؤول المتوجس ظل على توجسه: يا رفيقة. هؤلاء شيوعيون وبعيدون عنا... قال لها. ردّت عليه «يا رفيق، حين تأتي اسرئيل الينا لا تميز بين شيوعي وبعثي. تقتلنا معاً». شقيقة الشهيد لم تكن تنظر الى أسفل، حيث الخلافات السياسية. ساعدت همدان ورفاقه بما استطاعت. بعدها، غادر همدان الجنوب الى عمل آخر في بيروت بعد انقطاع عن المدينة دام ثلاث سنوات. عام 1972 ظنت أمه أنه عاد من السفر في بلاد الله. نجمة ظلت في بنت جبيل، ولم يعد هناك من رفيقات دفْعتِها أحد. كانت حينها المرأة الوحيدة المتفرغة في المقاومة.

[[[

لن نسأل السيدة الجالسة الآن بقرب زوجها عن عمرها. هذا تهذيب لا بد منه مع السيدة ذات الوجه المشرق تحت الحجاب الذي يكشف عن مقدمة الرأس. غير أنها مُربِكة لمن يجلس معها. تنساب لهجتها البنت جبيلية بهدوء. تحكي بأنغام الصوت نفسها التي تستخدمها امرأة ثانية في عمرها وهي تروي مثلاً كيف كانت تدق اللحم على البلاطة. لكن نجمة تحكي عن بنادق ونضال ومسدسات.

تروي لنا الخضرة تجربة اخرى، بخفر اللغة ذاته. تقول إنها استيقظت فجر يوم ما على ضجة. يقولون في الخارج إن الاسرائيليين هجموا على بنت جبيل وعيناثا. كان ذلك فجر الجمعة في 25 شباط .1972 شنوا هجوماً برياً وجوياً شمل مناطق لبنانية واسعة على الحدود وفي العمق، وتركز بشكل خاص على مناطق بنت جبيل والعرقوب وراشيا الوادي. وفي خبر صحيفة النداء الصادر في اليوم التالي نقرأ: «ان قوة اسرائيلية كبيرة محمولة بالآلات التي قدرت بنحو 62 دبابة اجتازت الحدود اللبنانية فجر امس من نقطة «الكيلو 9» واجتازت في طريقها بلدة عيثرون حيث نسفت منزلاً في مثلث بنت جبيل مارون الراس، كما اجتازت مدخل بنت جبيل (حي المسلخ) ومنه توجهت الى عيناثا حيث حاصر قسم منها البلدة وراح يقصفها بالمدافع بشكل عنيف، بينما دخل قسم آخر البلدة وراح ينسف المنازل».

أفاقت نجمة مذعورة. كانت تمد فراشها بالقرب من خزانة ثيابها. في الخزانة، وبين الثياب، كانت تضع القنابل. وإذا غدروني أفجر القنابل «فيّ وفيهم». «سحبتُ جعبتي وبارودتي وحطيتهم على الأرض». كانت تعمل بصمت لئلا يفيق والدها ويكشفها. بينما تحاول سحب مسدسها والقنابل باغتها صوت شقيقتها آتية وهي تصرخ بأعلى صوتها. رمت حطة ابيها على البندقية والجعبة وخرجت الى أختها. أمسكتها هذه وأخذتها معها كي لا تغادر الخضرة الى المعركة. دخل الإسرائيليون الى بنت جبيل ووصلوا الى بيتها يبحثون عنها. ادّعى الأب أنه لا يسمع جيداً وأن ابنته في بيروت، هي غير هذه المنشورة صورتها في الجريدة التي يحملها الاسرائيليون. أخرجوه وأطلقوا النار بين قدميه. ثم تركوا الرجل العجوز بعدما وضعوا حارساً على باب البيت. نجمة القلقة على ابيها إذا ما وجد الاسرائيليون السلاح، ارسلت اختها لتجلب القنابل من الخزانة. ذهبت هذه وحيّت الجندي الحارس على باب البيت وشرحت له انها آتية بالطعام لأبيها وستأخذ ثيابه لتغسلها. وضعت القنابل والمسدس في الثياب وخرجت. بعد ساعة أتت شقيقة ثانية «لتأخذ فراشاً» من البيت. كانت الجعبة والبندقية تحت الحطة. وضعتهما في الفراش وخرجت.

في هذا الوقت، مشت نجمة صوب عيناثا التي يتقدم نحوها الاسرائيليون. وقفت خارج مركز الصاعقة. مرّ بها علي ايوب فجراً واضعاً «التشيكية» على كتفه وكان يمشي على رأس إبهام قدمه اليمنى المصابة بحروق بالغة. في القدم نفسها كان يرتدي مشاية بلاستيكية وفي الثانية حذاءً عسكرياً. حيّته نجمة، فقال لها «ما رح يفوتوا إلا على جثثنا». غاب أبو حسن ساعات. ظهراً جاءت صبية تركض صارخة: «قتلوا علي أيوّب». ذهبت نجمة وآخرون الى حيث سقط ابو حسن شهيداً. سحبوه من أمام ركام البيت الترابي المهجور الذي تحصن فيه الشيوعي وأطلق ثلاثين طلقة من «التشيكية» على الدبابة الاسرائيلية التي نسفت البيت فوق رأسه. غادر الاسرائيليون عيناثا عند العاشرة والنصف صباحاً. أما الشيوعيون فظلوا لوقت طويل يحكون عن الرجل الذي لم يستشهد قبل إطلاق كل ما في جعبته وقلبه من رصاص... ولم يهرب.

حكوا عن الطلقات الثلاثين الفارغة بحب هائل. وفي اليوم التالي على استشهاده، نشرت «النداء» مقالاً لجورج حاوي جاء فيه «نحن الشيوعيين، واحد منا علي ايوب، ابو حسن. بندقيته التشيكية جمعنا ثمنها ليرة ليرة، وكذلك الرصاصات الثلاثون التي وجدت الى جانبه فارغة (...) واحد منا أبو حسن. من ابناء هذا الشعب الشجاع الطيب. قليل الكلام. بشوش الوجه. حسن السيرة. بسيط. متين الاعصاب. عنوان للصمود. للثقة بالنفس. إنسان. شيوعي».

بعد يومين رأت نجمة زوجة الشهيد تمشي ومعها طفلاها آتية الى حيث تجتمع النسوة في العزاء. مشت خلفها. رفعت صوتها الجميل الحزين بغناء العتابا التي ترثي الراحل. النسوة بكين، ونجمة المجروحة بكت وهي تتذكر الأخضر العربي.

زينب خنافر زوجة الشهيد ابو حسن، ستستشهد في حرب تموز 2006 في مجزرة في عيناثا. ولن يرفع الركام عنها وعن الشهداء السبعة عشر معها إلا في اليوم التالي لوقف إطلاق النار.

[[[

بعد العملية الاسرائيلية طلب والد نجمة منها أن تتوقف عن عملها العسكري رأفة به. وافقت وغادرت العائلة الى بيروت من جديد. هناك، سيصف الطبيب لأبنة خالتها شقيقة همدان، عشرين حقنة تؤخذ يومياً. ابنة الخالة ستطلب من نجمة الممرضة ان تعطيها الحقن. وفي كل يوم كانت المريضة تسأل نجمة: ما رايك بهمدان؟ كانت نجمة تقول: منيح، عَ سلامته همدان. مناضل».

حين ضاقت ابنة الخالة ذرعاً قالت لنجمة: بدنا نزوجه لهمدان.

أجابت نجمة: عال. الله يوفقه. وشو المطلوب مني؟

قالت ابنة الخالة: مطلوب منك انك إنت العروس...

تتابع نجمة حكايتها: «جمدت. قلت لبنت خالتي: مش عم فكر بهل شي. يعني أحترمه. بس يمكن له علاقة بحدا. وبعدين همدان اذا بدّو... لازم هوي يحكي».

تختم الخضرة حكايتها وهي تنظر مبتسمة في همدان مهدي الجالس بقربها الآن، بشعره الأبيض وعينيه الرقيقتين: «وبعدين صار يلفي همدان. معناتها إنو بدّو».

تعليقات: