ديفد هوكني في متحف «أورانجوري» في باريس «عام في النورماندي» حتى 14 شباط


الفنان البريطانيّ الشهير «ديفد هوكني» الذي سكن في منطقة «الأوج» Auge الفرنسيّة منذ بداية العام 2019، اطلعنا هناك على فصل جديد من خلقه الفنّيّ؛ منزله، حديقته والريف المحيط به تحوّلت إلى عناصر ومواضيع مفضّلة لديه، منفّذة (رسماً وتصويراً) على «الآيباد» Ipad، تقنيّة استعملها منذ ما يُقارب العشر سنوات.

كان هوكني قد عرض سابقاً، في متحف «بايو» Bayeux، ما عُرف بعمله بالأقمشة وورق الجدران للملكة «ماتيلد» Mathilde. عمل يُقارب طوله السبعين متراً، حيث الحواف قد شكّلت إفريزاً يروي غزوة «غيّوم» دوق منطقة «النورماندي» في القرن الحادي عشر.

في وقت كان العالم محاصراً، لا يتحرّك بسبب وباء كورونا، حقّق الفنان هوكني بتقنيّة «الآيباد»، على مدى أسابيع قليلة، أكثر من مئة صورة. سمحت له التقنية بالإمساك السريع والمجدّد لما يريده. على طريقة الانطباعيّين، أمسك الفنان بتفاعلات الضوء والتغيير الجوّيّ بخفّة وبراعة بناءً لباليت حيّة ومضيئة؛ تأليفات مسطّحة متجاورة بنبرات فن البوب. رسم هوكني الفصول على مدى عام كامل. إفريز طوله تسعين متراً يُمثّل تتابع فصول السنة.

نذكر هنا إلى أنّه في العام 2018 كان قد أُقيم معرض استعاديّ للفنان في مركز جورج بومبيدو. تناول المعرض، الذي تسنّى لنا حضوره، مراحل الفنان المختلفة وصولاً إلى أعماله الأخيرة بأحجامها الكبيرة والمدهشة. فمن يكون هذا الفنان وإلى أيّ تيّار فنّيّ ينتمي؟ وكما سنرى كيفيّة تنوّع أساليبه تبعاً لتقنيّات العصر الذي نعيشه.


الذاتيّة الجديدة La nouvelle subjectivité

في أعمال هوكني

يُسمّيها البعض «اللاموضوعيّة الجديدة»، وهي تعني الذاتيّة في الفنّ وفق أسلوب معاصر. جاءت هذه الحركة كردّة فعل على بعض التيّارات الفنيّة التي كانت سائدة في بداية الخمسينيّات كالتعبيريّة التجريديّة والبقعيّة والفن الحركيّ واللاشكلي... تعود تسمية «الذاتيّة الجديدة» إلى الناقد التشكيلي الفرنسي «جون كلير» Jean Claire. أمّا خصائصها التقنيّة فتقوم على التالي:

- العودة إلى الواقع بأسلوب ذاتيّ، ورفض التجريد الكلّيّ، وعدم التقيّد بالأساليب التقليديّة كالتخطيط وقواعد التأليف المتعارف عليها.

- إدخال النقنيّات الحديثة إلى العمل الفنّيّ كالتصوير الفوتوغرافيّ والفوتوشوب عبر الإلصاق (الكولاج).

- اختبار الوسائل التقنيّة الحديثة والصناعيّة.

- استعمال تقنيّة الأكريليك في الرسم.

- العفويّة والارتجال.

- الإدخال إلى العمل الفنيّ العناصر الأكثر استعمالاً في الحياة اليوميّة والأشياء المهملة، والأقلّ جمالاً بالمفهوم المتداول، والاهتمام بالثقافات الشعبية والصور المأخوذة من الحياة المعاصرة كصور المشاهير والملاهي الليليّة، والهدف منه التعبير عن المجتمع الاستهلاكيّ كما يفعل فنانو الـ«بوب آرت».

- استعمال المعادن الغريبة والجديدة.

بدأت هذه الحركة في لندن عام 1955، ثمّ انتقلت إلى أميركا حيث عرفت تطوّراً كبيراً هناك أكثر من بريطانيا بسبب الجرأة الأميركيّة بتطبيقها مستفيدة من المحيط الاستهلاكي الذي وسم حياة الأميركيّين وطريقة عيشهم...

تجلّت «الذاتيّة الجديدة» بالفنان هوكني مع الفنانين (روي لشنتشتاين Roy Lichentechtin وأندي وارهول Andy Warhol). وُلد الفنان «هوكني» في التاسع من تموز عام 1937 في بريطانيا. ذاع صيته في ستينيّات القرن الفائت بفضل لوحاته غير التقليديّة، المجزأة صورها لإعادة تركيبها (فوتوكولاج). هو فنان متعدّد المواهب؛ شاعر وكاتب وحفار ومصمّم أزياء ومصوّر فوتوغرافيّ بارع، حصل على جوائز عدّة في هذا المجال، استعمل صوره الفوتوغرافيّة في لوحاته بمفهوم جديد. أُنتدب من قبل أهمّ الشركات المتخصّصة في برمجة الكومبيوتر لتصميم برنامج للرسم.

درس في كليّة الفنون في لندن في الأعوام (1953 - 1957) ثمّ الأعوام (1959 - 1962).

أسّس مع الفنانين «ديرك بوشيير» Derick Boschier، «كيتاج» Kitaj، «آلان جونز» Alan Jones و«بيتر فيليبس» Peter Phylips جماعة «لندن سونينغ» Swining London. آمنوا بارتباط الفن بالحياة اليوميّة.

كانت شخصيّة «هوكني» استفزازيّة جريئة ومتحدّية للتقاليد. هو رائد في الـ«بوب آرت» Pop Art بنسخته البريطانية. توسّعت نشاطاته لتشمل الطباعة وصناعة الأفلام وتصميم المسارح والتصوير الفوتوغرافيّ والإلصاق بالصور (الكولاج) والفوتو- مونتاج Photomontage ضمن مواضيع كالطبيعة الصامتة وصور أشخاص. في أعماله إعادة للقطة الكاميرا وللمشهد المصوّر حيث يقوم بتقسيم صورة الـ«بولارويد» Polaroid لإعادة تركيبها في صورة جديدة تعطي إحساساً بأنها تتحرّك، يُذكّرنا هذا الشيء بالعمل التكعيبيّ.

من أقواله في الفن: «الفن يُحرّك؛ إذا كنا بصدد تغيير العالم والصور يجب أن تتغيّر...». و«ما الذي يسعى إليه الفنان وهو يُحوّل الناس الذين يقبض عليهم بصريّاً إلى أشياء؟ الإنسان لا يرغب في أن يكون فناناً إلا إذا أراد أن يستولي على جزء من الجنة، أو على جزء من فكرتها...».

كان كثير الترحال، فزار دولاً عدّة في العالم من بينها باريس ومصر وبيروت وهاواي وألمانيا واليابان.

عرف هوكني في الستينيّات شهرة لم يضاهيه بها أحد. هو رسّام واقعيّ تغلب السيرة الذاتيّة على أعماله، تتصل بحياته وحياة أصدقائه. استعمل آلات الـ«فاكسيميلي»، في عمله، ونشر كتابين، أحدهما سيرة ذاتيّة والآخر عن التقنيّات الفنيّة.

استلهم معظم لوحاته من سماء جنوب كاليفورنيا الزرقاء (التي استقرّ فيها بعد مجيئه إلى أميركا عام 1961) ومناخها المُشمس وسكانها المولعين بحمامات السباحة وأساليب الحياة الباحثة عن المتعة والسعادة. يستعمل المساحات الكبيرة ذات الألوان القويّة. أُعجب بأعمال عدد من الفنانين الكبار أمثال بيكاسو، راوول دوفي، ماتيس وفراغونار. وُصف بفنان السحر والذكاء، يعود الفضل في ذلك، أسلوبيّا، إلى الفنان «كيتاج» Kitaj وخاصّة في أعماله القديمة.

لم تكن تعنيه المادّة التي يرسم بها بقدر ما كانت تعنيه الإجابة عن السؤال حول كيفيّة رسم الوجوه؟

زاوج في رسومه بين الأهرامات وشكل النخلة. أظهر منذ مطلع حياته ميوله المثليّة، وكان غريباً في مظهره وسلوكه. شدّد على رسم الرجال. عمله المعنون «نحن صبيّان متعانقان» We Two boys together clinging مستوحى من قصيدة الشاعر الأميركي «والت ويتمان» Waly Whitman الذي ارتبط شعره بالاتجاهات المثليّة. تأتت مصادر أفكاره من فنانين سابقين ومعاصرين له أمثال «بول كلي»، «راوول دوفي» و«فرنسيس بيكون». وقد أُعجب كثيراً بالفنان «وليام بليك» المعروف بارتباطه بالمواضيع الميتولوجيّة.

ظهر عنصر المدينة في أعماله المستعادة من الذاكرة متأثراً بالفنانين «بالتوس» Balthus و«إدوارد هوبر» Edward Hopper و«موراندي» Morandi، ورسم نفسه مع المهاتما غاندي.

سيطرت على أعماله أشكال ذكوريّة إيروتيكيّة عارية كرمز للطاقة والقوّة لاقت استحسان مثليي الجنس.

تأثر بأعمال الفنان «أنغر» Ingres، قاده هذا الشيء إلى التساؤل حول احتمال استعمال «أنغر» للكاميرا الشفافة التي هي عبارة عن موشور صغير من الزجاج يمكن تعليقه بجانب اللوحة أثناء الرسم (هذه التقنية كان دافنشي قد أشار إليها بكتاباته). صرّح «هوكني» بأنه قام بتكبير لوحة لأنغر فوجدها تشبه لوحات الفنان «أندي وارهول». أدّت أبحاثه إلى الاستنتاج أنّ عدداً كبيراً من الفنانين القدامى بدءاً بـ«جان فان آيك» منتصف القرن الخامس عشر مروراً بـ«فرمير» في القرن السابع عشر وصولاً إلى «أنغر» قد استعملوا العدسات والإسقاطات لإضفاء لمسة أكثر واقعيّة على أعمالهم، واعتبر هذا الشيء نوعاً من الخداع والغشّ في الرسم؛ ففان آيك يستحيل عليه أن يرسم الثريّا بتلك الدقة المعقدة من دون الاستعانة بعدسة. استعمل فان آيك مرآة مقعّرة، وليس من باب الصدفة أنّ مرآة محدّبة رسمت في لوحة «فان آيك» (زواج أرنولفيني 1434)، وكان الفنان قد ذكر ذلك في كتابه «المعرفة السرّيّة: إعادة اكتشاف التقنيّات الضائعة لكبار الرسامين القدامى». انتقلت هذه التقنيّة إلى إيطاليا فيما بعد ثمّ إلى كلّ أنحاء أوروبا. وافق البعض على آراء الفنان هوكني، وهاجمه البعض الآخر واتهموه بأنه شخص ضئيل المقدرة يحاول إنزال كبار الرسامين القدامى إلى مستواه الأقلّ شأناً. حصلت النقاشات على شبكة الـ«بي بي سي» BBC الأميركيّة ضمن برنامج بثته تلك القناة.

أثارت هذه النظريّات جدلاً واسعاً بين المهتمّين؛ هاجم البعض آراءه ودحضها.

الصورة في عمل هوكني هي الأساس إلا أنّ الفكرة هي الأهم حين تحمل اللوحة مضامين فنيّة وعاطفيّة.

من أقواله: «أرسم ما أرغب برسمه، وعندما أرغب به، وحيثما أرغب». يُذكّرنا هذا القول بقول لبيكاسو: «طالما أني أستطيع أن أرسم اليد كما رسمها رفاييل، فإني أستطيع أن أرسم ما أريد وكما أريد».

يُفهم هوكني في مجاله كفنان تقليديّ. في النهاية، لا يقوم اقتراحه على خلق منطوق لغويّ تصويريّ مقروء ومفهوم تحت علامة التشخيصيّة الجديدة. الصور هي علامات تصويريّة وفي بعض الأحيان ساخرة وكاريكاتوريّة. ما يُميّز عمله هي العلامة أو الرابط بين التصوير (استعمال اللون) والكتابة، لعبة التناوب بين اللون المصوّر في التقنيّة المنوّعة وخشونة القماشة ورغبة روائيّة واضحة. عمله المعنون «طيران باتجاه إيطاليا- منظر سويسريّ» Vol vers l`Italie- paysage Suisse هو قصّة رحلة بالسيّارة مع أصدقائه، رحلة قصيرة جاءت بناءً على رغبته. هوكني هو رسّام Dessinateur بارع، ظهر هذا الشيء في أعماله في مرحلة الشباب.

منذ منتصف الستينيّات أصبح رسمه أكثر واقعيّة، تخلى عن الخشونة التي وسمت أعماله في السنوات الأولى. أعمال هوكني تدعو إلى التمتّع بملذات الحياة، مليئة بضوء الشمس... وبالسخرية.

استخدم الآلات الكثيرة في تنفيذ أعماله، مجرّباً وسائل تكتولوجيّة غير مألوفة بالرسم، فمن استخدام البلاستيك المستقطب مروراً بأجهزة الفاكس إلى الـ«آي فون» الذي يُتيح له استخدام أصابعه في الرسم الـBrushes وهو مزوّد بخيارات عديدة للتحكّم بسمك الخطوط ونوعيّتها وألوانها. ويستخدم أيضاً الكمبيوتر لأنه يسمح له بتكثيف الوقت إلى حدّه الأدنى، فالعمل معه قد يستغرق الثواني القليلة بدل الساعات المطلوبة للمواد الأخرى.

يرفض الفنان الشهرة وبوصفه أنه أعظم رسام في العالم على قيد الحياة معلقاً على ذلك بالقول أنه «كلام صحف» لا يشغلني.

احتفلت به أميركا قبل بلده الأمّ انكلترا. بيعت لوحاته في أشهر المزادات بمبالغ كبيرة.

* د. يوسف غزاوي

تعليقات: