الميسورون لا الفقراء يستفيدون من دعم الكهرباء

الفقراء يتحملون أكثر من فاتورة
الفقراء يتحملون أكثر من فاتورة


يردّد المسؤولون حالياً نغمة جديدة أنّ الحكومة تدعم كل أسرة بحوالى 200 دولار شهرياً (أو 40 دولاراً للفرد)، وذلك من خلال تغطية الفارق الكبير بين كلفة إنتاج الكهرباء الفعليّة وبين السعر الذي يدفعه المستهلك... فهل صحيح أنّ الدعم يذهب إلى الفقراء؟

تُقدّر وزارة المال حجم إنفاقها على الكهرباء في هذا العام بحوالى ملياري دولار، إذا واصلت أسعار النفط ارتفاعاتها في الأسواق العالمية (120 دولاراً للبرميل أمس)، وإذا فشلت الحكومة بتمرير قرار يقضي بزيادة تعرفات بيع الكهرباء إلى المستهلكين (وهو أمر صعب في ظل حكومة انتخابية وفي ظل عجز مؤسسة كهرباء لبنان عن تأمين الطاقة الكهربائية على مدار ساعات اليوم لكل المشتركين الشرعيين).

■ التهويل لتبرير الخصخصة

على أي حال، هناك من يشكّك في صحّة هذا التقدير، ويضعه في خانة التهويل الممارس منذ سنوات لتبرير امتناع الحكومات المتعاقبة عن معالجة أزمة الكهرباء المتصاعدة والدفع باتجاه تبنّي خيار الخصخصة أو إشراك القطاع الخاص في الإنتاج والتوزيع والجباية، وتصويره كأنه الخيار الوحيد الباقي (علماً أنّ البنك الدولي تحفّظ على هذا الخيار لأنه يؤدّي إلى رفع الكلفة ما بين 1.6 و3 سنتات على إنتاج كل كيلو واط ساعة)... إلّا أن هذا التشكيك لا يعني أن الإنفاق على الكهرباء لم يبلغ مستويات مقلقة (لن يقلّ عن 1.5 مليار دولار في أحسن الأحوال، أي ما يساوي 6 % تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي)، بل على العكس، فإن الجميع متّفق على أن الإنفاق المحقق فعلياً لتغطية العجز المالي لمؤسسة الكهرباء مرتفع جداً، وبكل المقاييس.

هذه الكلفة المرتفعة لدعم الكهرباء (ما بين 1.5 مليار و2 مليار دولار سنوياً) تدفع إلى التساؤل عن مدى عدالة إعادة التوزيع التي تقوم بها الحكومة في هذا المجال، فهل صحيح أن كل أُسرة في لبنان تحظى بدعم كهربائي يوازي 200 دولار شهرياً؟ وهل آلية دعم الكهرباء المعتمدة تستهدف الفقراء حقاً لكي يجري تمنينهم بذلك؟ ومن الذي يتمتع بالدعم المالي فعلياً؟ ومن الذي يضطر إلى تكبّد عبء الفاتورتين؟.

بالاستناد إلى الإحصاءات الدقيقة لدى مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة والمياه يمكن تسجيل الملاحظات التالية، تمهيداً للإجابة عن هذه الأسئلة المحورية التي يجب أن تحكم أي قرار يتصل بإعادة النظر بالتعرفات:

■ توزيع الدعم بحسب المناطق

أوّلاً، ليس كل الناس متساوين في مجال التغذية الكهربائية، إذ إن قراراً قديماً فرضه الرئيس الراحل رفيق الحريري قضى بمنح امتياز التغذية على مدار ساعات اليوم لبيروت الإدارية، باعتبارها العاصمة ومركز النشاطات المختلفة، ثم جرى تمييز بعض المؤسسات الخاصة والعامّة والمؤسسات الأمنية والعسكرية والسجون والمطار، وبعض الأحياء التي يقيم فيها سياسيون نافذون، بحيث يحظى كل هؤلاء بتغذية كهربائية كاملة (لا تقل عن 21 ساعة في اليوم في أسوأ الأحوال). وأضافت الحكومة السابقة ما سمّته مناطق الاصطياف إلى لائحة المحظيين بنعيم الكهرباء بحجة تشجيع السياحة. وتفيد مصادر مطلعة أن هناك خمسة مصانع مدعومة تحظى بالكهرباء كل الوقت (وهي سبلين والترابة الوطنية وهولسيم وكيماويات لبنان والترابة البيضاء)... والمفارقة في هذا المجال تكمن في أن هذه المناطق والمؤسسات والمصانع والأشخاص يتمتعون بمستوى المداخيل الأعلى بحسب الدراسات المختلفة مقارنةً بالمناطق والفئات الأخرى التي لا تحظى حالياً بتغذية كهربائية تتجاوز 12 ساعة يومياً (البعض لا يحظى بتغذية تتجاوز 10 ساعات)، ما يضطر الأسر والمؤسسات إلى استجرار الطاقة من مصادر بديلة غير مؤسسة كهرباء لبنان، وبأكلاف باهظة تمثّل زيادة على الميزانيات بنسبة 25 في المئة بحسب دراسة للبنك الدولي...

ثانياً، إن الطاقة الكهربائية الموزّعة فعلياً تبلغ حوالى 1325 ميغاواط فقط (الطلب في الذروة يصل إلى 1850 ميغاواط)، وتبلغ حصة المتنعّمين بالكهرباء كل اليوم حوالى 450 ميغاواط منها، أي 34 في المئة من مجمل الطاقة الموزّعة، علماً أن المستفيدين من التغذية الكاملة في المناطق والفئات المذكورة لا تتجاوز نسبتهم 20 في المئة من مجموع المشتركين، أي 234105 مشتركين من أصل 1170525 مشتركاً.

ثالثاً، إذا جرى اعتماد التقدير الرسمي المعلن في شأن كلفة الدعم المالي للكهرباء (2 مليار دولار) فهذا يعني أن 20 في المئة من المشتركين (أكثريتهم الساحقة من الميسورين) يحظون بحوالى 680 مليون دولار من هذا الدعم، اي بمعدّل 2905 دولارات سنوياً لكل مشترك (حوالى 242 دولاراً شهرياً)، فيما 80 في المئة من المشتركين (936420 مشتركاً أكثريتهم الساحقة من الفقراء وذوي الدخل المحدود) لا ينالون إلا حوالى 2136 دولاراً سنوياً متوسطاً عاماً لكل مشترك (178 دولاراً شهرياً)، أي إن الفارق بين الفئتين يبلغ حوالى 64 دولاراً شهرياً لكل مشترك، وهو يمثل تقريباً الفاتورة الإضافية التي تتكبّدها الأُسر خارج المناطق التي تحظى بالتغذية الكاملة.

■ توزيع الدعم بحسب قدرة العدّادات

رابعاً، إن هذا الفارق لا يعبّر بشكل واف عن حجم التمييز لمصلحة الميسورين في مجال دعم الكهرباء، إذ إن إحصاءات رسمية دقيقة أخرى تبيّن أن 75.27 في المئة من المشتركين لديهم عدّادات لا تتجاوز قدرتها 20 أمبيراً (35.2 % لديهم عدّادات دون 10 أمبير) ولا تبلغ حصتهم من الطاقة الموزّعة فعلياً 49.17 في المئة، فيما المشتركون الذين يملكون عدّادات مرتفعة القدرة (الشيء المؤكّد أن الفقراء لا يستخدمون هذه العدّادات المكلفة والمخصصة للاستهلاك الكهربائي المرتفع جداً) يمثّلون 24.73 في المئة من مجمل المشتركين ويحصلون على 50.82 في المئة من مجمل الطاقة الموزّعة... وهذا يعني أن أقل من ربع المشتركين يحصلون على أكثر من نصف الطاقة الموزّعة، وبالتالي تبلغ حصة المشترك من الدعم المالي الكهربائي أكثر من 3511 دولاراً سنوياً متوسطاً عاماً (293 دولاراً شهرياً)، فيما أكثر من ثلاثة أرباع المشتركين يحصلون على أقل من نصف الطاقة الموزّعة، وتبلغ حصة المشترك الواحد منهم من هذا الدعم حوالى 1116 دولاراً سنوياً (93 دولاراً شهرياً)، أي إن الفارق لمصلحة الميسورين يبلغ 200 دولار مموّلة من الضرائب والرسوم التي يقع عبؤها الأساسي على الفقراء.

تثبت هذه الوقائع أن نغمة تمنين اللبنانيين الفقراء بدعم ميزانياتهم بحوالى 200 دولار شهرياً هي نغمة «نشاز»، تحاول أن تغطّي على سوء آليات الدعم المعتمدة التي توجّه الموارد المتاحة نحو من لا يحتاج إلى الدعم فعلياً، إذ كيف يمكن السكوت إزاء هذا التوزيع غير العادل إطلاقاً.

■ طابوريان يدرس التعرفة

لا شك أن هذا الواقع يضغط على وزير الطاقة والمياه الان طابوريان، الذي يعكف حالياً على إعداد خطة جديدة لمعالجة أزمة القطاع الكهربائي، مستبعداً كل الخطط السابقة التي ترتكز على خيار الخصخصة، ويحاول وضع اقتراحات عملية على المديين القصير والمتوسط، بهدف تأمين مصادر جديدة للطاقة الكهربائية من أجل سد الثغرة بين الطلب الاستهلاكي والعرض المتاح (حوالى 500 ميغا واط)، بما يؤدي إلى تأمين التغذية الكهربائية الكاملة والشاملة لجميع المناطق من دون استثناء... وبهدف إعادة النظر بالتعرفات الثابتة والمدعومة، مع مراعاة الأُسر الفقيرة، بما يؤدّي إلى تقليص الفارق بين متوسط الكلفة الفعلية ومتوسط تعرفة المبيع (الفارق الحالي يصل إلى أكثر من 75 %).

وتقول مصادر مطّلعة لـ«الأخبار» إن الإجراءات التي يدرسها طابوريان على المدى القصير، تتضمن الأفكار التالية:

- زيادة القسم الثابت من التعرفة والبالغ حالياً 1400 ليرة على كل 1.1 kva (كل 5 أمبير من العدّاد) ليصبح ما بين 5000 و7500 ليرة.

- زيادة التعرفة لتعادل الكلفة (على أساس 100 دولار لبرميل النفط)، على أن يستثنى المستهلكون الذين يستعملون عدادات لا تتجاوز قدرتها 5 امبير، أو أن يكون الدعم للتعرفة يطال الاستهلاك دون 200 كيلو واط ساعة.

- إدراج كل مبالغ الدعم للتعرفات في إطار الموازنة العامة وتسديدها إلى مؤسسة كهرباء لبنان بعد تشركتها لكي لا تسجّل كخسائر في حسابات المؤسسة.

■ تعهّدات الحكومة

ينطلق طابوريان في دراسته للتعرفات من تعهّدات الحكومة الحالية في بيانها الوزاري، إذ رأت أن مدخل المعالجة لأزمة الكهرباء يكمن في وضع سياسة جديدة للتعرفة تؤدي إلى تقليص الفارق بين الكلفة والثمن، وتوخّي ترشيد استهلاك الطاقة، وتشمل «إنشاء تعرفة اجتماعية... تأخذ بالاعتبار أوضاع صغار المستهلكين الذين يمثّلون الغالبية من الأُسر اللبنانية، والذين يستهلكون الطاقة ضمن حدود حاجاتهم الضرورية، وتلائم إلى حد كبير بين سعر بيع الطاقة وكلفة إنتاجها بالنسبة إلى المستهلكين الكبار، ما يخفض حجم العجز الإجمالي الذي تتحمله الخزينة.

وقالت الحكومة إنها ستعمد إلى دراسة معمّقة للتعرفة الجديدة بالنسبة إلى القطاعات الصناعية وفقاً لمعايير موضوعية، ولا سيما لجهة التوفيق بين الحاجة إلى تشجيع هذه القطاعات، وتحسين قدراتها التنافسية والتصديرية وتداعيات ذلك على الخزينة العامة... على أن يواكب إعادة النظر بالتعرفة العمل على ترشيد استعمال الطاقة وتوفير استهلاكها والتشجيع على التوجه نحو استعمال الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية، طاقة الرياح...)، على أن تُستخدم لهذا الغرض الحوافز التشجيعية المناسبة.

تعليقات: