كان يا ما كان في بلدي

المحامية وداد يونس
المحامية وداد يونس


1- سؤال.

_ لازم تِنْتِبِهْ لَكَلامَكْ.. عنْدَكْ إبن وحيد.. مين رَحْ يوظّفُو لمّا يكْبَرْ بلا تَوْصِيي من "أحمد بيك"؟

كان عمي "أبو عفيف" يُكَرِّرُ نصيحتَهُ لأبي، حين دخلتُ عليهما بالقهوة التي أعدَّتْها لهما أمي قبل انْصرافِها لِإرضاعِ أختي الثالثة.

_ إبني شاطِرْ بالمَدْرَسي.. مَنُو بحاجي لَحَدا يتوسَّطْلُو حتى..._ ردَّ أبي بسرعة قبل أن يقاطِعَهُ عمي مُنَبِّهاً:

_ رُوْقْ.. مهما كان إبْنَكْ شاطِرْ.. ما في وزارَا بالدَّوْلي بتوظّْفُو بَلا تَوْصِيي من البَيْك.._

فعاجَلَهُ أبي بردِّه عليه:

_ عمرُو ما يْوَصِّي.. البَيْك.. البَيْك.. البَيْك!!.. لأيْمْتى رَحْ تظَلّْ هالنَّاسْ ماشْيي وَراه عالعَمى؟.. حَضْرْتُو بيعرِف شُو بتعْمَلْ ريْحِةْ كاز القنديل بالصِّدِر؟.. مِرِضْ شِي وَلَدْ من وْلادُو وماتْ لأنّو ما قادِرْ يدْفَعْ كِلْفِةْ علاجُو بالمِسْتَشْفى؟.. نْسيْتْ كيف ماتْ إبِنْ جارْنا "بو هاني"؟..

وقبل أن ينتهي من قولِهِ لِعَمِّي مُسْتَطْرِداً: _ والأنْكَى من هَيْكْ إنُّو هَوْدي الناس دغْري بيِتِّهْمُو الْلِّي بيِرْفَعْ صوتُو ضدُّو لهالبَيْكْ بالكُفْرْ والخِيانِه والعمالِه و... _ كان دخَلَ أخي مُهَرْوِلاً وهو يُكِرِّر بأعلى صوتِه:

_ وصْلِتْ عِمْدانْ الكَهْرَبا عَ"الخيام".. رَحْ يْصِيْرْ عنَّا كَهْرَبا_

ولشِدَّةِ فرحِهِ وابْتِهاجِهِ بتِلْكَ العمدان، لَمْ يُعِرْ انتباهاً لسؤالي لهُ:

_ مِيْنْ "أحمد بيك"؟_

2- صندوقُ الجِنّْ.

بدخول الكهرباء عليها، بدأت "الخيام" شيئاً فشيئاً تخرج عن سكونِها المُعْتاد. فسَهَرُ سُمَّارِها لم يعُدْ مرتبطاً بإطلالة البدر لبضعة ليالٍ من الشهر، بعدما توفَّرَ المزيدُ من الليالي المُضاءَة لتباريهم بقَرْضِ الزَّجَلِ، أو للمُبادرة بمُصالَحَةِ زوج على زوجِهِ، أو لخِطْبَة عروسٍ لأحد أبنائهم، أو لمؤاساة عائلة بغياب فقيدٍ لها، كانت عتمةُ الليل، سابقاً، تجعل حزنها عليه أكثر إيلاماً ووحشة.

وبفضل اللَّمْبات المُتَدَلِّيَةِ من الأعمدة الخشبيةِ والحديديةِ المَزْروعةِ على طرقاتها ومفارِق الأزقَّة، صارت بنات آوى تهابُ عاقبة انقضاضِها على أقنان الدجاج كما كانت تفعل قبلاً في ظلام الليل. وصار لصوصُ الغلَّة، من عدس وفول وحمص وفستق وقمح وزيتون، يخشون انْفِضاحَ هويَّاتِهم.

ومع اللَّمْبات المُعَلَّقَةِ في سقوفِ بيوتها، أخذَتْ رائِحَةُ احْتِراقِ زيت القناديل تختفي عن ثيابِ وأغطيةِ وأنوفِ أهْلِها، بعدما عشَّشَتْ زمناً بين ثناياها. وصار الهواء، الذي كم حَمَلَ قبلاً إلى رئاتِهِم أنواعاً من الرَّبو، عجزت عن برائِهِم منها كل أعشابِ العطّارين، أنْقى.

وبانطلاق أصوات المذيعين والمذيعات، من أجهزة "الراديو"، التي اقتناها بعض الموسرين فيها، لم يَعُدْ الإصْغاءُ إلى ما حدث في مضارِبِ "بني عبس"، أو "بني هلال"، أو "بني ربيعة"، يستهوي أحداً من أبنائِها، فانفضُّوا عن مجلس الحكواتي "أمين"، ليَسْتَمْتِعوا بسَماعِ الأصواتِ الآتية من صندوق الجِنِّ (الراديو) وهي تُحَدِّثُهُم عمَّا حدَثَ قبلاً، وتُخْبِرهم بما يَحْدُثُ حاضراً، في مختلف ديار ومضاربِ الدنيا.

وبفَضْلِ مُكَبِّرٍ للصَّوتِ، أهداهُ أحدُهُم لِمِئذَنَةِ مَسْجِدِها، صارَ صوتُ مُقْريءِ القرآنِ يُشارِكُ رنينَ أجراسِ كنائِسِها الأربع، في سمائها.

(ملاحظة على الهامش: المآسي والمهازل المتكَرِّرة التي نعيشُها في "لبنان" تؤكِّدُ أنَّ التاريخ يعيد نفسه مرَّات، وذلك بخلاف مَقُولَةِ "كارل ماركس" الشهيرة:

"إن التاريخ يعيد نفسه مرَّتَين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة.")


* المحامية وداد يونس (رئسة نادي الخيام الثقافي الاجتماعي) / عن صفحتها على الفيسبوك

تعليقات: