سماح ادريس: الانسان القضية


سماح وأنا، كنا نتناقش كثيراً، ونختلف قليلاً. عرفته متأخّراً في العام ألفين، خلال وقفة احتجاجيّة، وسط بيروت، في ما أذكر دعماً لمطالب الأسرى المحرّرين من معتقلات الاحتلال. كنت عائداً لتوّي إلى بيروت بعد غياب 18 عاماً، وعليّ أن أعوّض أموراً كثيرة فاتتني، في مدينة تعيش أوهام الانبعاث واستعادة الروح. أخذني جوزف من كتفي صوب شاب طويل عابس، وقال لي: ألا تعرف سماح؟ سلّمت بحرارة، ومن تلك اللحظة صرنا أصدقاء، بعدما كنّا رفاقاً افتراضيين في المعركة الشاقة التي وهبها عمره. المعركة من أجل فلسطين. لطالما تساءلت عن سر عبوسه، فلا تنفرج أساريره إلا لحظة تثبيت إنجاز، أو إفحام مساجل. ثم صار عليّ أن أفك لغزاً آخر: ألا يتعب هذا الرجل من النضال؟ بعدها بسنوات عديدة (2017)، كنا جنباً إلى جنب فوق المنصّة مع المسرحي الراحل جلال خوري، في «مركز توفيق طبارة»، بدعوة من «ندوة العمل الوطني» لمناقشة آليات «تحصين الجمهور اللبناني ضد التطبيع مع العدو الإسرائيلي». يومها شرح لنا الفرق بين المناضل والناشط، بين المجتمع المدني الحقيقي، وموظفي المنظمات غير الحكومية... وأنا أراقبه فهمت هذا القاسم المشترك بين العمل الفكري وفن الإبحار خارج السرب، في كلتا الحالتين على المناضل أن يتعايش مع وحدته... أن يعرف كيف يكون وحيداً. رغم وجوده دائماً في الشارع، بين الناس، على الجبهات المدنية كافة، وفي قلب العمل الأدبي والثقافي، وسط رفاقه ورفيقاته في «حملة المقاطعة»، بت مقتنعاً الآن أن سماح كان وحيداً مع الهمّ العظيم الذي يسكنه. مسحة الحزن هذه، هي سرّه الأخير.

فلسطين لم تعد «على الموضة» في الوسط الثقافي الجديد؟ هل للمنظومة المؤنجزة، أو لـ «الربيع العربي» المسروق، دور في ذلك؟ في آخر إيميل شخصي منه في أيلول/ سبتمبر (لا أتحدث عن بيانات «حملة المقاطعة») دعاني (باسم «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل»» ومركز حقوق اللاجئين «عائدون») إلى الالتحاق بـ «الحلف ــ الحركة اللبنانية الفلسطينية» الذي كان سيطلق هذه الأيّام من نوفمبر الحالي، من خلال لقاء مفتوح يبحث في «تشكيل إطار فلسطينيّ ـــ لبنانيّ مشترك، ذي طابع ثقافيّ ــ سياسيّ، يرصد النزعاتِ العنصريّة المستشرية، ويدعم الفكرَ الوطنيّ اللبنانيّ العروبيّ التقدميّ، ويناضل من أجل إحقاق الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطينيّ في لبنان، وأهمُّها حقُّ التملّك والعمل...». فكرت آنذاك أن نوفمبر بعيد، ولدينا الوقت للتداول في الفكرة وتبادل الاقتراحات. شهران فقط، كانا يفصلان سماح عن معركة أخيرة، لم يكن يتوقّعها، لكنّه خاضها كعادته ببسالة الساموراي.

الآن أفكّر أن هذا الكاتب والباحث والناشر، ابن البيت الثقافي العريق، ابن «دار الآداب» ومجلّة «الآداب» العريقة التي أعاد إحياءها بنجاح وبشق الروح، مترجم نورمن فنكلستين (صناعة الهولوكوست)، وتلميذ إدوار سعيد، الذي يميل إلى «الجبهة الشعبية»، يشبه محارب ساموراي. في القواعد الصارمة التي يفرضها على نفسه وعلى الآخرين، في تصميمه وشجاعته و...عزلته أحياناً. أذكر جيّداً كيف واجه وحيداً المعارك القضائيّة الشرسة لتركيعه وإخضاعه، ومنعه من التصدي لكل محاولات التطبيع، عبر الفن والثقافة. لذا، حين اختلفنا على التكتيك، في بعض المعارك، لم يلن أو يعد النظر في أسلوبه الهجومي. فكرتي البسيطة كانت تفادي وضعيّة «المطاوعة» التي تنفّر سكان المناطق الرماديّة، والتي لا تشبه أصلاً ثقافتنا ووعينا، واستيعاب المزاج الشبابي الذي يتعرّض لمحاولات احتواء واختطاف فظيعة من قبل الديموقراطيات الاستعماريّة، ووضع سياسات تواصل مع الرأي العام خارج الدائرة المحدودة للمقتنعين والمعتنقين. أنا لا أستغيبك الآن، رفيق سماح، بل بالعكس! أظن أن النقاش سيستمر بيننا، وسأبقى أواجه بإعجاب عنادك وراديكاليّتك وإصرارك.

* بيار أبي صعب


مسيرة خصبة وغزيرة في الأدب والفكر والسياسة

محمد ناصر الدين

«إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسِنا» تلك كانت قناعته، ووصيّته الأخيرة قبل أن يغمض عينيه أول من أمس بعد معركة شجاعة وعنيدة مع المرض. المثقّف العضوي والمناضل والكاتب والمترجم، والعضو المؤسّس لـ «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان» (منذ عام 2002)... أدوار كثيرة لعبها الراحل، يبقى عنوانها الالتزام السياسي بمعناه العميق والوقوف بجانب القضايا العادلة والمحقّة والدفاع عن شعوبنا العربية التي تنوء تحت وطأة الاستعمار والاستبداد في آن. زاوية من أحلامنا وثقافتنا ونضالنا انطفأت، لعلّها كانت الأجمل!

«دخل الإسرائيليون بيروت في مثل هذه الأيام وصاروا تحت منزلنا. احتارت أمّي عايدة وأنا ما نفعل. فالرفوف مليئة بكتب عبد الناصر وغسان ورئيف وأبي نزار مروّة والجبهة ولينين وساطع و«مركز دراسات الوحدة العربية» و«الآداب». بدأتُ بجمع «الأخطر». بعد دقيقتين، اكتشفنا أنّ مكتبتنا هي نحن. أبي سهيل بقي مبتسماً كأنه يقول «هذه المكتبة لن تقدر عليها يا ابني، ولن يقدروا (الإسرائيليون) عليها». أعدنا كل شيء إلى الرفّ، ولم أُنزلْ صورةَ وديع حداد من فوق سريري».

منذ نعومة أظفاره، قبِل سماح إدريس (1961 ـــ 2021) التحدي، وإذ صدَقَت نبوءة الأب في انكسار الغزاة في قلب بيروت ورحيلهم عنها سريعاً، إلاّ أنّ الشاب الطموح الذي نال الدكتوراه من «جامعة كولومبيا» في نيويورك في دراسات الشرق الأوسط، والماجستير من «الجامعة الأميركية في بيروت» في الأدب العربي، والبكالوريوس من الجامعة نفسها في الاقتصاد أثبت أنّه «ابن أبيه» في رئاسة تحرير مجلة «الآداب» (منذ عام 1992) التي أسسها أبوه الأديب الراحل سهيل إدريس عام 1953، وفي الحفاظ على رؤيتها التحررية والملتزمة. إذ لم تغب فلسطين عن عدد واحد من «الآداب» تحت إشراف إدريس الابن، هي التي ــ منذ تأسيسها ــــ تبنّت على المستوى الأدبي خطاباً جمع مثقفي اليسار ومثقفي الاتجاهات العروبية، وهو خطاب النضال من خلال الكلمة أو الأدب الملتزم كما عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (الذي للمفارقة لم يلتزم بالقضية الفلسطينية). اتخذ هذا الالتزام العربي صورة دخول مباشر للأدب في ساحة السياسة والحرب والقضايا القومية المصيرية وفي طليعتها نكبة فلسطين التي كانت ركيزة القضايا الملتزمة. هكذا، صارت «الآداب» منبراً لتعبئة الشعور القومي عبر الأدب والكلمة الأمضى من الرصاصة. ظهر على صفحاتها روّاد حداثة بيروت ونهضتها في خمسينات القرن الماضي أهمهم: بدر شاكر السياب، نزار قباني، خليل حاوي، عبد الوهاب البياتي، سعدي يوسف، محمد الفيتوري، بلند الحيدري، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي، ليليهم جيل الستينيات من محمود درويش، وسميح القاسم، وحسب الشيخ جعفر، وعز الدين المناصرة، وممدوح عدوان، وأمل دنقل، ومحمد علي شمس الدين وغيرهم.

وعلى سماح إدريس صعوبة المهمة الموكلة إليه في «الآداب»، بخاصة بعد دخول بيروت عصر «الردّة» وملوك الطوائف، وخروجها من الحرب مثخنةً بالجراح، فسعى إلى إيجاد توازن بين المادة النقدية الأدبية والثقافية مقابل ترسانة من الأدب السياسي والإيديولوجي الفكري. منذ 2008، عكف فوق صفحات مجلة «الآداب» على إعداد ملف في عدة أجزاء اسمه «تقويم الإنتاج الثقافي العربي» انتقى في حينه مجموعة إنتاجات أدبية. وكلّفت المجلة نقّاداً أدبيين رفيعي المستوى لتناول هذه الأعمال نقداً وتشريحاً وتفكيكاً، فكان أن لخّص التجربة في إحدى مقابلاته: «لم أستطع أن أجد خمسة نقّاد يستطيعون أن يتناولوا النتاج الأدبي الثقافي العربي وأن يقدّموا نقداً حقيقياً. هناك ضعف في الإنتاج النقدي، وهذا لا ينطبق على النتاج الفكري والسياسي العربي. أعتقد أن الفكر والنقد السياسي متطوّر بمراحل عن النقد الأدبي العربي في المرحلة الحالية، ربما بسبب تراجع الجامعات العربية وعدم ترجمة النظريات الأدبية الحديثة وانتشار الثقافة السياسية عبر الإعلام. هناك وعي فكري وسياسي متطور عن الوعي النقدي الأدبي».

ولأنّ المجلة كانت منبراً لاكتشاف الشعراء الروّاد، فقد واجه رئيس تحرير «الآداب» أيضاً إشكالية تراجع المشهد الشعري العربي منذ بداية الحرب الأهلية، ثم سيطرة رأس المال والطائفية على الثقافة، فكان أن بادر إلى تخصيص محاور شعرية وتكليف شعراء ونقّادِ شعرٍ بالكتابة عن الشعر في المجلّة. كما برز الدور المؤثر لسماح إدريس في «دار الآداب» التي مثُلت الجناح المتمّم للمجلة منذ انشائها عام 1956، وقد عنت بإصدار أمهات الكتب التي تخصّ الأدب والمسرح والكتب المترجمة والدراسات الأدبية والنقدية، وقد أفرد سماح إدريس على صفحات «الأخبار» نقداً ثقافياً يكاد يكون الأول من نوعه لمؤسسة «عائلية» تعنى بإنتاج الثقافة والفكر (ملحق «كلمات» ـ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014): «أحد أسباب بقاء دارنا على قيْد الحياة أثناء الحرب أنّها لم تكن «مؤسّسة» بالدلالات العلمية المألوفة، وإنّما فرداً من أفراد هذه العائلة: تأكلُ ممّا يأكلون، وتشربُ ممّا يشربون، وتنامُ في أسرّتهم، وتتدحرج معهم إلى الملجأ، وتغادر البلدَ حين يغادرون. وكان سهيل وعايدة يستقبلان عمّالَ المطبعة والكتّاب بين عامي 1975 و1981 في بيتنا في منطقة «الطريق الجديدة»، بعدما تعذّر ذهابُهما إلى المطبعة أو المكتب الكائنيْن بين الخندق الغميق والعازاريّة»، وليكشف أسراراً تتعلق بالذائقة الأدبية وتغليب نوع على آخر سواء في المجلة أو الدار: «وسأقول إنّ هوى أفراد العائلة طغى أحياناً على حاجات الثقافة والنشر ورغبات القرّاء المتنوّعة. فقد غلب الهمُّ الفكري والسياسي على مجلة «الآداب» بسبب طغيانه على عقل رئيس تحريرها (أنا)، على حساب الأدب. وغلب الجنسُ الروائي على مجمل إصدارات الدار بسبب الهوى الروائي لدى مديرةِ الدار، على حساب الشعر والمسرح والقصّة القصيرة والسياسة والفكر وكتبِ الأطفال والناشئة، والأمران مؤسفان حقّاً: فالمجلة في عهد سهيل إدريس كانت رائدةً في نشر الشعر الحديث مثلاً. أمّا الدار، فكانت رائدة في نشر الكتب السياسية والفكرية (سارتر، دوبريه، دو بوفوار، اسحاق دويتشر، ماركوزه، رايش...) وواكبت الثورةَ الجزائرية والمدَّ القومي والمقاومة الفلسطينية. المجلة (بشخصي) برّرتْ سياستها بالقول إنّ ما «يصلُها» من الشعر قليلٌ وضعيفُ الجودة؛ لكنّ هذا المنطق يصطدم بمنطق «الاكتشاف»، إذ ينبغي للمنبر الثقافي ألّا يكتفي بنشرِ «ما يصلُه» بل أن يبادرَ إلى تخصيص محاور شعرية وإلى تكليف شعراء ونقّادِ شعرٍ بالكتابة عن الشعر (وهذا ما فعلتُه في سنوات عملي الأولى في المجلة ثم تراجعتُ عنه لهوسي بالهمّ الوطني والقومي)».

وعى صعوبة المهمة الموكلة إليه في «الآداب»، بخاصة بعد دخول بيروت زمن «الردّة» وملوك الطوائف، وخروجها من الحرب مثخنةً بالجراح

«المثقف المشتبك» خاض غمار النقد الأدبي في أكثر من كتاب مثل «رئيف خوري وتراث العرب»، و«المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصرية» والترجمة في كتابي نورمان فنكلستين «إسرائيل، فلسطين، لبنان: رحلة أميركي يهودي بحثاً عن الحقيقة والعدالة» (2008) و«صناعة الهولوكوست» (2001)، إضافة إلى «عن الإمبراطورية والمقاومة» لطارق علي (2006) و«النزعة الإنسانية العسكرية الجديدة» لنعوم تشومسكي (2001). أسهم مع والده بمشاركة العلّامة صبحي الصالح في تحرير «المنهل العربي الكبير» الذي وصفته الدار بأكبر وأشمل معجم عربي ـ عربي حديث؛ وهو ما يحتاج إليه كلُّ مواطن عربيّ اليوم. وسوف يسدّ عند صدوره في ثلاثة أجزاء ضخمة (8000 صفحة) نقصاً كبيراً في الميدان المعجميّ العربيّ الحديث، إذ يكاد يكون الأضخم. كذلك، تخصّص في أدب شديد الخصوصية هو أدب الناشئة بـ 14 رواية وقصة نذكر منها: «الشبّاك» (2017)، و«خلف الأبواب المغلقة» (2014) و«فلافل النازحين» (2011)، و«النصاب» (2010) و«الملجأ» (2009). وقد انطلق إدريس في خلفية كتاباته للأطفال من الإشكاليات المعقّدة التي تواجه كل من يخوض غمار «الأدب الأصعب» أي منشورات الأطفال واليافعين في العالم العربي من قبيل: أين يكمن الحاجز بين الأطفال ولغة الضاد؟ لماذا لدى الكبار فكرة مسبقة عما يجب عليه أن يكون كتاب الأطفال؟ ولماذا كما قال أدونيس يوماً: «الولد في الشرق يولدُ أباً»، فتجتاح قصص الوعظ الأخلاقية التي تكرّس السلطة البطركية كل خطاب موجّه إلى الأطفال؟ إلا أن كتابة سماح إدريس في هذا المضمار ميّزها قربها من جيل اليوم، جيل «السبابة» كما يسميه الفيلسوف الفرنسي ميشال سير، أو جيل «الآيباد» الذي يفاضل بين قراءة كتاب أو تسجيل هدف على «البلايستايشن» عبر نجمه ليونيل ميسي أو كريستيانو رونالدو. ألمح سماح إدريس في مقدمة لسلسلة قصصية من تأليفه إلى الواقع المرّ للّغة العربية حين تمارس كضغط سلطوي و«أبوي» على جيل اليوم: «هذه السلسلة تروي حكايات ولد من بيروت، بلغة تحاول أن تقترب من حديثنا اليومي، مبتعدة عن الوعظ الذي بات سمة كثير من كتب الأطفال. كما أنّ السلسلة تحاول التخفيف من الاغتراب الذي يشعرون به ويشعر به بعض الأهل حيال العربية. بدأت مغامراتي هذه بعد 12 عاماً من رئاسة تحرير مجلة «الآداب». خلال هذه الفترة، تكشّفت لي طواعية العربية، بقدر ما تجلّى أمامي تزمت بعض اللغويين الذين تعاملوا معها بوصفها كائناً محنطاً معزولاً عن الحياة اليومية والتأثيرات الخارجية، خلافاً لواقع التراث الأدبي العربي القديم نفسه».

الكاتب الملتزم الذي لا يساوم في قضايا الالتزام والمقاومة ومناهضة التطبيع، يبدي في أدب الأطفال أقصى درجات المرونة، ليثبت أن العلاقة اليوم بين «أطفال العولمة» والأدب واللغة ليست مستحيلة، حين تنتقل القراءة من منطقة الملل والإجبار وحلقات الاستظهار المدرسية الفارغة إلى منطقة المتعة والابتكار، والسماح للغة مرنة تجاري اللغات الأخرى رشاقة، في بلد مثل لبنان تتنوع فيه الأهواء والأنساق والمناهج التعليمية، أن توازن بين العامية (يمكن ردّ الكثير من مفرداتها إلى الفصحى بدون كثير عناء) وفصحى ميسّرة. هكذا، لا يشعر الناشئة ببون شاسع بين اللغة التي يفكّرون ويتعاملون بها في حياتهم اليومية، وأخرى يُلزمون باتباعها في دروس الأدب والجغرافيا والتاريخ، وبطرائق تعليم قديمة لا تستفيد من الثورة الرقمية لإيصال مفاهيمها المُحكمة التي لا يعوزها التعقيد بطريقة سلسة وسائلة. وقد وضع إدريس الإصبع على الجرح حين أشار إلى الأساليب الخشبية في ممارسة «سلطة المعلّم» وعدم تطويع اللغة التي تحتمل في تضاعيفها، مرونةً أسلوبية وسهولة اشتقاقات مهولة، لتكون ضمن عدّة التواصل والمعرفة للناشئة.

وضع إدريس التواصل مع هذا الجيل ومخاطبته بلغته هدفاً رئيساً، إضافة إلى تطوير المخزون اللغوي للطفل بطريقة أنيقة وبعيدة عن كل ما هو منفر وشاذ وغريب، فتواصل معهم في فترة الحجر من وباء كورونا وروى لهم قصصه عبر اليوتيوب رادماً الهوة بين الاستماع إلى القصة وقراءتها، واصفاً التجربة كما يلي: «فكرت في التسجيل قبل حظر التجول وتحديداً منذ بداية توقف الدراسة، وسبق وأن فعلت هذا بشكل خاص ولكن بالصوت فقط لأحد المستشفيات التي يتعالج به أطفالٌ مرضى بالسرطان، فأنا أحاول تثقيف الأطفال»، ليُفاجأ أن الأطفال لم يكتفوا بقصتين في الأسبوع الواحد فقط، بل بعثوا له برسائل على يوتيوب وحسابه الشخصي على فايسبوك والواتساب، متضمنة مطالبهم وعائلاتهم بقصص أكثر، عبر الرسائل الصوتية التي تبدأ جميعها بـ «عمّو سماح نريد قصص زيادة وأحببناها كثيراً».

من آخر ما كتبه سماح إدريس على صفحته على الفايسبوك: «كان زملائي في المدرسة والجامعة يعرفون ولعي بالعربيّة منذ كنتُ في السادسة عشرة. مرّةً، كتبتُ بياناً سرّيّاً من دون توقيع (بعيْد الاجتياح الإسرائيليّ صيفَ عام 1982)، وتعمّدتُ ارتكابَ أخطاء لغويّة، وأسقطتُ الشدّات أو وضعتُها في المكان الخطأ. قضيتُ الليلَ كلّه وأنا أتمزّق بين الخوف من الملاحقة الأمنيّة (سلطة أمين الجميّل)، وتأنيبِ ضميري اللغوي». يصعب وداع تلك الروح التي تغنّي للمدينة وأطفالها وتناضل وتقاتل وتشتبك: برحيل سماح إدريس يتجرأ الموت على مدينتنا بأكبر من خطأ لغوي: إنه قتل متعمد لزاوية من أحلامنا وثقافتنا ونضالنا، لعلّها الأجمل.

شُيِّع الراحل أمس في «جامع الخاشقجي»، على أن تقبل التعازي اليوم وغداً في «جمعية خرّيجي الجامعة الأميركية» في بيروت (AUB-ALUMNI) بدءاً من العاشرة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، ومن الثالثة حتى السادسة بعد الظهر.


لا أصدّق أنني أرثيك

أسعد أبو خليل

أتذكّره في المدرسة الثانويّة في الـ«آي.سي»، وعرفتُ شقيقته رنا (في «اللّيسيه») من زمن التظاهرات والحركات في المدارس من أجل فلسطين. جمعنا النضال من أجل فلسطين، وكانت زيارة السادات أول عمل مشترك لنا في الاحتجاج والتحرّك الطلابي. منذ تلك الأيام، كان يوكل إليه وليّ أمر الصياغة المشتركة للبيانات والمنشورات، وبقينا على هذه الشراكة على مرّ العقود الطويلة. كنا عندما نختلف على مسألة في اللغة العربيّة ونفشل في التوافق على حلّها، أقول له: فلنتوقّف. أعرضْها على والدك (سهيل إدريس) وأنا أقبل بما يُفتي. وهكذا كان دوماً.

عندما عرفتُ بمرض سماح المفاجئ، كتبتُ له: كما خضتَ معارك شرسة ضد الصهيونيّة، نحتاجك كي تخوض هذه المعركة. لا يمكن للقضيّة أن تتخلّى عنك. هي تحتاجك. لكن أخبار مرضه كانت تصلني بصورة يوميّة. كانت المواكبة مؤلمة جداً لجميع من عرفه وأحبّه. كنا نتبادل الأخبار عنه بعد مرضه على مدار الساعة ونحاول ألا نتكلّم معه عن المرض. كيف يمكن أن يفقد حيويّته بهذه السرعة؟ كيف يمكن للمقاطعة أن تفقد دوره، وهو الذي حرص على مواكبتها في أيامه الأخيرة الصعبة. كيف يمكن للأمعاء أن تقتله وتأخذه من عائلته ومحبّيه؟

لا أخفي أنني عندما سمعتُ بخبر مرضه، شعرت بشحنة غضب ضد عدد من الإعلاميّين اللبنانيّين الثاو ثاويّين: هؤلاء الذين قضوا ساعات على مواقع التواصل ليسخروا من سماح إدريس ويسخروا من قضيته في مقاطعة إسرائيل والشركات المتعاونة معها. هؤلاء أفنوا في ذمّ سماح إدريس أكثر بكثير مما أفنوا في نقد وذم إسرائيل. هؤلاء قضيّتهم لم تكن مقاطعة إسرائيل، بل ذم مقاطعة إسرائيل. سماح لم يكترث لعبثهم ومضى في حاله يشحن عزيمته باستمرار. سماح كان هدفاً سهلاً: لم يكن وراءه حزب أو حركة أو نظام. كان مثلي من الذين تأثّروا بجورج حبش. سماح تعرّض لحملات كثيرة مغرضة بسبب عناده في رفع لواء معركة المقاطعة. وسماح لم يكن يرى في المقاطعة بديلاً عن المقاومة، كما يرى بعض الليبراليّين في الغرب. لا، هو رأى في المقاطعة رافداً من روافد مقاومة إسرائيل.

كان يجول على المخيّمات لمشاركة الأطفال القراءة

عاد سماح إلى لبنان بعدما أنهى الدكتوراه في «جامعة كولومبيا» وتسلّم مجلّة «الآداب». وفي عصر كانت فيه المجلات إما تندثر أو تلتحق بأنظمة الخليج، عاشت «الآداب» (وإن توقّفت لفترة) ولم يساوم سماح وحافظ على خط «الآداب» العروبي التاريخي وضخَّ فيه فكراً يساريّاً أنعشها وجعلها أكثر راهنيّة. (قد لا يعلم البعض بأنّ «الآداب» كانت نقيض المشروع الرجعي لمجلّة «شعر»). والمجلّة كانت من نادرات الثقافة والإعلام العربي في أن سماح كان يحرص على تحرير المقالات، يحرّرها بالفعل ويمحِّص فيها إلى درجة أنه يجعل الكاتب يتضايق لو أنّه غير حريص على شكل إنتاجه. تجربة التحرير في «الآداب» لم أمرّ فيها في مجالات النشر العربيّة. انكبّ سماح على العمل على تطوير «الآداب» وعلى نشر الأرشيف رقميّاً. كل ذلك لم يشغله عن العمل على القاموس الذي كان حلم حياته، فيما تولّت شقيقته رنا شؤون «دار الآداب».

لا أتخيّل «الآداب» من دون سماح ولا أتخيّل فايسبوك من دون سماح، ولا حركة المقاطعة من دون سماح ولا كتب الأطفال من دون تأليف سماح. كتابة كتب للأطفال ليست عملاً أدبيّاً محترماً في عالمنا العربي، لكن سماح وعى أهميّتها وكان يجول على المخيّمات لمشاركة الأطفال القراءة. كان الأطفال والأولاد يتعاملون معه كأحد المشاهير لأنهم نشأوا على قراءة كتبه للأطفال. من المفارقات الحزينة أنّ سماح توفي بعد سنتيْن فقط من وفاة رفيقه وصديقه ماهر اليماني. حركة المقاطعة لن تكون بعده كما كانت في عهده، لكن على كل رفاق درب سماح التعهّد بإكمال الدرب في حركة المقاطعة كما في إنتاج مجلّة «الآداب» وفاءً لرسالة الراحل العزيز. أكاد لا أصدّق أنني أرثي سماح إدريس. أرثي سماح، لكن لا أرثي القضيّة التي حملها على منكبيْه طيلة حياته. وداع الرفاق والأصدقاء أسهل على المؤمنين مما هو على الملحدين. المؤمنون يتوقون للقاء الأحبّة، أما الملاحدة فليس لهم إلا فراق يعلمونه أنّه قاطع ونهائي.


ناقد الوعي «النقدي»

سيف دعنا

«إنّ وطننا، الوطنَ العربي، في مأساة لا لأنَّنا ابتُلينا بأنظمةٍ مستبدّةٍ فحسب، وبأطماعٍ إمبرياليةٍ وصهيونيةٍ متعجرفةٍ فقط، بل لأنَّنا أيضاً إزاء تراجُعٍ حادٍّ في الوعي النقدي الحقيقي» (سماح إدريس ـ «نقد الوعي النقدي: كردستان-العراق نموذجاً»)

قبل أكثر من ألف عام، كانت الأضواء مطفأة في أوروبا، لكنّها كانت مضيئة وساطعة في القاهرة، كتبت جانيت أبو لغد في كتابها العبقري «ما قبل الهيمنة الأوروبية». لكن مصر اليوم «تتخلّف (حتى) عن الدول الأخرى ذات الدخل المتوسّط من حيث القدرة الصناعية، فضلاً عن كونها أكبر مستورد للقمح في العالم»، كما كتب كيفان هاريس في «نيولفت ريفيو». فعلى الرغم، مثلاً، من انخفاض واردات مصر من القمح بنسبة 10.9٪ في عام 2019-2020، وعلى الرغم من زيادة واردات القمح لسبعة من أكبر عشرة مستوردين في ذات الفترة (بشكل ملحوظ في بعض الحالات) بما في ذلك الصين، لا تزال مصر، وبفارق كبير، المستورد الأكبر للقمح في العالم. هذا يتطلّب تفسيراً، غير مزاعم الدعاية التي تُحيل الناس لأسباب محليّة وذاتيّة بحتة للبلاد التي كانت مضيئة حين كانت أوروبا تغطّ في الظلام، فهذا لم يحدث فجأة. الأهم، هذا يتطلّب شرحاً وفق ما سماه الرفاق أحمد حسن وجورج سالم في نقاشهما لـ «هبة» تشرين اللبنانية، في افتتاحية «الآداب» بـ«الجغرافيا السياسيّة للخبز»، خصوصاً أنّه، كما جادلا، «ليس هذا، في الحقيقة، خبزاً منتَجاً محلّيّاً، أو يُشترى بالعملة المحلّية، بل خبزٌ يُشترى بالدولار من الخارج (أميركا)، ومن ريعٍ تَحَصّل في سياق الجغرافيا السياسيّة للمنطقة (وأقطارها) وشروطه». التفسير ضروري إذن لأنه أبعد من مصر أيضاً.


مَصْرَنَةْ الوطن العربي

في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، بدأت الأضواء تعود للقاهرة، وكادت معها عودة العرب للتاريخ، كفاعل إقليمي ودولي، تصبح أمراً واقعاً. ففي الثامن من نيسان (أبريل) 1833، وبعد الانتصارات الكبرى للجيش المصري في فلسطين، سوريا، اليونان، ووصوله حتى مدينة قونيا التركية، وَضَعَت «اتفاقية كوتاهية» حدود مصر الشمالية (أو الدولة العربية الناشئة حينها) عند مضيق كولك في جبال طورس. وبعدها بست سنوات، في 24 حزيران (يونيو) 1839، استكمل الإنجاز بسحق الجيش المصري جيش السلطنة العثمانية في معركة نصيبين التي كان يمكن أن تكون المعركة الأخيرة على طريق تحقيق استقلال العرب وتأسيس دولتهم. لكن في عام 1840، أي بعد هذا الانتصار بأقلّ من عام، دخلت البحرية البريطانية والنمساوية مياه الإسكندرية وقامت بقطع خطوط الإمداد المصرية، فارضة بالقوة اتفاقيات استسلام تضمنت في ما تضمنت سلسلة من التنازلات التي فرضت على مصر محمد علي بالقوة وتحت الإكراه. هكذا فُتحت الأسواق المصرية أمام السلع ورأس المال الغربي، فُكّك جيشها (تم تحديد عديده بـ18 ألفاً فقط وتحديد نوعه وحجمه وتسليحه) ودُمّرت قاعدتها التصنيعيّة (أصبحت مصر تستورد المصنوعات الأوروبية وتصدّر المواد الأولية فقط). هكذا أُخضعت مصر لعملية تقليدية، لكن سريعة، من إنتاج التخلّف في التنمية استمر لأكثر من قرن، حتى جاء الرئيس جمال عبد الناصر ليواجه مشروعه العربي الجديد أيضاً بردود عسكرية خارجية انتهت بإنتاج النموذج الساداتي التي تسعى الإمبريالية الغربية لتعميمه على كل أقطار الوطن العربي والجنوب: تفكيكها وإعادة بنائها وفق النموذج الساداتي الذي أثبت فعاليّته لصالح الاستعمار الغربي، نيوليبرالية اقتصادية، معاهدات سياسية مع العدو الصهيوني، تحالف مع العدو ضد المقاومات العربية، وغير ذلك في سياق خضوع تام لمتطلبات المصالح الإمبريالية.

لكن القصة المصرية لم تكن محصورة بتبعيّة رغيف الخبز وتفكيك القاعدة الصناعية المصرية في الحرب مرّتين في قرنين متتاليَين (والخبز، أو القمح، في النهاية هو علاقة اجتماعيّة قبل أن يُصبح شيئاً. هو علاقة تاريخيّة وعلاقة قوة مستمَدّة من الصراع الطبقي). ولأن سياق التبعية وإنتاج التخلف كلّي وشمولي، ربّما يكون أحد أخطر تبعاته أيضاً ما يُصيب المعرفة والفكر من تبعية تصل أحياناً حد استدخال الهزيمة واستعمار العقل، وحتى استعمار الخيال، من قبل مفكّري ومثقّفي البلدان المستعمَرة أنفسهم. فظروف الهزيمة وشروطها القاسية في الحالة المصرية في المرتين (1840 و1967) استولدت فكرها وثقافتها ومثقفيها أيضاً. ولأن علمَ الأفكار، أو علمَ تطوّر الفكر الإنسانيّ، هو علمٌ تاريخيّ بامتياز، كما يقول أنجلز، لا يمكن إدراك مجالات المعرفة الفرديّة إلا بوضعها في سياق تاريخيّ.

لهذا، ووسط جهود القرن التاسع عشر لما عرف بالتجديد الفكري، حاول المثقّفون المصريّون والعرب التوفيق والمواءمة بين الفكر النهضوي عموماً (والفكر الإسلامي في حالة تجديد الفكر الإسلامي خصوصاً) والاقتصاد السياسي الأوروبي. هكذا استندت أغلب هذه المحاولات إلى مسلّمة قاتلة تروّج لذاتية أسباب الأزمة والحل، فتمثّل ذلك في سلسلة من المقاربات الحضارية الكارثية (والأورو-مركزية) للهزائم العسكرية والسياسية ستتكرّر لاحقاً في نكبة فلسطين 1948، وخراب العراق مرّتين في عقدَين متتالَين (1991 و2003). طبعاً، يمكن إلقاء اللوم على الأدوات النظرية والمعرفية السائدة حينها، عدا عن السياق التاريخي الاستعماري العام لإنتاج المعرفة في حالة مصر لفهم أسباب قصور نصوص كـ«تحرير المرأة» لقاسم أمين، أو بعض نصوص رفاعة الطهطاوي وغيرهما، وحتى الرّدود المحلية عليها.


التفكير النقدي الحقيقي هو تحرّري الطابع وثوري الدافع

ما علاقة الرفيق سماح إدريس بكل ذلك؟

ما حصل في مصر الحبيبة مرّتين في أقلّ من قرنين، تكرّر في نموذج ما بعد خراب العراق الأول والثاني في عقدين متتاليين. لكن، ما يكشفه لنا سماح إدريس في هذه الحالة يُشير إلى أنّه يتضمّن أكثر من مجرّد غياب الحس التاريخي لبعض كاتبي النصوص لتبنّيهم أدوات نظرية ومعرفية وحتى لغوية، أو حتى قبولهم بافتراضات الرؤية الأورو-مركزية لوطننا العربي وللعالم والتاريخ والقبول بأدواتها النظرية والمعرفية. فإذا كان يمكن فهم قصور نصوص قاسم أمين ورفاعة الطهطاوي وكثيرين غيرهما من دعاة النهضة والتجديد وفق قاعدة ومنطق التجنيد للاستعمار (الذي يقضي على العامل الاقتصادي والاجتماعي لمشاريع وأفكار التحرّر عبر منهجية إنتاج التخلف وتجريد بلادنا بالقوة من قدراتها التنموية الذاتية، كما يقول علي القادري) فإن بعض ما رأيناه في العراق، ولاحقاً سورياً، يتجاوز ذلك ليصل حد التطوّع للاستعمار. فهناك من لم يكتفِ بالتَجَنُّدْ طوعاً للاستعمار، لكنّهم يسوّقون خياناتهم المعرفية (والوطنية) تحت يافطة ومزاعم النقد والفكر النقدي.


نقد الوعي النقدي: كردستان-العراق نموذجاً

في إحدى مساهماته الأهم (برأيي) التي قادت لمقاضاته، كما أصبحت العادة لدى مروّجي الفكر الناتوي، أضاء الرفيق سماح على «مهرجان المدى الثقافي الخامس» الذي أقيم في أربيل في العراق (29 نيسان- 6 أيار2007) وعلى المشهد الثقافي ما بعد غزو العراق، ليُشير (تماماً كما هي الحالة المصرية أعلاه) إلى أنّ ما ينطبق على العراق ما بعد الاحتلال ينطبق على الوطن العربي عموماً. اللافت أنّ سماح إدريس هو الوحيد من بين كل المثقفين العرب الذي تصدى بجرأة لهذا المؤتمر في مقال شامل، ومبهر بإلمامه بالتفاصيل التي تم عرضها بطريقة منهجية تسمح بالاستدلال والتعميم كما يلي:

«أسوأُ ما في الصحافة الثقافية والإعلامِ شبهِ الثقافي هو أن يتصدّى مثقفون عرب، وباسم «الوعي النقدي الحديث» للبنى التقليدية المتخلِّفة، والغيبيةِ العربية، والسلطاتِ القومية المستبدّة، والظلامية الإسلامية، واليسارِ الديكتاتوري... لكنّهم لا يلبثون أن يَمْتدحوا الاعتدالَ السعودي والوهّابي والجنبلاطي، والمرونةَ المصرية، والواقعيةَ الفلسطينية، والعقلانيةَ الغربية».

هذا التشخيص للمشهد الصحافي والصحافة الثقافية العربية ليس فقط دقيقاً، لكنه عميق ويحيلنا في جانب منه إلى ذات الإشكالية المتأصّلة في ادّعاء «الفكر النقدي» وإصراره على إلقاء اللوم على البُنى التقليديّة المتخلّفة، والغيبية العربية، والعقل العربي، إلخ، وتجاهل السياق التاريخي الأكبر المتمثّل في الهيمنة الغربية ودور أدواتها الإقليمية. ولأنّ سماح، مثل الكثير من المناضلين الحقيقيّين، من مدرسة «فتّش عن إسرائيل» أيضاً، فإنه يفضح المسكوت عنه (تحديداً في كردستان العراق) من مدعي «الحرية البائسة»، كما يسمّيها. فالفيل الكبير في كل الغرف العربية (من الثقافة إلى السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن)، هو «إسرائيل». وفي حالة كردستان، كان للكيان الصهيوني دور أساسي (يكفي أن تراجع مقال سماح الموثق جداً في هذه النقطة تحديداً)، لترى تفاصيل العلاقة الاقتصادية والأمنية والسياسية. ولأن الاختراق الصهيوني لا يمكن أن يكون لمصلحة العراق أو إخوتنا الأكراد، فإن «نقد الوعي النقدي» يذكّرنا بأنّ «أكثر الصحافيّين الليبراليّين العرب نَسُوا مَنْ دمَّر كردستان». هل تريدون دليلاً؟ اقرؤوا مقال سماح إدريس، وأنصح بقراءة المقال مرتين، مرة لتعرفوا ماذا حصل فعلاً ومرة أخرى لتقارنوه بما يحصل في أماكن أخرى من وطننا العربي، لتعرفوا أنّ ما كشفه سماح هو النموذج الجديد للمثقف المتطوع في خدمة الاستعمار.

وسماح لم يكتف بكل ذلك، بل أيضاً يفكك وببراعة كل الادعاءات التي ترافقت مع احتلال العراق من قبل هذه الفئة من المثقّفين البائسين (حقوق الإنسان، الحرية، المرأة، الوعي النقدي، «إسرائيل»، حرية التعبير، إلخ) ويعرّيها تماماً ويكشف حقيقتها (كأدوات للحرب والخراب على بلادنا)، وحقيقة من يروّجون لها من مثقّفي المارينز (كجنود في المشروع الإمبريالي لخراب بلادنا). لكن الجانب المهم تماماً لفهم المشهد بعمق، أي التشخيص النظري، وهو برأيي وظيفة العلوم الاجتماعية والإنسانية الأساسية (قبل أن يتم تحريف المعرفة العلمية وفق المنهج الوضعي إلى سلسلة من الإجراءات الموحدة)، هو ما يضيف قيمة مهمة لمقال سماح:

«طبعاً، هذا التحوُّل لم يأتِ وليدَ الساعة الراهنة، بل هو نتيجةٌ لعقودٍ من الهزائم والإحباطات، وعقودٍ من تراجعات اليسار، وعقودٍ من توزيع الجوائز والألقاب والأوسمة والوعود الرسمية والغربية على المثقفين العرب، وعقودٍ من «الاستضافات» العربية والغربية وتذاكرِ الدرجة الأولى وفنادقِ النجوم الخمسة. لكنّه بات يترافق، منذ سنوات أيضاً، مع تنظيرٍ مملٍّ ضدَّ ما يسمِّيه الليبراليون الجددُ بـ«الشعاراتية الفارغة». في هذا التشخيص، يمكن أن نجد هذا الفارق بين سماح المثقف الملتزم بقضايا أمّته وقضايا المضطهدين أينما كانوا، وبين غيره من مثقفين (وأيضاً صحافيين مهتمين بالشأن الثقافي) إما قاموا بتغطية المهرجان أو علّقوا عليه. سماح لم يكن أكثرهم دقة وعمقاً وإدراكاً للطبيعة الحقيقية لما يجري، وللسياق الأوسع، عدا عن فضح المقولات الأيديولوجية والدعاية التي أتخمت بها مقالات الترويج للمهرجان، فهذا قد يقوم به أي مثقف مجتهد. ما ميّز نص سماح وخطابه (المهذّب جداً في الحقيقة، كما هو سماح) أيضاً هو الجرأة على التشخيص، والشجاعة لكتابته ونشره ودفع الثمن. قلة من القرّاء تعرف فعلاً وحقاً الثمن الذي يدفعه بعض المثقّفين الشرفاء فقط لجرأتهم على الكتابة أو الحديث ممن يريدون لنا أن نعيش ونموت كالعبيد، أو من هم خلفهم.


بيروت سماح

كان من المفترض أن يكون هذا المقال عن صديقي ورفيقي سماح إدريس الإنسان، لكني آثرت أن ألفت نظر القرّاء إلى سماح المثقّف (لأنّي أعرف أن هذا مصدر فخر أهم بالنسبة له)، وأردت لفت النظر إلى تلك المقالة تحديداً كنموذج للتفكير النقدي الحقيقي، حيث يفكّك وينقد ببراعة وبتوثيق مقولات الغرباويّين مدّعي التفكير النقدي. والتفكير النقدي عندهم لا يعني في نهاية المطاف أكثر أن نكره من نحن ومن نكون عبر الترديد ببغائية مفردات ومفاهيم استشراقية عنصرية ومقولات إيديولوجية تتماهى مع متطلبات المشروع الإمبريالي الغربي. ومن سماح نتعلم أنّ التفكير النقدي الحقيقي هو تحرّري الطابع وثوري الدافع. هكذا يكون الفرق بين المثقّف الحقيقي، كثائر، والمثقّف المزوّر، كأداة في مشاريع الخراب الخارجية.

كنت محظوظاً جداً بأن عرفت سماح شخصياً وعن قرب، وكنت محظوظاً أن أراه في كل زيارة لي لبيروت تقريباً، عدا عن التواصل الدائم عبر الإيميل أو الهاتف، كما كانت الكتابة لـ «الآداب» مرات عدة أيضاً فرصة أخرى للتعرف أكثر إلى سماح وإلى جوانب مختلفة من شخصيته. ما لم أقله لسماح إنّه في زياراتي لبيروت، عرفت أو تعرّفت على أكثر من مدينة، أو على طبقات مختلفة، وحتى متمايزة، من هذه المدينة، وكان لي في كل منها تجربة مختلفة، حتى ليبدو كأنها فعلاً مدينة مختلفة. هناك بيروت إبراهيم الأمين، بيروت بيار أبي صعب، بيروت علي القادري، بيروت قاسم عزالدين، بيروت سماح إدريس، إلخ. لهذا، فحين بدأت كتابة المقال، كنت سأكتب عن سماح وعن بيروت سماح التي عرفتها معه، لكن مقاله عن النقد الأدبي دفعني للكتابة عن سماح المثقّف والناقد الأدبي. لكن، لأنّ لديّ الكثير سأكتب، وقريباً، عن سماح الإنسان، الصديق، الرفيق الجبهاوي، المُحَرِر، المدقق اللغوي الفخور بلغتنا العربية الذي لا تفوته فاصلة أو نقطة، المناضل وقائد حملة المقاطعة، وعن بيروت التي عرفتها معه. سأكتب قريباً لتعرفوا سماح أكثر، لأنه يستحق أن نعرفه أفضل وأن نعرفه أكثر.

ولسماح أقول: يوماً ما، وآمل أن يكون قريباً، ستضيء أضواء وطننا العربي ومدنه مرة أخرى، وستكون مشرقة وساطعة كما لم نعرفها، وكما لم يعرفها العالم، من قبل. يومها، ستكون فلسطيننا الحبيبة كلها حرة حقاً، وستكون جزءاً من وطن عربي كبير حرّ حقاً، ومستقل حقاً. يومها، حين يتحقق حلمنا بتحرير فلسطين والوحدة العربية، سيتذكر الناس مناضلين حقيقيّين ومثقّفين شرفاء تركوا أثراً على طريق هذا الهدف النبيل. سيتذكرهم الناس جيداً، وسيكون منهم وبينهم سماح إدريس.


ملاحظة: كُتب هذا المقال أساساً كتحية للرفيق سماح وهو يقاوم المرض في اللحظات الأخيرة. ورغم كل ما عرفته عن حالة سماح الصحية، ظلّ الأمل يراودني بأن ينتصر على المرض. الآن أدرك أن طريقة صياغة المقال كانت حيلة لتجاوز قسوة الحديث عن الرحيل. لروحه السلام.

* كاتب عربي


الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين: لم تسقط من يده راية المقاومة

نعت «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» (قيادة فرع لبنان) الراحل سماح إدريس. وجاء في البيان: «تنعى الجبهة إلى جماهير شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربيّة وإلى كل الأحرار في العالم المناضل القومي واليساري المثقّف والأديب د.سماح إدريس. لقد غادرنا المناضل الكبير بعد صراعٍ مريرٍ مع المرض، وبعنادٍ كما عوّدنا في مقارعة القوى المُعادية لفلسطين، غادرنا سماح ولم تسقط من يده راية المقاومة كما لم تبرح فلسطين من فؤاده. تتقدّم الجبهة بخالص التعازي إلى عائلته الكريمة ورفاق دربه من أسرة الآداب ورفاق القلم والثقافة والموقف. نعاهد رفيقنا بأن نبقى أوفياء للمبادئ التي قضى حياته متمسكاً بها ومناضلاً على هديها.

المجد والخلود لفقيد الأمة... فقيد فلسطين..

والنصر لأمتنا..


هوّنتَ عليَّ الموت... يا سماح

نجاح واكيم

لو كان سهيل إدريس بيننا اليوم. لو كان ذلك الأديب الرائع الذي كانت الكلمات تجري على لسانه بسلاسة وتنهمر من قلمه بغزارة، وتسيل منه الأفكار والمعاني في الأودية والسهول أنهاراً وجداول.

لو كان بيننا اليوم ماذا كان يقول؟

كان سينزوي في أعماق أحزانه، أو يجلس على حافة الدنيا وعيونه تائهة في الفراغ.

فالدنيا من دون سماح فراغ.

والزمن من دون سماح فراغ.

وفضاءات القلب والوجدان من دون سماح فراغ، إلا من الأحزان الموغلة في الصمت، في أعماق الصمت.

كان سهيل إدريس سيصمت، وكانت عيناه التائهتان في الفراغ، لا يملأهما سوى دمعتين هما بحجم كل فضاءات العالم.

كان سهيل سوف يصمت، فلماذا عليّ أنا أن أتكلم؟

لماذا أنا، وقد كان سماح لي ومني تماماً كما كان لسهيل إدريس ومنه؟

يا سماح لقد خنقت صوتي، وكسرت قلمي، وكسرت قلبي.

يا سماح لقد هونت عليَّ الموت.

* نائب سابق ومؤسّس «حركة الشعب»


منارةَ أمل وفكر ونضال ثوريّ

عمر البرغوثي

منذ عرفته كطالب في جامعة «كولومبيا» في مدينة نيويورك، قبل ما يُقارب أربعة عقود، كان سماح دوماً ولا يزال منارةَ أملٍ وفكرٍ ونضالٍ ثوريّ لا يعرف الكلل، وصاحبَ ابتسامةٍ سهلة، مُطَمْئِنة حتى في أحلك الأوقات. عندما كنا نعمل سويّاً، مع زملاء آخرين، على تنظيم نشاط في الجامعة دعماً لفلسطين ونواجه حملات التشويه والشيطنة والقمع من العدد الكبير من المنظمات الصهيونية في الجامعة وداعميها في إدارة الجامعة، كنا نغضب ونيأس حيناً ولكن دوماً نُصِرّ ـــ بما أسماه سماح لاحقاً «التيْسَنة الثورية» ـــ على المُضِيّ قُدُماً رغم كل شيء في تنظيم النشاط. ورغم قلة عددنا وتكالب الأعداء علينا، نجحنا في خلق حالة توعوية مميزة شكّلت نواةً لنضال طلابي متصّل لاحقاً.

عدا مساهمته المعهودة فكرياً وعملياً في هذه السيرورة، كانت روح سماح المتسامحة والمَرِحة تُعطي عملنا دفئاً ونكهة خاصة، بالذات حين كان يكرّر في كل مناسبة، وأحياناً بدون مناسبة، هجاءه للنَكَد الفلسطيني، منهياً جملته بـ «يا لطيف!»

لكن سماح لم يكن يوماً يسوعَ المسيح أو الأم تيريزا، لا تسيئوا فهمي. فإن كان متسامحاً داخل «معسكر الأصدقاء»، فهو بعكس اسمِه، لم يكن متسامحاً أبداً مع من اقتنع بأنهم/ن باعوا مبادئهم للسُّلطة، أي سُلطة، أو انغمسوا بغلاف نيوليبرالي في التطبيع مع إسرائيل، التي لم يكن ليقبل بوجودِها حتى في كتاباتِه سوى بين مزدوجَيْن، كالمارّة بين الكلمات العابرة، كما قال درويش يوماً. المبدأ بالنسبة إلى سماح، يأتي أولاً وعاشراً، يرفض الميوعة في الموقف بالذات حين يقتضي الأمر الحسم. وغالباً ما يرى سماح أنّ الأمور تقتضي حسماً مماثلاً. لكنّه بقدرته على التطوّر والارتقاء بذاته فكراً ونضالاً، ومع خبرة سنين من العمل الميداني في معترك الثقافة والمجتمع والسياسة، طوّر سماح إدراكه للمساحة الرمادية الواسعة بين الصديق والعدوّ، وازداد تقديرُه لضرورة التحالف التكتيكي مع من اقترب من الحق والعدالة، من منظوره، لجذبه أكثر نحوهما، ولو لم يكن «نقيّاً» بعد، حسب تقويمه.

عادة ما أتفق مع سماح على المبادئ والأهداف، أو جلّها، وأختلف على الاستراتيجية للوصول إلى الهدف. لكن كلما أختلف معه حول حملة أو فكرة ما، وكونه يعتبرني من معسكر الأصدقاء، بالمفهوم السياسي، لا الشخصي فحسب، يتمسك سماح بموقفه من منطلق أنه الأصح والأدق في السياق العربي برأيه (وغالباً ما يكون ذلك صحيحاً)، لكنه يقبل بتغيير موقفه قليلاً تماشياً مع متطلبات «العمل الدولي»، الذي كان يثق بخبرتي الأعمق فيه. وعندما أستشيره حول قضية ما تتعلق بالوضع العربي تحديداً، وأنا مِمّن اغتنوا فكرياً بقراءة مفهوم «العروبة الجديدة»، غير الإقصائية، وغيره من المفاهيم التي أسهم سماح في تطويرها، كان كَرَمُه الفكري حاتمياً.

ومن أجمل مزايا سماح التي أقدّرها بعمق أخلاقه، فهو يرفض إغراءَ المال الملوَّث بدم المضطهدين ومعاناتهم، مهما تفاقمت حاجة مجلة «الآداب» للمال. وكلما جُوبِه بتيّار التطبيع الجارف ومقولات مثقّفيه «البديهية» حول جنون السباحة عكس التيّار، ردّ عليهم بإصراره على أن يكون هو تياراً جديداً أو من ضمن تيّار جديد. أعتقد أن رفض سماح لا للسباحة مع التيار فحسب، بل للتيار ككلّ يحظى باحترام كل أصدقائه وجزء غير بسيط ممن اشتبكوا معه ـــ بالمفهوم التناحري! ــــ ودخلوا في سجالات حامية معه. رغم غربته لسنين خلال الدراسة ومخالطته للفلسطينيين أكثر بكثير من اللبنانيين في حينه، ظلت لهجة سماح البيروتية لا تقبل التخفيف، تماماً كمبادئه التي تشكّل جزءاً عضوياً منه، كالعينين، يرى من خلالها العالم واعوجاجه ومصادر الأمل والثورة فيه.

إن كان أثر الفراشة لا يزول ولكن لا يُرَى، فأثرُ سماح إدريس الثوريّ أيضاً لا يزول ولكنه يُرَى ويُلهِم ويسهِم في تحرير العقل والأرض.

لسماح التحية النضالية والقصيدة الثورية والكرامة السرمدية.

* صديق وفي لسماح إدريس وعضو مؤسس لـ«حركة مقاطعة إسرائيل BDS»


الوراثة النبيلة

معن بشور

لا يُذكر اسم الدكتور سماح ادريس في مقام أو لقاء إلا وتقفز في الذهن صور ثلاث في وقت واحد. الصورة الأولى هي صورة مجلّة «الآداب» التي لعبت، وما زالت، على مدى عقود دوراً ريادياً في الحياة الأدبية والثقافية العربية التي انطلق من رحابها بعض أكبر الأدباء والشعراء العرب الذين يذكرون لمؤسّسها الراحل الدكتور سهيل ادريس فضله في إتاحة الفرصة لهم لكي يتعّرف إليهم أبناء أمّتهم.

وبعد رحيل الأب المؤسّس، نجح الابن سماح في تأمين استمرار صدور المجلّة الرائدة، بل وفي تحويلها إلى منتدى ومنبر للعديد من الكتّاب والأدباء والمثقّفين المسكونين بهموم أمّتهم، مؤكّداً أنّ الوراثة النبيلة ليست وراثة الجاه والمال والنفوذ، بل وراثة الأدب والفكر والإبداع والنضال.

أما الصورة الثانية التي تقفز إلى الذهن مباشرة، فهي صورة «مقاطعة العدو الصهيوني وداعميه» التي حملها الدكتور سماح منذ سنوات عدة، من خلال حملات المقاطعة، لا سيّما B.D.S ، امتداداً لحياة نضالية طويلة منذ أن كان طالباً في الجامعة الأميركية، وعضواً فاعلاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصديقاً حميماً لمؤسس الجبهة الحكيم الراحل الدكتور جورج حبش.

إنّ دور سماح وإخوانه في حملات المقاطعة أسسّت بشكل واضح للعديد من فعاليات وهيئات مناهضة التطبيع التي قامت في كثير من الدول العربية، ناهيك عن مدن وعواصم وجامعات عالمية.

أما الصورة الثالثة التي يحملها ذكر اسم سماح ادريس، فهي صورة والده الأديب الكبير والروائي المميّز سهيل ادريس الذي لم تكن رواياته الجريئة والجميلة مصدر اهتمام لي ولمئات الآلاف من القرّاء اللّبنانيّين والعرب فحسب، بل كانت شجاعته كمثقّف وأديب هي ما أذكره دوماً له حين أقفلت معظم المنابر الثقافية في وجه لقاءات تضامنية مع العراق ضد الغزو الأميركي عام 1991، إلاّ منبر «اتحاد الكتّاب والأدباء اللّبنانيّين» الذي كان الدكتور سهيل أمينه العام، وقد فتح أبوابه لفعاليات تضامنية ثقافية شارك فيها شجعان من أهل الفكر والقلم، وصدرت عنها وثيقة تلاها الدكتور أنطوان سيف، الأمين العام لـ «الحركة الثقافية» في انطلياس.

أستعيد هذه الصور الثلاث من وحي «مثقف عضوي» بكل ما في الكلمة من معنى، هو الدكتور سماح ادريس، وقد ودّعنا بعد معاناة قاسية مع مرض عضال، لأنّ أمثال سماح من أصحاب المبادئ المقرونة بالعطاء الفكري والثقافي باتوا قلّة في مجتمع تتدهور فيه القيم السامية ليحلّ محلها الارتزاق والاستعراض.

رحمه الله والعزاء لذويه وكل محبيه

* كاتب وسياسي لبناني


ناطرينك

عفيفة كركي

طلب مني في جريدة «الأخبار» أن أسهم في الملف الذي يحضرونه عن د. سماح ادريس. أجبت: «لست الأنسب، ففي «حملة مقاطعة داعمي اسرائيل في لبنان» من هم أقرب الى سماح وأفضل مني في التعبير». قالوا: «قد يكون هذا المطلوب، نحن نريد أن تكتبي عن تجربتك مع سماح ادريس في حملة المقاطعة، وهناك من سيتولى التحرير». إذا، سأحاول!

ماذا؟ سأحاول! «شو هالعلقة». ماذا لو نجحت المحاولة؟ سيطلب مني سماح، الذي كان قد استعاد وعيه، أن أسهم في كتابة بيانات الحملة!

فأنا استعدت حديثاً لغتي العربية التي تعلّمتها في المدرسة، وكنت قد نسيتها بعد ذلك، إذ لم استعملها في الجامعة أو خلال سنوات العمل. لكنّني استعدتها من خلال التدقيق في معلومات بيانات الحملة لان إحدى مهامي هي الابحاث، وسماح سعيد بشخص جديد يضاف إلى متكلّمي لغة الضاد وخصوصاً أنّ للحملة دوراً في ذلك.

آه! هناك مشكلة اخرى: ماذا اكتب؟ وكيف ابدأ؟

أستطيع أن أبدأ من الليلة التي ساءت فيها حالته الصحية؟ كنا نحتفل بعيد ميلاده وفجأة هب واقفاً وخرج قائلاً: «أنا ذاهب». فكرت لحظتها: «لم خرج هكذا؟ لم يتوقف حتى ليسلم علينا!».

بعد دقائق، أو ربما ثوان، لم اعد اذكر، دخلت علينا مجدولين درويش وطلبت من د. عبد الملك سكرية (اعضاء في الحملة) أن يذهب معها. وبعدها رأينا سماح يخرج معهما. الى اين؟ الى المستشفى!

وقفنا متسائلين ماذا نفعل؟

فضلنا العودة الى بيوتنا والاطمئنان عليه عبر الهاتف حتى لا نتطفل على عائلته البيولوجية... تلك الليلة، لم ينم أحد من أفراد عائلته الفكرية، كما يرى سماح اعضاء حملة المقاطعة، لمتابعة حالته ومحاولة تقديم يد المساعدة للحبيبة عبادة، كما يسمّيها.

في طريق عودتي الى المنزل تلك الليلة، سألت نفسي «لما انا حزينة هكذا؟». فسماح ليس بصديقي كما هو صديق لدونا ورانية ومجدولين وأمل وأحمد وشيراز، وليس بأب روحي كما تعتبره رجاء وهيام، وهو ليس بقائدي أو معلمي كما يراه رامي ومحمود وآخرون؟ فيمرّ برأسي شريط سنين العمل الدؤوب في الحملة... سماح هو رفيق تلك السنين، أنتبه إلى أنّه رغم أن لكل واحد من أفراد حملة المقاطعة حياته الخاصة بعيداً عن الحملة واعضائها، مجموعات النقاش التي لا تهدأ فيها، تتدخل في صلب تفاصيل حياتنا اليومية من دون أن يكون للأفراد المقيمين في تلك المجموعات دور فيها ... وسماح من أكثر المقيمين في هذه المجموعات تفاعلاً.

أحاول أن أتذكر اختلافاتي الحادة احياناً مع سماح على تفاصيل بيان أو نشاط حتى أخفّف من الحزن الذي اشعر به، فانا ابتعد دائماً عن الامور المحزنة «وأغني لها»، فلا اتذكر الا هدوءه ولا اسمع الا معلوماته عن السياسة والثقافة والاحزاب في لبنان والعالم العربي (الوطن العربي بالنسبة له)، التي يخبرنا بها حتى نتنبه ولا نقع أو نوقع الحملة في اي خطأ.

الوطن العربي؟ ما يأخذني الى تلك النقاشات التي لا تتحكم بها الا بوصلته الفكرية المتجهة دائماً وابداً الى فلسطين. فاتذكر شعوري باشتياقي لنظافة هذا المكان الخالي من الأوبئة المذهبية التي تتجلى خلال النقاشات رغم الاختلافات الكثيرة، يوم عودتي الى اجتماعات الحملة بعد انقطاع لمدة سنتين.

وفي اجتماعنا القصري في اروقة المستشفى في اليوم التالي حيث تجمعت عائلته البيولوجية وعائلته الفكرية، قررنا أن نكمل ما نقوم به من اعمال ونؤجل ما نستطيع تأجيله الى حين عودة سماح، كتحديث الدليل أو الوثيقة مثلاً.

الدليل؟ وهل يعلم من ينتقده كم أمضى سماح ادريس من الوقت في التدقيق في معلوماته وفي تحريره وفي النقاشات لاختيار الشركات الأكثر دعماً للعدو، لتفادي زج الناس في متاهة عدم وجود البديل، من دون التفريط بمعايير الحملة؟

الوثيقة؟ وهل قرأها من يهاجمه لأنه يعتقد أنّ حملات المقاطعة وسيلة لاستبدال السلاح المقاوم، ليعرف بأنّ وثيقة الحملة التي وضع أول اسسها سماح ادريس لا تشجع على المقاطعة الا لحماية السلاح وبقاء جذوة المقاومة حية في ضمائر ووعي الناس الذين لا يستطيعون القتال، فهي تقدم لهم وسيلة لدعمه.

وهل رأى من ينتقد عمله «البرجوازي» في حملة المقاطعة، أهل المخيمات، ولا سيما مخيم شاتيلا، كيف لبّوا نداء طلب وحدات الدم؟ هل رأى وقفتهم الى جانب الاب الروحي لهم كما يسمونه؟ وهل يعرف من يتهمه بالديكتاتورية، انه احياناً لا يتدخل بالنقاشات الدائرة في حملة المقاطعة حتى لا يؤثر على احد؟

سماح، ناطرينك، لا يزال هناك الكثير مما تستطيع أن تنجزه.

* حملة مقاطعة داعمي اسرائيل في لبنان


يلزمنا عمر آخر

مجدولين درويش

«مش قليلة تكون صديق ورفيق سماح إدريس»

سماح... واسمه يوحي بالتسامح والغفران، لكنه لا يغفر ولا يسامح في قضيه الأساس:

فلسطين عربية.

فلسطين من بحرها إلى نهرها.

فلسطين التاريخية التي حلم بها حتى الرمق الأخير.

ليس حالماً، بل مقاتلاً شرساً لا يهادن، لا يباع ولا يشترى.

عن كثب عرفته منذ مطلع العام 1997، بعد مرور عام على وجودي في مكتب المناضل الشرس نجاح واكيم الصديق الصدوق والمحب لسماح إدريس، وقبل عام على انطلاقة «حركة الشعب» التي كتب سماح مقدّمة وثيقتها.

عشنا معاً حروباً وانتصارات وإخفاقات وخلافات لا تعد، ومع ذلك استمر بنا الحلم واستمرت محاولاتنا لتحقيقه.

كثيرة هي الخلافات التي عشناها، خاصة في ما يتعلق ببعض الخيارات السياسية لـ «حركة الشعب»، وكثيرة هي المرات التي قال لي فيها «أنت بتعصبي كثير».

اختلفنا وبقينا رفيقين معاً على طريق العودة.

يلزمنا عمر آخر يا سماح كي نستطيع تحقيق حلم مسارنا البديل.


مناجاتي للمعلم..قبل رحيله بساعات

رامي سلامي

كلُّ الحكايا تبدأُ منكَ وإليك تنتهي، وأنتَ أجملُ من يحكي!

فهاتِ حدِّثنا وقد صارَ الوجودُ ثقيلاً، واعبُر بنا هذا البرزَخَ إلى برِّ الأمان. ربَط الزَّمانُ ألسِنتَنا، فكُن هارونـَنـَا الذي باسمِنا يتكلم، دُسَّ في كلامِنا بينَ الغصَّة والغصَّة شيئًا من حلاوةِ لغتِك، وجميل المنطقِ الذي تُجيد، واجمعَ شظايا زُجاجِنا مرآةً نراكَ بها، وفيها.

رماكَ الدَّهرُ بما لا طاقَةَ بنا على احتمالِه، وأنتَ مع كلِّ إشراقةِ شمسٍ، محضُ إرادةٍ وأمَلٍ وألَم.

يُوسُفُـنا أنتَ يا سماح، حُسنًا، وسماحةً، وحكمةَ، ولسنا كإخوة يُوسُف! فعلِّمنا من تأويلِ الأحلامِ، وقُـلْ لنا هل تنتهي السبعُ العجاف؟ وقل لنا يا معلِّمُ، ما أَسَرَّ لك حنظلة، قبل أن تُديرَ معَه وجهَك؟ عائدون يا حبيبنا، نبوءَتُك قالت لنا: عائدون...عائدون...وإنَّا بكَ لعائذون من شر هذا الزمانِ العجيب.

رفيقـَنا الأعز، أبانا الذي في عرشِ آلامك، ما كنَّا نخشى النشازَ، وأنتَ ضابطُ إيقاعـِنا، وحاضنُ أرواحِنا، فهل من بعدِك نتيهُ أو نتوه؟ مُرَّ علينا في غَفلةٍ منَّا، كُنْ ملاكَـنا الحارسَ، وجنِّيتَنا الصالحة، ذُرَّ علينَا من ذَرورِ سحرِك ما يسعفُ القلوب، واتلُ علينا سورةَ النصر التي لنا.

سماح،

عهدنا لكَ ووعدُنا، رفيقاتٍ ورفاقاً، أن سنظلُّ نُيمِّمُ وجوهَنا شطرَ الجنوبِ وجَنوبَ الجنوبِ، معراجَ القلوب، وسنبقى كما عرفتَنَا وكنتَ معنَا، وفيا بين أوفياء، إرادة واحدة وعزما أكيدا لنصرة الحقِّ والإنسان.


التجمّع الأكاديمي في لبنان: قلب نابض بحبّ فلسطين

ينعى التجمّع الأكاديمي في لبنان لدعم فلسطين الأديب والمناضل المثقّف الراحل الدكتور سماح سهيل إدريس بوصفه قامة فكرية ووطنية، عمل طيلة حياته على بث ونشر الفكر الحر النضالي والمقاوم النابض بحبّ فلسطين.

ويشيد التجمّع بدور الراحل البارز في دعم القضية الفلسطينية، وفي مواجهة الاحتلال والتطبيع والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما يشيد بدوره في الحملة العالمية لمقاطعة داعمي «إسرائيل» وفي حركة مقاطعة «إسرائيل» وفي كل الحركات التي خاضها في المواجهة مع العدو الصهيوني من خلال مشاركاته في العديد من المؤتمرات والندوات والنشاطات السياسية والإعلامية الداعية إلى دعم الشعب الفلسطيني في استعادة كامل حقوقه من الكيان الغاصب.

وبهذه المناسبة الأليمة، نتقدّم من عائلة الراحل العزيز، ومن أهله ورفاقه ومحبيه، ومن كل اللبنانيين والأحرار في العالم بأحر التعازي. وندعو الله أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يلهمكم الصبر والسلوان.


حركة مقاطعة إسرائيل BDS: حاضر في وجدان المناضلين

بمزيدٍ من الحزن واللوعة، وبمشاعر يمتزج فيها الألم بالفخر والاعتزاز، تنعى حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) ومجموعات المقاطعة العربية، وجميع العاملين والمتطوعين فيها في فلسطين والوطن العربي، إلى جماهير شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية وكل تقدميّي/ ات العالم، المناضل والمثقف الثوري المبدئي الدكتور سماح سهيل إدريس، أحد أبرز رموز المقاطعة ومناهضة التطبيع مع العدوّ على المستوى العربي والعالمي.

غادرنا سماح بعد صراع مع مرض عضال لم يمهله طويلاً، لكنّه لم ينَل من إرادته الصلبة وعزيمته التي لا تلين في النضال من أجل حرية فلسطين وعودة لاجئيها، من أجل لبنان، ومن أجل أمة عربية تتحرّر فعلاً من الاستعمار القديم والجديد وتنعم شعوبها بتعدّدها بقيم الحرية والعدالة.

نتقدّم بصادق العزاء لأسرته الصغيرة، ولأسرته الكبيرة على امتداد العالم، ولجميع رفاقه ومحبّيه، مؤكدين أنّ سماح إدريس سوف يبقى حاضراً في وجدان المناضلين والمدافعين عن الحرية، وأنّ سيرته العطرة سوف تبقى مصدر إلهامٍ لآلاف المناضلين والمناضلات من الأجيال الناشئة على امتداد العالم وهو القائل «إذا تخلّينا عن فلسطين، تخلّينا عن أنفسنا».

خسارتنا بغياب رفيقنا المُلهم سماح إدريس كبيرة ولا تعوّض، لكنّ عزاءنا هو في إرثه الحاضر فينا دوماً.

له الرحمة ولعموم شعبنا وأمتنا صادق العزاء.

التوقيع:

اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل (BDS)

حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" - لبنان

الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ

الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة إسرائيل (BDS Egypt)

حركة المقاطعة في المغرب (BDS Maroc)

الحملة المغربية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (MACBI)

الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني

حركة المقاطعة في الكويت (BDS Kuwait)

الأردن تقاطع (BDS Jordan)

ائتلاف الخليج ضد التطبيع






تعليقات: