يوسف غزاوي: ما بعد الإنسان - التحوّل نحو الحيوان والآلة


ضمن سلسلة عالم المعرفة صدر كتاب للباحثة «روزي بريدوتي» تحت عنوان «ما بعد الإنسان»، ركّزت فيه على النقاش الدائر حول نظريّات ما بعد الإنسان، لتكشف عن البيئة غير الطبيعيّة للإنسان في زمن بدأت فيه الفروقات بين الإنسان واللإنسان في الاضمحلال، وقد سبق إن عرضنا في مقالة سابقة معنى مفهوم ما بعد الحداثة، وما حملته للبشريّة من تحوّلات راديكاليّة خطيرة، لتكمل الـ«ما بعد» حضورها وتدميرها. وقد تحدّثنا عن أثر ما بعد الحداثة في الفنون التشكيليّة، أمّا هنا فسنقصر حديثنا عن أثر هذه الـ«ما بعد» على الإنسان من خلال الإطلالة على علاقته بالحيوان والآلة كما عرضته الباحثة في كتابها.

تبدأ بريدوتي كتابها بطرح أربعة مشاهد قصيرة في مقدّمة الكتاب؛ تذكر في المشهد الأوّل المجزرة التي قام بها صبيّ فنلنديّ في هلسنكي الذي أدّت إلى مقتل ثمانية أشخاص، ثم انتحاره. لتعرّج على وضع الإنسانيّة الحرج، بل حتى القريب من الانقراض، الذي يُعدّ فكراً مهيمناً على الفلسفة الأوروبّيّة منذ أن أعلن نيتشيه «موت الله» ومفهوم الإنسان الذي بُني عليه. ما أكّده نيتشه هو موت ذلك الفكر الذي يرى في الإنسان الأوروبيّ ذاتاً مستقلّة وثابتة ميتافيزيقيّة وكونيّة... المشهد الثاني تتحدّث فيه عن الأبقار في المملكة المتحدة وأجزاء من الاتحاد الأوروبّيّ تتغذى بالعلف المكوّن من اللحوم.. عندما بدأ ممارسات لتسمين الأبقار والأغنام والدجاج عن طريق إطعامها العلف الحيوانيّ. ممارسات أدّت لأمراض قاتلة منها «مرض جنون البقر»، ولا شكّ هنا أنّه جنون البشر والصناعات التكنولوجيّة البيولوجيّة التي احترفوها.. أمّا المشهد الثالث منه فيُركّز على تأثير التكنولوجيا في تطوير سلطة الموت عبر استخدام «الدرونز» للقضاء على الرئيس الليبيّ معمّر القذافيّ.

ثمّ تطرح أسئلة تريد تناولها في كتابها: ما هو ما بعد الإنسان؟ وبالأخصّ، ما المسارات الفكريّة والتاريخيّة التي قد تقودنا إلى ما بعد الإنسان؟ إلى أين تترك فلسفة ما بعد الإنسان الإنسانيّة؟ كيف يولد ما بعد الإنسان أنماطه اللإنسانيّة؟ كيف يمكن أن نقاوم الجوانب اللإنسانيّة وغير الإنسانيّة في عصرنا؟...

علاقة الإنسان بالحيوان قديمة، فالـ«إنسان حيوان ناطق» كما تقول قوّة المنطق. صنّف لويس بورخيس الحيوانات إلى ثلاث مجموعات: تلك التي نشاهد التلفزيون معها، وتلك التي نأكلها، وتلك التي نخاف منها. ظهرت في الثقافة المعاصرة قيمة ترفيهيّة لشخصيّات غير بشريّة، بدءاً من «كينغ كونغ» إلى المخلوقات الزرقاء الهجينة في «أفارتار»، ولا يجب أن ننسى الديناصورات النجوم في «الحديقة الجوراسيّة» لسبيلبيرغ.

لقد شكّلت الحيوانات منذ العصور القديمة نوعاً من بروليتاريا حيوانيّة في تسلسل هرميّ للأنواع التي يديرها البشر. لقد استغلوا في العمل الشاق، كعبيد طبيعيّين ودعم لوجستيّ للبشر قبل العصر الميكانيكيّ وأثناءه. علاوة على ذلك، فإنّها تشكّل مورداً صناعيّا في حدّ ذاتها، حيث تُعدّ أجسادها منتجات مادّيّة أساسيّة تبدأ من اللبن ولحومها الصالحة للأكل، لكن لا ننسى أيضاً أنياب الأفيال، وجلود معظم المخلوقات، وصوف الأغنام، وزيت ودهون الحيتان، وحرير اليرقات... الخ، حيث توفّر الحيوانات موادّ حيّة للتجربة العلميّة.. الحيوانات كالخنازير والفئران تُعدّل وراثيّا لإنتاج أعضاء للبشر في تجارب زراعة الأعضاء الغريبة.. أصبح الفأر أونكو والنعجة دوللي جزأين من التاريخ. في الرأسماليّة المتقدّمة، حُوّلت الحيوانات إلى أجساد قابلة للتداول والاستغلال (حتى الجنسيّ منه!).

في ذروة الحروب الباردة، عندما أُطلقت الكلاب والقرود في المدار كجزء من برامج استكشاف الفضاء الناشئة والمنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة الأميركيّة والاتحاد السوفياتي، صرّح جورج أورويل بسخرية بأنّ «جميع الحيوانات متساوية، ولكنّ بعضها متساوٍ أكثر من غيرها».

لقد أُستنسخت النعجة دوللي، ولم تولد نتيجة لتواصل جنسيّ، وهي خليط غير متجانس من الكائن الحيّ والآلهة... وحيث أنّ دوللي نسخة صُنعت في غياب نسخة أصليّة واحدة، فإنّها تدفع بمفهوم الصورة الزائفة لما بعد الحداثة إلى أقصى درجاته. وتحوّل حبل العذراء إلى نسخة مهندسة وراثيّا تابعة للقرن الثالث. تصل المفارقة إلى حدّ مثير للشفقة عندما نتذكّر أنّ دوللي ماتت من مرض عاديّ ومألوف للغاية: الروماتيزم. وبعد ذلك، ولرش الملح على الجرح، عانت من إهانة أخيرة حيث حُنّطت وعُرضت في متحف علميّ كندرة علميّة. تنتمي دوللي، والكلام دائماً للباحثة، في وقت واحد للقرن التاسع عشر، وتضرب أيضاً على وتر حسّاس مع القرن العشرين كونها من مشاهير الإعلام. دوللي قديمة ومفرطة الحداثة في الوقت ذاته.

إنّ هذا الكيان الذي لم يعد حيواناً ليس بعد آلة بالكامل، هو أيقونة حالة ما بعد الإنسان.. وكذلك فأر أونكو للتجارب هو في مرحلة ما بعد الإنسان بكلّ معنى الكلمة. لقد صُنِع لغرض تحقيق الربح عبر المتاجرة به بين المختبرات والأسواق.. هو ضحيّة وكبش فداء، شخصيّة شبيهة بالمسيح تُضحّي بنفسها من أجل العثور على علاج لسرطان الثدي، ومن ثمّ إنقاذ حياة العديد من النساء: حيوان ثدييّ يُنقذ الثدييات الأخرى..

إنّ ما ذكرته الباحثة تراه علاقة متبادلة بين الإنسان والحيوان باعتبارها مكوّنة لهويّة كلّ منهما. إنّ علاقة تحويليّة أو تكافليّة تعمل على تهجين «طبيعة» كلّ واحد منهما وتغييرها..

إنّ ما بعد الإنسان، بحسب الباحثة، لا يعني حقّا نهاية الإنسانيّة، إنّه يشير بدلاً من ذلك إلى نهاية مفهوم معيّن للإنسان..

تتحدّث الباحثة عن موت الإنسان (الرجل) وتفكيك المرأة. تقول أنّها نشأت فكريّا مع نظريّات حول موت الله (نيتشه)، ونهاية الإنسان/ الرجل (فوكو)، وانحلال الأيديولوجيّات (فوكوياما). ترى أنّ العلمانيّة تُعيد قمع المرأة واستبعادها من المجال العام للمواطنة والسياسة العقلانيّة. تتحدّث عن الروبوتات كآلة ودرجة استقلالها الذاتيّ التي توصّلت إليها هذه الروبوتات. أصبح من الممكن تقنيّا، ومن خلال الروبوتات، الاستغناء عن الإنسان لاتخاذ القرارات على المستويين التشغيليّ والأخلاقيّ. هذا دون أن نتكلّم عن الإنسان الآليّ (إنسان مكوّن من أشياء عضويّة وأخرى آليّة) الذي تعتزم النازا إرساله إلى الفضاء ليحلّ مكان الإنسان البشريّ، كون الآليّ لا يحتاج إلى الأوكسيجين للتنفّس. ووفق هذا التقرير، سيتغيّر دور الإنسان من صانع القرار إلى مشغله، فيُراقب الروبوتات المسلّحة والعاملة في عملها عوضاً عن التحكّم بها..

تذكر الباحثة الرجل الفيتروني لدافنشي وكذلك المرأة الفيترونيّة الجديدة لتتحدّث عن النظريّة النسويّة ولا سيّما ما بعد الحداثة منها كنقد راديكاليّ للكونيّة الذكوريّة.. تذكر الشكل المثير للسخريّة الذي يشير إلى الرجل الفيتروني لدافنشي الذي نُقش على فنجان قهوة ستارباكس والذي يرمز إلى الطابع الممتع لعلاقات ما بعد الإنسان التي أنشأها رأس المال العالميّ: «أنا أتسوّق، إذاً، أنا موجود!» قد يكون شعاراً جيّداً لها.

إنّ أدبيّات النظريّة الاجتماعيّة حول القلق المشترك من مستقبل كل من جنسنا وتراثنا الإنسانيّ غنيّة ومتنوّعة أيضاً. والمفكّرون الليبراليّون المهمّون مثل هابرماس والمؤثّرون مثل فوكوياما واعون للغاية لهذه المسألة، وكذلك الحال بالنسبة إلى النقّاد الاجتماعيّين مثل سلوتيرديك وبورادوري. فهم يُعبّرون بطرق مختلفة عن قلقهم العميق لحالة الإنسان. ويبدو أنّهم بشكل خاص في حالة من الذعر الأخلاقيّ والإدراكيّ تجاه احتمال تحوّل ما بعد الإنسان، ويلومون نقنيّتنا المتقدّمة على ذلك.

بعض رسوم الكاريكاتور الساخرة صوّرت التحوّل الجوهريّ بين الإنسان والحيوانات حيث الأخيرة منتصبة مثل الرجل الفيترونيّ لدافنشي، فتتحوّل القطّة، أو الكلب، مقياساً لكلّ شيء!

* د. يوسف غزاوي

فنان تشكيليّ وباحث

تعليقات: