فدائي شعفاط يعكس المعادلة: ما بعد التميمي ليس كما قبله

تفاخَر الفلسطينيون بالشهيد وشجاعته وشراسته في القتال والاقتحام (أ ف ب)
تفاخَر الفلسطينيون بالشهيد وشجاعته وشراسته في القتال والاقتحام (أ ف ب)


هو شيء غير مسبوق وغير متوقَّع ربّما. أن يتخفّى عديّ التميمي، بعدما قتل مجنَّدة إسرائيلية، لعشرة أيام، ثمّ يعود إلى الظهور لينفّذ عملية إطلاق نار أخرى ويُستشهد على إثرها، فهذا ممّا لم تَخبره المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. لكن الظاهر أن موجة التصعيد الحالية في الضفة الغربية، ستحمل الكثير من المفاجآت، التي يعجز الجيش الإسرائيلي إلى الآن عن استشرافها واستباقها وإحباطها، فضلاً عن منْع تسلسلها. عجزٌ إنّما يجلّي حالة الانسداد التي بلغها العدو في الأراضي المحتلّة، حيث لا تؤدّي إجراءاته العقابية إلّا إلى مزيد من العمليات، فيما خيار الاجتياح الواسع لا يبدو متاحاً بالنظر إلى كلفته المحتمَلة. وأمّا العودة إلى إغراء الفلسطينيين بالمسار السياسي، فلا تَظهر مضمونة النتائج هي الأخرى، فضلاً عن أنها غير واردة إسرائيلياً خصوصاً وسط الاستقطاب المتزايد عشيّة الانتخابات. وإذ يتخبّط الكيان العبري في ما بين هذه الخيارات من دون أن يقدر على إيجاد سبيل للخروج من دوّامتها، وتتعالى صرخات مستوطِنيه غضباً من إخفاقه في حمايتهم إلى حدّ اعتداء بعضهم على جنود الجيش، يستبشر الفلسطينيون بفعْل عديّ ورافقه من الفدائيين، مستلهِمين منهم مزيداً من الإصرار على مواجهة الاحتلال، والتي ليس أمامهم أصلاً من طُرق سواها، في ظلّ جملة ظروف موضوعية تراكمت بعضها فوق البعض، لتؤيسهم من أيّ احتمال آخر، وتُحفّزهم على الانتفاض لحفْظ ما تبقّى لهم



ما بعد التميمي ليس كما قبَله | فدائيُّ شعفاط يعكس المعادلة: نحن مَن نطارد العدو

أحمد العبد

رام الله |

على مدار عشرة أيّام، عاشت المنظومة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية على رِجل واحدة، مدفوعةً بهستيريا ولّدها فشلها في العثور على الشاب عديّ التميمي، الذي اقتحم حاجز شعفاط في الثامن من تشرين الأول، وهاجم جنود العدو، وقتل مجنَّدة قبل أن ينسحب بسلام. وبينما كانت دولة الاحتلال تُوظّف كلّ إمكاناتها الأمنية والاستخبارية والتكنولوجية للوصول إلى التميمي، ومحْو آثار الصفعة التي وجّهها إلى جيشها، كان الأخير يعيش كـ«النيص» في مدينة القدس، ويخطّط ليهاجم كـ«البرغوث»، بمسدّسه الشخصي، مستوطنة «معاليه أدوميم»، درّة المشروع الصهيوني في المدينة، مُمزّقاً هيبة الردع والأمن الإسرائيليَّين، وصافعاً مرّة أخرى منظومة بدت مجدّداً «أوْهن من بيت العنكبوت». ورسم التميمي، خلال أقلّ من أسبوعَين، ملامح جديدة للاشتباك، قد تكون إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من المقاومة في الضفة الغربية، أساسها الأوّل أن الفدائي المقاوم بات هو مَن يطارد قوات الاحتلال ويلاحق مستوطِنيه ويكمن لهم، والعكس غير صحيح، إذ استطاع عدي توجيه ضربة مزدوجة إلى العدو: الأولى باقتحامه حصناً أمنياً حسّاساً مزوَّداً بكلّ الوسائل التكنولوجية والعسكرية والانسحاب منه من دون خدوش، ومن ثمّ، ثانيةً، التخفّي لفترة زمنية طويلة وتنفيذ عملية أخرى في مكان غير متوقَّع للسلطات الإسرائيلية التي كانت تصبّ بحثها عليه في مخيّم شعفاط، في ما يظهّر قدرة عالية على التمويه والتخفّي.

وسعت دولة الاحتلال، خلال الأيام الماضية، إلى تحقيق إنجاز أمني يُمكنها تسويقه في مقابل ذلك الفشل، واستخدامه في إخفاء العار الذي لحق بجنودها بعدما اختبأوا خلال مهاجمتهم على الحاجز. ولذا، فقد ضاعفَت عدد جنود الاحتياط في القدس، واستنفرت عناصر الجيش والشرطة والأجهزة الاستخبارية لجمع أيّ معلومة قد تُوصل إلى التميمي، كما نشرت الوحدات الخاصة ووحدات النخبة، مع توظيف الوسائل التكنولوجية وأدوات المراقبة والتجسّس والطائرات المسيّرة، وتشديد الحواجز والإغلاقات، وتكثيف الاقتحامات. لكنّ التميمي بدّد كلّ تلك الإجراءات، وبادر إلى شنّ هجوم جديد خاض خلاله معركة شرسة مع عناصر الأمن. هجومٌ بات واضحاً أنه سيترك تداعيات سياسية وأمنية لدى العدو، سرعان ما بدأت بكمّ الانتقادات وتعليقات السخرية التي ساقها المراسلون العسكريون وقادة المستوطنين. وهاجم زعيم الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموطريتش، وزير الحرب بيني غانتس، قائلاً إنه «يبتسم ويسخر، لكنّ الهجمات متتابعة هجوماً بعد هجوم. الحمد لله أن الهجوم الذي وقع الليلة في معاليه أدوميم انتهى أيضاً بمعجزة، بشكل طفيف نسبياً. غانتس يهمل أمن إسرائيل»، بينما قال المراسل العسكري لـ«القناة 14»، هليل بيتون روزين: «سؤال ملزم أن أسأله: كلّ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كانت على قدمَيها للقبض على منفّذ عملية دموية، في النهاية يأتي وينفّذ عملية أخرى، وبعيداً عن المكان الذي ادّعوا أنه يختبئ فيه، كيف يحصل شيء كهذا؟». واتّهم موقع «واللا نيوز» العبري، من جهته، المؤسّسة الأمنية بأنها «مكّنت التميمي من التحرّك من دون معيق، كقنبلة موقوتة»، قائلاً: «في الوقت الذي كان فيه الجيش والشرطة وجهاز الشاباك يبحثون عنه، خطّط مَن قتل المجنّدة نوعا لازر لتنفيذ عمليته الثانية، والتي انتهت بمعجزة بجريح بجروح خفيفة، العملية في مستوطنة معاليه أدوميم جرس تنبيه للمؤسّسة الأمنية للبحث عن طرق جديدة لمحاربة الإرهاب المتزايد في الميدان».


سعت دولة الاحتلال، خلال الأيام الماضية، إلى تحقيق إنجاز أمني يُمكنها تسويقه

وفتحت المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية تحقيقاً في كيفية تمكُّن الشهيد من الهرب، على رغم الحصار الذي كان مفروضاً على مخيم شعفاط، حيث اعتُقد أنه يختبئ هناك، بينما كشفت «القناة الـ12» تفاصيل العملية الثانية، والتي بدأت بعد ملاحظة أحد المستوطنين الذي كان يقود سيارة إلى خارج «معاليه أدوميم»، شخصاً يتحرّك على قدمَيه في اتّجاه الحاجز، ليقوم بإبلاغ الحرّاس عنه. وعلى إثر ذلك، تأهَّب هؤلاء، لكنّ التميمي سارع إلى إطلاق النار من مسدّسه عليهم، وبدأ يقترب من الحاجز عبر الأشجار المجاورة، ليصل إلى مسافة ثلاثة أمتار منه، حيث أراد إصابة أحدهم، ليردّ الأخير بسرعة عليه، ما أدّى إلى سقوط عدي أرضاً، فيما حاول آخر إطلاق النار أيضاً، ولكن إحدى الرصاصات التي أطلقها التميمي أصابت مخزن سلاح أحد الحرّاس خلال الاشتباك، ما أدى إلى تعطيله. وسارع العدو، عقب الإعلان عن العملية، إلى بثّ مقطع مصوَّر لها، لاعتقاده أن ذلك قد يخفّف من حدّة الانتقادات المُوجَّهة إليه على خلفيّة فشله في العثور على التميمي، وقد يسهم أيضاً في إحباط الفلسطينيين وتثبيط عزائمهم، لكن وقْع المقطع المصوَّر كان معاكِساً تماماً، إذ تفاخَر الفلسطينيون بالشهيد وشجاعته وشراسته في القتال والاقتحام.

ومن دون قرار أو سابق إنذار، خرج الفلسطينيون إلى الشوارع في المدن والقرى والمخيّمات، عقب الإعلان عن استشهاد التميمي، لتعيش الضفة الغربية بأكملها ليلة من المواجهات التي بدأت في مخيم شعفاط خاصة، ومدينة القدس عامة، وامتدّت إلى أماكن أخرى. واحتشد آلاف الشبّان أمام منزل عديّ لدعم عائلته، فيما خرجت مسيرات حاشدة من جنين شمالاً إلى الخليل جنوباً، وتَوجّهت إلى نقاط التماس والحواجز العسكرية. كذلك، اندلعت اشتباكات في العيساوية، وسلوان، والنبي صالح، وحوسان، والرام، وجسر حلحول، وباب الزاوية في الخليل، وعند المدخل الشمالي لمدينة البيرة، ومدخل بلدة بيتا، وحوارة، وحاجز مخيم قلنديا، ومخيم الفوار، ومخيم العروب، ونعلين، والعيزرية، والمدخل الشمالي لمدينة بيت لحم. وعلى وقْع هذا الغليان، نفّذ مقاومون عمليات إطلاق نار على الحواجز العسكرية، كان أبرزها إمطار حاجز الجلمة العسكري في جنين بالرصاص والعبوات الناسفة المحلّية الصنع. كما استهدف مقاومون حاجز مستوطنة «بيت إيل» شمال رام الله، وفتح آخرون النار على معسكر «عوفر» المُقام غرب رام الله.

ولم تغَب مجموعة «عرين الأسود» عن المشهد، إذ دعت الفلسطينيين إلى الخروج إلى أسطح المنازل والشوارع للتكبير بعد منتصف الليل - وهي الدعوة التي لاقت استجابة واسعة -، مُتعهّدة بالردّ خلال ساعات على استشهاد التميمي، لتُعلِن بعد ساعات فقط تنفيذ 3 عمليات ضدّ جنود الاحتلال، موضحةً أن مقاتليها استهدفوا قوّة راجلة في محيط نقطة «جرزيم» العسكرية وأمطروها بوابل كثيف من الرصاص، مُحقّقين فيها إصابات. كما كمنت مجموعة أخرى من مقاتليها في محيط حاجز «17» العسكري، لقوّة راجلة من الجنود، وأطلقت النار عليها، مُحقِّقةً أيضاً إصابات مؤكّدة فيها. وقرب بلدة دير شرف التي شهدت الأسبوع الماضي مقتل جندي إسرائيلي، استطاع مقاتلون من «العرين» استهداف مجموعة من الجنود، وأَوْقعوا فيهم إصابات. وبعد ذلك كلّه، حذّرت «الأسود» من أن ردّها لم ينتهِ، وأنها لم تَقُل كلمتها بعد.

وفي ختام ليلة حافلة بالاشتباكات، عمّ الإضراب الشامل مدن الضفة الغربية والقدس وبلداتهما، منذ ساعات صباح الخميس، حداداً على روح التميمي، بينما خرجت الجماهير في مدينة رام الله لتشييع الشهيد الفتى محمد نوري الذي قضى متأثّراً بجروح أصيب بها الشهر الماضي. كذلك، شهدت العديد من مناطق الضفة مواجهات مع قوات الاحتلال، في حين تداول الفلسطينيون وصيّة عديّ وآخر كلماته، التي قال فيها: «أنا المطارَد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط. عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر. أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أُحرّر فلسطين بالعملية، ولكن نفّذْتها وأنا واضع هدفاً أمامي: أن تُحرّك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي».



المستوطِنون يقرّعون جيشهم: مَن لِحمايتنا؟

بيروت حمود

«إن أكثر ما يعرّض إسرائيل للخطر هو غياب التضامن في المجتمع». «منذ سنوات، ليس هناك تهديد وجودي تقليدي على إسرائيل، بينما هناك تهديد وجودي داخلي». «ما يحدث داخل المجتمع الإسرائيلي يهدّد مستقبل إسرائيل». هذا ما قاله رؤساء الأركان الإسرائيليون السابقون، موشيه يعالون، غادي آزينكوت وإيهود باراك، خلال «قمّة الرؤساء السابقين» التي بثّت فعّالياتها «القناة 12» الإسرائيلية ضمن برنامج «أولبان شيشي» (استديو الجمعة) مطلع الشهر الفائت، بمناسبة تعيين هرتسي هليفي رئيساً لهيئة الأركان خلَفاً لأفيف كوخافي. الانقسام والاستقطاب الاجتماعي هما، إذاً، الهمّ الذي يؤرّق هؤلاء. همٌّ سَجّل ليل الأربعاء - الخمس نموذجاً جديداً مصغّراً منه، عندما هاجم عشرات المستوطنين جنود الاحتلال الذين وصلوا لـ«التفريق» في ما بينهم وبين الفلسطينيين في المواجهة التي اندلعت عند مدخل قرية حوارة جنوب نابلس، ما أدّى إلى إصابة أربعة جنود وقائدهم من «الكتيبة 202» في سلاح المظلّيين. ولم ينتهِ الأمر هنا؛ إذ اعتقلت الشرطة الإسرائيلية، صباح أمس، جندياً (20 عاماً) من مستوطنة «إيتمار»، إثر مشاركته في الاعتداء على زملائه، فيما من المتوقّع بحسب موقع «واينت» التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، أن تعتقل الشرطة مزيداً مِمَّن شاركوا في مهاجمة الجيش.

وتنمّ هذه الواقعة، التي «تبرّأت» منها كلّ ألوان القوس السياسي الإسرائيلي، عن عدم رضى مستوطِني الضفة عن أداء الجيش، الذي فشِل إلى الآن في «كسر أمواج» المقاومة. كما تُقدّم مثالاً حيّاً لِما يُحتمل أن تبدو عليه صورة التنافر الداخلي عند حلول «اللحظة الحاسمة». أمّا التجاهل والإنكار اللذان أبداهما كلّ من كوخافي، ورئيس الوزراء يائير لبيد، ووزير الأمن بيني غانتس، من طريق نعت المستوطِنين المهاجمين بقلّة من «المعربدين المشاغبين والمجرمين...»، فلن يفلحا في ترميم الواقع الذي يتعامون عنه، وهو واقع أَوجده هؤلاء ومَن سبقهم إلى مناصبهم. أمّا خصمهم في المعارضة، رئيس «الليكود» بنيامين نتنياهو، فندّد بالعنف الممارَس من قِبَل المستوطنين تجاه الجيش، منادياً بـ«محاسبة المعتدين». ورأى أنه «لا يمكن تعميم أمر على جمهور واسع، بسبب أن قلّة قليلة ارتكبت عملاً مداناً. معظم المستوطنين يحترمون القانون، ويخدمون في الجيش وممتنّون لمقاتلينا الذين يدافعون عنهم»، فيما اكتفى رئيس كتلة «الصهيونية الدينية»، بتسيلئيل سموتريتش، بالقول: «ممنوع مهاجمة جنود الجيش... نقطة على السطر». وفي حين شدّد زميله في الكتلة نفسها، إيتمار بن غفير، على أن «العنف ضدّ جنود الجيش هو أمر مُدان ولا مكان له»، فقد استدرك بأنه «في الحقيقة، المتحدّث باسم الجيش قدّم رواية كاذبة أحادية الجانب؛ إذ لم يَقُل إن من بدأ رشق الحجارة على المستوطنين هم الفلسطينيون». واعتبر بن غفير، الذي يقود أمثال هؤلاء المستوطِنين، أن ما حصل هو «نموذج إضافي من تسييس الجيش الذي يحاول غانتس إحداثه. لقد تخلّى (غانتس) عن حياة المستوطنين في الضفة، وعن جنود الجيش الذين كبّل أيديهم في الحرب الدائرة على الإرهاب. كما أنه تخلّى عن أمن إسرائيل»، مُحمِّلاً إياه مسؤولية الاعتداء.


تنمّ واقعة حوارة عن عدم رضى مستوطِني الضفة عن أداء الجيش الإسرائيلي

«طوشة» البيت الداخلي أمس، أتت إثر تحذيرات أطلقتها المنظومة الأمنية الإسرائيلية خلال الأيام السابقة، مفادها أن «مقاتلي الجيش وجدوا أنفسهم مضطرّين للتعامل مع العنف من الجانب اليهودي أكثر من اضطرارهم للحفاظ على الأمن». وطبقاً لـ«واينت»، فإن «مسؤولين في الجيش والشاباك والشرطة توجّهوا إلى قادة المستوطِنين، مطالبين إيّاهم بلجم مستوطِنيهم». لكنّ رئيس «المجلس الإقليمي» في الضفة، يوسي دغان، وجد طريقه للتبرّؤ من مستوطِنيه، إذ اعتبر أن «الذين هاجموا الجيش ليسوا جزءاً من روح شومرون (الضفة). نحن نحبّ مقاتلي الجيش وقادته. هؤلاء لا يمثّلون المستوطنات في الضفة، ومَن يقول غير ذلك فهو منافق. كما أن الكلّ يعرف أن الجزء الأكبر من المعتدين ليسوا من مستوطنات الضفة». أمّا رئيس المجالس المحلّية للمستوطنات، شلومو نئمان، فرأى أن «هؤلاء المهاجمين هم قلّة قليلة تمسّ قِيم البيت الوطني. إن كلّ مَن تمتدّ يده على أخيه اليهودي ليس منّا. ندين ونستنكر ما حصل ونطالب بمحاسبة هؤلاء قانونياً».



يا عُديّ.. سنحمل بندقيّتك وجسدك

يوسف فارس

أنهى عدي التميمي أحد عشر يوماً من المطاردة، بأسلوبه الخاص. «أبو السبع»، كما لقّبه أبناء مخيّم شعفاط حين شاهدوه في عمليّته المصوَّرة الأولى، وصل ليل الأربعاء - الخميس إلى حاجز «معاليه أدوميم» ماشياً على قدمَيه. أشْهر مسدّسه الفردي، وأطلق النار تجاه ثلاثة جنود كانوا يحرسون الحاجز. ردّت ثلاثة مخازن سلاح بإفراغ رصاصاتها باتجاهه. قفز إلى السماء مُحاولاً تلافيها، ثمّ وقع على الأرض. اتّكأ على يديه، وواصل إطلاق النار. اخترقت الرصاصات جسده. بدّل مخزن الذخيرة وسط الأزيز، وواصل إطلاق النار. أغرقوه بصلْية أخرى. هدأ أخيراً الجسد الذي أرهق جيشاً بأكمله، كان قد واصل البحث عنه طوال 264 ساعة من المطاردة. على سبيل المكابرة، هنّأ رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، قادة جهاز المخابرات «الشاباك» والجيش والشرطة و«حرس الحدود» على «إنجازهم»، فيما نُشر مقطع مصوَّر للحدث، على سبيل التفاخر بالقوّة.

غير أن الشاب الرياضي، ابن الـ22 ربيعاً، ونجل الخبّاز البسيط، الذي يسكن أكثر مخيّمات مدينة القدس تعقيداً، شعفاط، الذي مورست بحقّ شبابه منذ عشرين عاماً، جهود إسرائيلية لتدجينهم، وإغراقهم في وحل الجريمة والمخدّرات، بدا وكأنه يفتتح حكاية جديدة. قال الشاب في وصيّته التي دوّنها على قطعة ورق ممزَّقة: «إن عمليتي في شعفاط، كانت نقطة في بحر النضال الهادر». وعلى رغم أن جهداً كهذا لن يحرّر فلسطين، لكن ثمرة العملية، وفق وصفه، «ستُحرّك مئات الشباب الذين سيحملون بندقيتي وجسدي».

«أَحبّه كلّ مَن عرفه»، يقول ابن عمه سفيان، مضيفاً في حديث إلى «الأخبار»: «خلال أكثر من ثمانية أيام من حصار المخيم، وتنكيل الاحتلال بعائلة التميمي، وجدْنا احتضاناً من الناس، كانوا يقولون لنا، إن أرزقانا وحياتنا كلّها فداء للبطل المطارَد». في المخيّم الذي يحمل سكّانه الهوية الإسرائيلية المقدسية، ويتاح لأمثالهم امتياز الدخول السهل للعمل في مدن الداخل المحتلّ، أضحى الشاب الأقرع أيقونة ورمزاً، تُحلَق من أجله رؤوس المئات «على الصفر» - على رغم أن الشعر الكثيف موضة الشباب المفضّلة هذه الأيام -، كي تتشتّت أجهزة الأمن الإسرائيلية في البحث عنه. هو رياضي، لكنه «لا يهوى الاستعراض»، يقول محمود وهو أحد جيرانه، مضيفاً في حديث إلى «الأخبار»، أن «عديّ مهتمّ جدّاً بأناقته، يقضي جزءاً من وقته في النادي الرياضي، يحبّه الجميع لأنه صاحب دعابة متّزنة، لا يستطيع أبناء جيله مسابقته في الركض، يحبّ الأطفال، يمشي برأس مرفوع وعينَين مسبلتَين، لم يُسجَّل عليه يوماً أنه أساء إلى أحد».


عدي الشهم، صاحب النخوة والأنفة، عزيز النفس، كان بطلاً في عيوننا طوال حياته

حين نفّذ «عدي الكرار»، كما وصفه نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، عملية شعفاط في الثامن من تشرين الأول، لم يكن قد أفصح لأحد عن نواياه. يقول أحد أصدقائه: «كان وطنياً، لكنه غير مهتمّ بالسياسة، لم نعهد منه أنه انتمى إلى أيٍّ من الفصائل»، مضيفاً: «قبل أشهر قليلة من العملية، كان يعمل بجدّ لساعات، يحصل على المال، وحين نمازحه بأنه اتّخذ قراره بالزواج، كان يبتسم، من دون أيّ ردّة فعل. اليوم، اتّضح أنه اشترى بذلك المال سلاحه الشخصي، الذي لم يرَه سوى عدوّه». ويتابع الشاب في حديثه إلى «الأخبار»: «عدي الشهم، صاحب النخوة والأنفة، عزيز النفس، كان بطلاً في عيوننا طوال حياته، وجاءت مطاردته ثمّ استشهاده بهذه الطريقة، كي يصبح بطلاً في عيون كلّ أبناء شعبه، بل في عيون أحرار العالم كلّه».

في مسقط رأسه، احتشد الآلاف من المواطنين أمام بيت ذويه، يهتفون باسمه، ويشيدون ببطولته، أمّا في القدس، ومدن الضفة الغربية المحتلّة كافة، فأُعلن الإضراب العام غضباً لاستشهاده، فيما أضحى مقطعا الفيديو اللذان وثّقا عمليتَيه الأولى والثانية، واللذان يلخّصان مسيرة حياته أيضاً، خارطة طريق لعشرات من أشباهه، أعاد ابن القدس تعريف البطل في وجدانهم. سيعود عدي التميمي بلا شكّ، ولكن ليس «مقتولاً في كيس بلاستيكي» كما هدّد قائد «الشاباك» عمّته قبل أيام من استشهاده، إنّما في صورة من سيَحملون سلاحه، ويعلمون أنهم «سيستشهدون عاجلاً أم آجلاً»، كما قال عدي، راسماً معالم تُبشّر بالآتي.



مستنقع الضفة: إسرائيل تتخبّط

يحيى دبوق

لعلّ السؤال الأبرز الذي يُطرح على طاولة التقدير والتخطيط في تل أبيب اليوم، هو عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه عمليات المقاومة، بأشكالها المختلفة، في الضفة الغربية المحتلّة، وكيفية الحدّ منها ومنعها والحيلولة دون تَحوّلها إلى انتفاضة شاملة تطيح مكاسب الاحتلال خلال السنوات الماضية. تُقابل هذا السؤال، وفق ما يُظهره الفعل الإسرائيلي في الميدان، محدودية الخيارات المتاحة، في ظروف قاهرة لا تسمح لصاحب القرار في الكيان العبري باعتماد خيارات متطرّفة أو التمادي فيها. وممّا يفاقم حراجة الموقف، تَميّز عمليات المقاومة الجديدة بسِمات لم تكن منظورة ومُقدَّرة جيّداً من قَبل، أو أن تل أبيب أغفلتها لأسباب داخلية وبات عليها الآن أن تُواجه تبعاتها. إذ تبدو هذه العمليات أقرب إلى انتفاضة من نوع آخر، لم يسبق للأرض المحتلّة أن شهدت مثيلاً لها، كما أنها ليست أُحاديّة السبب، بل تتعدّد مسبّباتها إلى حدّ يتعذّر معه حصرها، إلّا أن أهم ما وراءها من أسباب وأكثرها تأثيراً، هو السياسات الإسرائيلية نفسها التي تتّسم باقتصارها على اتّجاه واحد: الأخذ الدائم، بلا أيّ بدائل؛ والآن محاولة إخماد الحرائق من دون التطلّع إلى مسبّباتها، ما يؤديّ بالتالي إلى المزيد منها. إزاء ذلك، يمكن تسجيل الآتي:

أوّلاً: خيار التسوية والتفاوض مع المحتلّ بات خياراً ميْتاً، ولم يَعُد لدى الفلسطينيين أيّ تطلّع إلى تحصيل أيّ من حقوقهم، وإنْ كانت شكلية، من خلاله. إذ إن العدو باتت شهيّته مضاعَفة لسلْب حقوق الفلسطينيين، بل إن هذه الشهيّة تجاوزت الحدّ الذي يمكن للكيانَ نفسه تَحمُّل تبعاته، متحوّلةً من العمل على سلب الأرض والفضاء والتطلّعات والهويّة، إلى تهشيم حتى الحقّ المحدود جدّاً في الوجود.

ثانياً: فشل الخيار المذكور عنى حتماً فشل السلطة الفلسطينية، التي باتت في الوعْي الفلسطيني الجمعي تعبيراً مادّياً عن هزيمة خيار لم يأتِ بأيّ مكاسب للفلسطينيين. وهي هزيمة لم تدفع أصحاب الخيار التسووي إلى أيّ مراجعة، بل إن هؤلاء تمسّكوا بنهجهم نتيجة إنكارهم الواقع، وأكثروا من العداء لخيار المقاومة والمقاومين، وتشبّثوا بأوهام تسوية ماتت، ما جعل فلسطينيّي الضفة والقدس ينظرون إلى السلطة على أنها كيان غايته الأولى والأخيرة قمعهم، ومنعهم من التعبير عن رفضهم للاحتلال، بل وباتت بالنسبة إليهم جزءاً لا يتجزّأ من أجهزة الأخير، الأمنية والعسكرية.

ثالثاً: عمل الاحتلال الإسرائيلي، طيلة السنوات الماضية، على تعميق سياسة سلْب الحقوق الفلسطينية، من دون أن يواجَه بمقاومة تضع حدّاً لاعتداءاته وأطماعه، وتُدفّعه أثماناً لها، وهذا ما حمله على الاعتقاد بأن الضفة باتت «مطواعة»، وإنْ عبر الوكيل الفلسطيني، وأن باستطاعته فعل المزيد بلا رادع.

رابعاً: كلّما انتقل المحتلّ إلى مستوى أعلى في تَطرّفه، كلّما كانت أجهزة السلطة الفلسطينية تُواكب ذلك بمزيد من الإنكار والتنكيل بالمقاومين.

خامساً: من جهة إسرائيل، باتت طروحات التسوية منتفية تماماً، بل أضحى مجرّد الحديث عنها يُعدّ خيانة وتنازلاً لا ضرورة له للفلسطينيين، ومن ثمّ أمْست اللقاءات في ذاتها بين المسؤولين الإسرائيليين و«نظرائهم» في السلطة الفلسطينية، خيانةً لدولة الاحتلال، وأيّ مسؤول يُقدِم عليها يَسقط في الشارع الإسرائيلي الذي ازداد انحيازه إلى اليمينيّة، في مقابل غياب اليسار عن المشهد السياسي، وتحوّل اليسارية إلى وصمة عار ومحل اتّهام.

سادساً: ثبت للجمهور الفلسطيني أن كلّ المؤثّرين في الداخل والخارج، من عرب وغير عرب، ومن رعاة غربيين وأميركيين، أداروا ظهرهم لقضيّته، وبالتالي لم يَعُد أمامه إنْ أراد لجْم الاحتلال سوى تفعيل خيار المقاومة، إنْ لم يكن عبر الفصائل، فمن خلال المبادرة الفردية التي باتت سِمَة رئيسة للتصعيد الفلسطيني الأخير. وجاء هذا «القرار» نتيجة مخاض طويل، اشتركت فيه جملة أسباب، من بينها تآكل صورة اقتدار العدو خلال المواجهات العسكرية المتكرّرة مع قطاع غزة، وتراجع مكانة السلطة الفلسطينية وحوكمتها.

لكن إنْ كانت كلّ العوامل المذكورة قد حفّزت انفجار المقاومة في الضفة، فما الذي يحفّزها على الاستمرار، في وقت بالغ فيه العدو في إجراءات القمع والحصار والعقوبات الجماعية؟ وهل لدى الاحتلال مخارج من الواقع الحالي؟ هنا، تتعدّد الإجابات:

أوّلاً: الاستراتيجية الإسرائيلية المقتصِرة على «إخماد النيران» لا تؤدّي، إلى الآن، إلّا إلى توليد المزيد من أعمال المقاومة، المنظَّمة أو غير المنظَّمة. ومن هنا، لا يبدو أن أمام الاحتلال سوى التراجع عن شيء من أطماعه، وإعطاء الفلسطينيين «أملاً ما»، من شأنه، وفقاً لحجمه وجدّيته، أن يحدّ من حافزيتهم واستماتتهم، وإنْ نسبياً، في التمسّك بالخيار المقاوم.

ثانياً: حاولت إسرائيل، بعد أن تلمّست مسار التصعيد في الآونة الأخيرة، إحياء معادلة «الاقتصاد مقابل المقاومة»، إلّا أن هذه المعادلة تأخّرت كثيراً، ولم تواكبها مكاسب أو إمكاناتُ مكاسب، ليَسقط خيارها تماماً، كما سقط خيار الاتّكال على السلطة في مقارعة المقاومين.

ثالثاً: لم يبقَ أمام الاحتلال إلّا إعادة إحياء مسار التسوية، بطريقة أو بأخرى، وإفهام الفلسطينيين أنه مسار عاد ليكون مُجدِياً. لكن هل تأخّرت إسرائيل في تحريك هذا المسار؟ وهل خيار المقاومة بات بديلاً حاسماً، وإنْ جرى بعْث المفاوضات؟

رابعاً: لا يتيح الظرف الحالي لصاحب القرار في تل أبيب، استئناف العملية السياسية مع السلطة الفلسطينية، بل هو لا يتجرّأ حتى على الحديث عن استئنافها، خصوصاً عشيّة الانتخابات التي ستُقرّر نتائجها ما الذي سيُنفّذ من استراتيجيات وخطط، وما الذي سيُنحّى. وعليه، ليس أمام العدو إلّا المزيد من «إطفاء النيران»، بلا تطلّع أو رهان على حلول مغايرة، يتعذّر على السلطات الإسرائيلية الإقدام عليها الآن. يبْقى إذاً الخيار الذي تُهدّد به تل أبيب ليل نهار: اجتياح مدن الضفة ومخيّماتها من جديد، على غرار عملية «السور الواقي» عام 2002. لكن المفارقة أن السبب الذي قد يدعوها إلى تفعيل خيار من هذا النوع، هو عيْنه الذي يحملها على الامتناع عنه، وهو إمكانية سقوط قتلى إسرائيليين، ما يعني البقاء في دائرة مفرغة يتعذّر خرقها، أقلّه في هذه المرحلة.

في الخلاصة، يبدو المشهد في الضفة شديد التعقيد أمام الاحتلال، وهو تعقيد ناتج من عوامل عدّة، أبرزها ضعف السلطة الفلسطينية التي طالما أراحت العدو من مهمّة مطاردة المقاومين، بينما هي الآن لا تقوى، وربّما أيضاً لا تريد نتيجة الإحراج السياسي، قمع الفلسطينيين كما كانت تفعل في الماضي. وتُضاف إلى ما تَقدّم شجاعة الجيل الشاب من الفلسطينيين، ممّن هم غير منظّمين تحت ألوية فصائل فلسطينية مقاومة، ما يثبت أن عامل الزمن لا يُنسّي هؤلاء قضيّتهم؛ وكذلك تصاعد الجهد الأمني ​​الإسرائيلي الذي يؤدّي إلى احتكاكات ميدانية مع المقاومين، تؤدّي بدورها إلى مزيد من الحافزية لتنفيذ عمليات.

يبدو المشهد في الضفة شديد التعقيد أمام الاحتلال
يبدو المشهد في الضفة شديد التعقيد أمام الاحتلال


«مقاتلو الجيش وجدوا أنفسهم مضطرّين للتعامل مع العنف من الجانب اليهودي أكثر من اضطرارهم للحفاظ على الأمن» (أ ف ب)
«مقاتلو الجيش وجدوا أنفسهم مضطرّين للتعامل مع العنف من الجانب اليهودي أكثر من اضطرارهم للحفاظ على الأمن» (أ ف ب)


يفاقم حراجة الموقف، تَميّز عمليات المقاومة الجديدة بسِمات لم تكن منظورة ومُقدَّرة جيّداً من قَبل (أ ف ب)
يفاقم حراجة الموقف، تَميّز عمليات المقاومة الجديدة بسِمات لم تكن منظورة ومُقدَّرة جيّداً من قَبل (أ ف ب)


تعليقات: