الدولار الجمركي والهلع العمومي: مزيد من غلاء الأسعار والفوضى

اجتاحت الأسواق موجة هلع تُرجمت بتهافت المواطنين على شراء السلع (المدن)
اجتاحت الأسواق موجة هلع تُرجمت بتهافت المواطنين على شراء السلع (المدن)


يصرّ المعنيون بملف الدولار الجمركي على الترويج لـ"خديعة" عدم تأثير إقرار الدولار الجمركي على معيشة الفقراء والفئات الضعيفة، باعتباره لن يشمل المواد الغذائية والأساسية والأدوية، متجاهلين عجزهم عن ضبط فوضى السوق ولجم تجار الأزمات عن ممارسة شتى أنواع الحيل والمخالفات لتحقيق أرباح إضافية.

شغل وزير الاقتصاد وزميله وزير المال وراعي حكومتهم نجيب ميقاتي اللبنانيين بالبحث والتمحيص عما هي "المواد الأساسية" المعفية من الدولار الجمركي، أو من الكماليات التي ستخضع لرسم جمركي يُحتسب على سعر صرف 20 ألف ليرة للدولار وربما أكثر. ينشغلون بتشكيل اللجان ووضع لوائح المنتجات المعفية من رسم الدولار الجمركي، وهم يعلمون علم اليقين أن لا التجار سيتلزمون ولا الجهات الرقابية تمتلك القدرة للجمهم.


هلع في الاسواق

قرّرت حكومة تصريف الأعمال رفع قيمة الدولار الجمركي من سعره الحالي الرسمي 1500 ليرة إلى 20 ألف ليرة لبنانية، مع احتمال تعديل هذا الرقم نظراً لمعارضته من قبل أعضاء الحكومة نفسها. لكن وبصرف النظر عن السعر الذي سيتم اعتماده لاحتساب الدولار الجمركي، فإنه من دون شك لم ينتج عن تصور واضح لإجراءات إصلاحية متكاملة، بل أتى مجتزءاً على غرار كافة الملفات الحيوية.

قبل حسم مسألة الدولار الجمركي وسعره، اجتاحت الأسواق موجة هلع تُرجمت بتهافت المواطنين على شراء السلع الأساسية منها وغير الاساسية، تجنّباً لارتفاع أسعارها لاحقاً بعد رفع الدولار الجمركي. وعلى الرغم من تطمينات وزير الاقتصاد المستمرة بأن الدولار الجمركي لن يشمل السلع الأساسية، وتأثير الدولار الجمركي "سيكون ضئيلاً جداً جداً جداً" (على حد تعبيره) إلا أن تجارب اللبنانيين منذ بداية الأزمة، واختبارهم جشع التجار واستغلالهم للأزمات وعجز السلطات الرقابية عن ضبطهم وحماية المستهلك، كل ذلك دفع بهم إلى تموين ما تيسّر لهم من حاجياتهم قبل ارتفاع سعرها.


فوضى الاسعار

منذ أشهر وتزامناً مع بداية الحديث عن الدولار الجمركي، بادر التجار إلى استيراد المزيد من البضائع وتخزينها. وحسب مصدر تجاري لـ"المدن" فإن الاستيراد تضاعف في الأشهر الأخيرة، علماً أنه لم يتراجع منذ بداية الأزمة. إذ تبلغ قيمة المستوردات نحو 20 مليار دولار في العام الفائت. وهي القيمة نفسها التي بلغتها منذ ما قبل الأزمة، ما يعني أن حجم الاستيراد لا يعكس وجود أزمة اقتصادية مالية في البلد.

أما عملية التسعير فتعود للتجار أنفسهم دون سواهم، ولا قدرة للأجهزة الرقابية على ضبط أسعار السوق، بدليل أن لدى السلعة نفسها أسعاراً متعدّدة في مناطق ومحال مختلفة، ويسأل المصدر: ما الذي سيمنع التجار من رفع أسعار كافة السلع من دون استثناء؟ وإذا كانت الأجهزة الرقابية عاجزة عن ضبط سعر الخبز، فكيف بها أن تضبط أسعار مئات السلع وربما الآلاف؟


السلع الأساسية والكماليات

وحسب معلومات "المدن" فقد شكّلت حكومة تصريف الاعمال لجنة مشتركة من وزارتي المال والاقتصاد وممثلين عن التجار والمستهلكين والمستوردين والهيئات الاقتصادية، للعمل على وضع جداول للسلع الغذائية والأساسية المعفية من الدولار الجمركي.

وتقوم اللجنة بتحديد السلع الأساسية المعفية، والكماليات التي سيتم احتسابها بسعر الدولار الجمركي الجديد. فتعتبر من المواد الغذائية الأساسية أو المعفية من الدولار الجمركي الحبوب بمعظم أصنافها والألبان والأجبان البيضاء فقط، وليس الأصناف الأجنبية، والمأكولات اليومية كالزيت ببعض أصنافه والسكر والرز وغيرها، بالإضافة إلى بعض أصناف مواد التنظيف الشخصي والمنزلي وغير ذلك.

مسألة تحديد الكماليات وإعفاء المواد الأساسية من الدولار الجمركي تُعد فضفاضة وتحمل العديد من الثغرات. فمن يقرر أي مواد تنظيف ستكون معفية وأيها من الكماليات؟ ومن يقرر أيضاً أي أصناف من الرز على سبيل المثال سنكون معفية وأيها من الكماليات؟ والسؤال عينه يسري على الجبنة واللبنة والحليب والسكر وحتى على الحبوب وكافة المواد الغذائية.


حلول ترقيعية

ببساطة تقوم السلطة باعتماد الدولار الجمركي كواحد من الحلول الترقيعية غير المستدامة. وهذا ما وصفه رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو في حديث إلى "المدن" بـ"الهروب من الواقع" فرفع الدولار الجمركي لن يأتي بالنتيجة المتوقعة، إنما سينتج عنه المزيد من الفقر والتضخم وغلاء الأسعار والفوضى.

من خلال التجارب السابقة وفي ظل استمرار الاستيراد المجنون، لن تتمكن الدولة من ضبط الأمور. أما الحل النهائي، فيرى برو أنه يبدأ من زيادة الإنتاج وصوغ حلول نهائية وليس ترقيعية "فالأزمة تحتاج إلى عملية جراحية بالعمق وليس بالقشور".

وليس وضع الأسواق اليوم خافياً على أحد. فالفوضى شاملة وضبطها صعب، أما الدولة التي كانت تعمل قبل الانهيار بكافة طاقاتها، لم تتمكن من لجم مصالح التجار والمصارف والمنتفعين سياسياً، فكيف بها اليوم أن تنجح بتنظيم وضبط السوق، وهي تعمل بـ10 في المئة فقط من طاقاتها؟

تعليقات: