كلنا للوطن، للعلى للـ علم

جاريتُ الدركي إشاراته وتنبيهاته وأنا أتأمل لبنان عبر تلك الأعلام الرثة
جاريتُ الدركي إشاراته وتنبيهاته وأنا أتأمل لبنان عبر تلك الأعلام الرثة


منذ أيام خلت كنت مغبة إنجاز بعض المعاملات الإدارية في بعض المؤسسات الرسمية في بيروت وبعبدا. قبل الشروع بهذه ال mission impossible زيّنتُ لنفسي أن أتمتّع بصبر أيوب وعدم الوقوع في حبائل الغيظ "لأن الغيظ يقتل الغبي" كما جاء في سفر أيوب الذي، بنهاية الأمر، يقع مقامه في بلدتي نيحا الشوف فوق تلة تشرف على منزلي بشكل صريح.

آليتُ على نفسي أن أستوعب مقام الصد الذي قد أتعرّض له من قِبل هذا الموظف أو ذاك وأن أتشبّث بابتسامتي الوديعة الى حين إنجاز تلك المعاملات.

لا أخفي أن تلك المهمة الشاقة نالت من تقاسيم وجهي وأودتْ بهذه التقاسيم إلى التهدّل والإرتخاء، لكن هذا لم يحل دون التمسّك بابتسامتي البلهاء وملاقاة موظفي الإدارة بكل ضروب الرواق.

بيد أن ثمة ما شدّ نظري في تلك الجولة الشاقة في وادي جهنم... الأعلام، تلك الأعلام اللبنانية المرفوعة فوق أو أمام تلك الدوائر والمؤسسات.

يقول الروائي الأميركي هنري ميلر: "... إن لدينا علمين أميركيين، واحد للأغنياء وواحد للفقراء. عندما ينشر الأغنياء علمهم فهذا يعني أن كل شيء تحت السيطرة وعندما ينشر الفقراء علمهم فهذا يعني الخطر والثورة والفوضى". كنت أتحسس طريقي في أروقة إحدى الدوائر وأنا أعيد على نفسي ما قد خطّه ميلر منقباً في أروقة ذاكرتي، إذا ما كان الروائي الأميركي المذكور قد تطرق في كتابه ذاك إلى نمط آخر من الأعلام، تلك الأعلام الممزقة المهلهلة والتي هي أقرب إلى خرق جدباء فوق دوائرنا الحكومية المهلهلة بدورها، وكأني بهذه الخرق التي تحمل الأرزة وتلك الألوان الحمراء والبيضاء لا تتعدّى أن تكون مجرد انعكاس لتلك الدوائر والمؤسسات.

يخبرنا تاريخ هذا البلد أنه فجر الخميس ١١ تشرين الثاني من العام ١٩٤٣ قامت مفرزة من قوات الإنتداب الفرنسي باعتقال كبار رجال الدولة اللبنانية: رئيس الجمهورية بشارة الخوري، رئيس مجلس الوزراء رياض الصلح والوزراء سليم تقلا، كميل شمعون وبوقت لاحق عادل عسيران ونائب طرابلس عبد الحميد كرامي وساقتهم إلى قلعة راشيا، وقد نجا من فعلة الفرنسيين تلك الوزيرين حبيب أبي شهلا ومجيد أرسلان. وعلى إثر هذا الحادث قام آنذاك رئيس مجلس النواب صبري حمادة بتوجيه دعوة للمجلس للإجتماع حيث حضر فضلاً عن رئيس المجلس، النواب السادة هنري فرعون، صائب سلام، مارون كنعان، محمد الفضل، رشيد بيضون وسعدي المنلا، وقد رفع هؤلاء مذكرة احتجاج ضد سلوك سلطات الإنتداب الفرنسي صير إلى تهريبها من داخل البرلمان عبر حذاء مرافق صبري حمادة الذي خرج من المجلس النيابي متجنباً القوة السنغالية التابعة لسلطة المندوب السامي والتي كانت قد طوقتْ المكان، ليصار بعدها إلى رفع مذكرة الحذاء تلك إلى البعثات الأجنبية العاملة في لبنان وعلى رأسها البعثة البريطانية والأميركية والسوفياتية.

إن العلم اللبناني كما نعرفه اليوم صير إلى رسمه في تلك الجلسة البرلمانية عبر النائبين هنري فرعون وسعدي المنلا، وقد جرت الموافقة عليه من قِبل رئيس المجلس وبقية النواب عبر التوقيع عليه وفي التالي من الأيام صير إلى تعديل دستوري أُقرّ بموجبه هذا العلم بدلاً عن علم دستور سنة ١٩٢٦ والذي يحاكي علم فرنسا وكان ذلك في ٣٠ تشرين الثاني من العام ١٩٤٣ ونشره رئيس الجمهورية في ٧ كانون الأول.

كان علم هنري فرعون وسعدي المنلا كما شاهدته فوق وأمام المؤسسات الرسمية التي كان عليّ متابعة معاملتي الإدارية فيها، أقرب إلى لسان متدل من فم رجل عجوز يبرطم بكلمات حول جهنم هي بمثابة تعويذة نحس. في بعض هيئته كان العلم اللبناني أمام تلك الدوائر القاحلة أشبه بقماش رث لبيجاما يرتديها عجوز مسكين يحاول اللجوء، وقد تخلى عنه الجميع.

غالباً ما تحيلني الذاكرة لدى مشاهدتي خرق وهلاهيل تلك الأعلام الباهتة الألوان والمتراخية فوق دوائرنا الرسمية، إلى بيجاما رجل عجوز متشرّد فوق أرصفة التاريخ والجغرافيا، ولطالما حاولتُ الربط بين كل من المشهدين، لكن الحيلة لم تسعفني يوماً حيال هذا الربط على الرغم من لجوئي إلى بعض أهل الاختصاص في الذاكرة والتذكر والتداعي الحر مثل فرجينيا وولف وغابرييل غارسيا ماركيز وبشكل خاص مارسيل بروست، وعذراً لهذا الاستطراد الذي لا مهرب منه، فالأدب بوصلتي الأدق في قراءة وفهم هذا العالم الهش.

كنت أعمل على ارتشاف ما تبقى من عصير بارد بسبب حر آب اللهّاب، وأتأمل واحدة من تلك الخرق التي تحمل بقايا أرزة وشحوبة ألوان، لما الفضول شدّني أمام إحدى الدوائر لأسأل دركياً هو بمثابة عنصر حراسة عند مدخل تلك الدائرة، لأسأله عن ذلك العلم الممزق... لماذا لا يصار إلى استبداله مثلاً، وكنت عبر هذا السؤال أشبه بمتطفل على جنازة. لم يجبني الدركي بنأمة حرف إنما لخّص كل الوضع عبر رفع خدّه الأيسر، ثم تنبيهه إياي إلى بلاهة سؤالي من خلال اشارات سخرية أتى بها رأسه، وكأني بهذا الدركي على دراية تامة بفحوى الإشارات والتنبيهات.

جاريتُ الدركي إشاراته وتنبيهاته وأنا أتأمل لبنان عبر تلك الأعلام الرثة، المهلهلة، الشاحبة والتي هي على وشك الهرهرة والسقوط والتبدّد. وضعت زجاجة العصير في مكب للنفايات وأنا أتوسل خمبابا، حارس غابة الأرز في ملحمة جلجامش، أن لا يسمح للحشرات من ديدان وغيرها بنخر أرزاتنا أكثر والوصول بها إلى الهلاك.

... أما بالنسبة إلى تلك المعاملات التي كان عليّ إنجازها، فقد أعيتني الحيلة حيالها ولم أنجح بلكمة توقيع موظف واحد أو حتى برفسة ختم، وكنت أثناء عودتي إلى البيت أردّد مع ابن بلدتي، أيوب النبي، ما جاء في سفره العظيم: أهوالُ اللهِ مصطفّة ضِدّي.


تعليقات: