قصص وجع لعاملات أجنبيات حُرمن من حق الطبابة والصحة.. لا شيء معترف به

عاملات اجنبيات في لبنان
عاملات اجنبيات في لبنان


135 ألف عامل أجنبي موجود على الأراضي اللبنانية وفق آخر إحصاء لمنظمة الهجرة العالمية، يواجهون الأزمة الاقتصادية بعد ارتفاع الدولار وانهيار الليرة اللبنانية. التأمين لا يغطّي الكثير من الحالات، وبدلات الفحوص الطبيّة والاستشارات والعلاجات تفوق قدرتهم في الكثير من الأحيان. فهل تتمكّن العاملات الأجنبيات من الوصول إلى الرعاية الصحيّة والاهتمام بصحتهن في ظلّ اشتداد الأزمة؟

في أحد المنازل في منطقة برمانا، وقعت العاملة الأجنبية أثناء تنظيفها الحمام فتأذّى جسدها. حصل ذلك في شباط 2022. بقيت على الأرض تتألّم من دون أن تقوى على النهوض. كان صدرها يؤلمها، وكذلك رجلها ويدها، بل تقيّأت الدم، لكنها تحمّلت كلّ ذلك، ثم كانت الصدمة أن صاحبة المنزل لم تذهب بها إلى المستشفى لتقدّم لها الرعاية الطبيّة اللازمة، ولم يكن العائق الماديّ هو السبب.

وفق ما تروي العاملة لـ"النهار" "لقد طلبت مني أن استكمل تنظيف المنزل عندما استرجع قوتي وأعاود النهوض. كان كلّ شبر من جسدي يؤلمني. كانت حادثة السقوط قاسية، وما زلتُ أعاني من آثارها".

لم تذهب العاملة الأجنبية إلى أيّ طبيب للتأكّد من عدم وجود كسور أو أضرار أخرى. لم تخضع لأيّ فحوص أو صور، واكتفت صاحبة المنزل بشراء "البنادول" للعاملة للتخفيف من آلامها. لم تسمح لها حتى بالاستراحة لتسترجع قواها بل جعلتها تنظّف المنزل يوميّاً كأن شيئاً لم يكن.

تقول العاملة: "كنتُ محرومة من حقوقي الأساسية، وكنتُ أعمل طوال الوقت من دون استراحة. لم أنم جيّداً، وكنت أتناول وجبة واحدة فقط طوال النهار. كانت صاحبة المنزل تُسيء معاملتي، وعندما تعرضت للسقوط مرّة أخرى على الدرج، كان الوجع بانتظاري.

لم أعد أستطيع المشي كثيراً نتيجة إصابة ركبتي، واليوم أنا عاجزة عن تحريكها أو الجلوس بشكل جيّد بسبب الألم. وبالرغم من كلّ الرضوض والأوجاع التي ما زلت أعاني منها، لم أرَ أيّ طبيب أو أذهب لأيّ مستشفى، بل بقيتُ في المنزل أتابع عملي الذي لا يتنهي".


رعبٌ وذلٌّ وحرمان

وفق تعبير العاملة "لقد هربتُ من الجحيم الذي كنتُ أعيشه. كانت معاملة صاحبة المنزل قاسية جداً وصارمة. كانت تصرخ عليّ، وتنهال عليّ بالشتائم، ولا تدفع راتبي إلا عندما تقرّر ذلك، بالرغم من أنها من الطبقة الغنيّة. لقد تعبت كثيراً في ذلك المنزل، بالرغم من أن أولادها كانوا يحبونني. كانت تقسو عليّ دائماً، وتعاملني بطريقة سيّئة جداً، ومن دون رحمة. اليوم أنا حرّة. لقد أنقذتُ روحي من هذا الكابوس، ويصعب عليّ أن أنسى ما مررتُ به تلك السنة التي قضيتها في ذلك المنزل".

حُرمت هذه العاملة من حقها في الطبابة، وهي ما زالت تعاني ألماً في صدرها، وفي ركبتها، من أثر السقوط، بل خسرت عملها الآخر بعد خمسة أشهر، بسبب وضعها الصحي ووجعها اللذين يمنعانها من العمل بكفاءة ملائمة.


التأمين لا يغطّي شيئاً

قصّة أخرى تُشاركنا إيّاها تلك العاملة التي خافت من أن تصارح وكيلها بها، وهي ألم بطنها الذي تسبّب لها بنفخة. تقول بصراحة لـ"النهار" "بعدما سمعتُ قصص فتيات كثيرات وخوفهن من أن يطردن من العمل بسبب تردّي صحتهن، قرّرتُ أن أخفي الموضوع عن ربّ عملي خوفاً من خسارة مورد رزقي".

وتشير إلى مشكلتها المعقّدة التي تتمثّل في "أن التأمين لا يعترف بشيء، ولا يغطّي أيّاً من الفحوص على عكس ما يعتقد البعض. الأمور على أرض الواقع مختلفة تماماً. لقد أخبروني عن مركز في بيروت يقدّم الخدمات الصحيّة الأوليّة مجاناً، فتوجهتُ إلى هناك وتلقيت الرعاية اللازمة، وتبيّن من خلال الفحوص أنّني أعاني من ورم ليفيّ تمّ استئصاله، واليوم أنا بصحّة جيّدة".


62% زيادة في طلب الرعاية الصحيّة

من جهتها، تؤكّد المسؤولة الطبية في مركز أطباء بلا حدود – مركز الحمرا هنادي صيام لـ"النهار" أنّه "وفق آخر إحصاء لمنظمة الهجرة العالمية، يوجد 135 ألف عامل أجنبيّ من مختلف الجنسيات (الإثيوبية – البنغالية – السودانية - السريلانكية...)، يتوزعون على مختلف المناطق اللبنانية، وأغلبيّتهم موجودة في بيروت وجبل لبنان". وفي المركز الذي يقدّم منذ سنتين خدمات الرعاية الصحيّة الأوليّة لكل الفئات الأكثر ضعفاً اقتصادياً واجتماعياً "كان واضحاً هذه السنة ارتفاع عدد الحالات التي تطلب الرعاية الصحيّة في صفوف العاملات الأجنبيّات بنسبة 62%".


أكثر الحالات الطبية شيوعاً

عن أكثر الحالات الطبية التي تصل إلى المركز، تشير صيام إلى أن "المشكلة الأساسية التي تعاني منها العاملات الأجنبيات تتمثل بآلام الظهر والمفاصل والعضلات نتيجة الأعمال المنزلية والمجهود الكبير ونوعية العمل وساعات العمل الطويلة... أما في المرتبة الثانية فتأتي الحالات المزمنة (السكري- الضغط- مشكلات القلب والغدة الدرقيّة). ويعود السبب في ذلك إلى عدم الوصول إلى الخدمات الصحية المقدّمة في القطاع العام، فيتمّ اللجوء إلى مراكز الرعاية الصحيّة بهدف الاستفادة من هذه الخدمات المتاحة، في حين تحتلّ مشكلات الجهاز التناسليّ المرتبة الثالثة، خصوصاً الالتهابات البولية، اضطرابات الدورة الشهرية والمبيض... أما مشكلات الجهاز الهضميّ فتأتي في المرتبة الرابعة".

أما بالنسبة إلى حالات العنف الجنسيّ، فسجّلت منظّمة "أطباء بلا حدود" 9 حالات من العنف الجنسيّ (7 تعود لنساء و2 لذكور من العمال الأجانب) من أصل 64 حالة في العام 2022، و5 من أصل 9 حالات تقدّموا إلى المركز خلال 72 ساعة من بعد الاعتداء. في حين شهد العام 2020-2021 ما مجموعه 13 حالة عنف جنسيّ لعاملات أجنبيّات من أصل 64 في بيروت، و3 من الـ13 حالة جاءت خلال 72 ساعة من حصول الاعتداء.


زيادة بنسبة 100% في الحالات الطارئة

ولكن ماذا عن الحالات الطبيّة الطارئة التي تحضر إلى المركز؟

تشير صيام إلى أن "المركز لحظ ارتفاعاً في الحالات الطارئة التي استوجبت نقلها إلى طوارىء المستشفيات بنسبة 100%. في الفصل الأول من العام 2022 أرسل المركز 13 حالة طارئة، في حين ارتفع العدد إلى 27 حالة في الفصل الثاني من السنة.

ويعود سبب هذا التدّفق للحالات لعاملين أساسيين هما عدم قدرة كثيرين على تحمّل تكلفة استشارة الطبيب أو شراء الأدوية نتيجة ارتفاع الأسعار، والتغطية الصحية الضعيفة، بالنظر إلى تقديم شركات التأمين الصحيّ للعاملين الأجانب فحصاً واحداً للدم، مرّة واحدة في السنة، ودخولاً لمرّة واحدة إلى المستشفى نتيجة حادث عمل. ولكن التأمين لا يغطي باقي الفحوص الطبية أو الأدوية أو دخول المستشفى نتيجة حالات مرضية (قلب – سكّري - اضطرابات الجهاز الهضمي...). كذلك لا يغطّي المركز أيّ حالة استشفاء، ويكون على العاملين الأجانب إمّا أن يدفعوا ثمن طبابتهم أو أن يلجأوا إلى بعض المنظمات والجمعيات التي قد تساعد في هذا الموضوع".


نظرة القانون

ولكن ماذا عن القانون اللبناني وحقّ حصول الأجانب على الرعاية الصحية؟ يشرح عضو مؤسسة JUSTICIA الحقوقيّة محمد عز الدين لـ"النهار" أنه "بدايةً، يجب الإشارة إلى أنّه لم يقرّ حتّى اليوم قانون ينظم استخدام العاملات الأجنبيات في لبنان. وقد نصّت المادة الـ7 من قانون العمل الحالي على أن يُستثنى من أحكام هذا القانون "الخدم في بيوت الأفراد". كما أنّ المرسوم رقم17561 الصادر بتاريخ 18/9/1964 والمتعلق بتنظيم عمل الأجانب في لبنان وتعديلاته يخلو من أيّة مادة تحتّم على صاحب العمل أو مكتب الاستخدام التكفّل بالرعاية الصحيّة للعاملات الأجنبيات".

ويُضيف "لذلك للاطّلاع على الأحكام الّتي ترعى استخدام العاملات الأجنبيات في لبنان يجب العودة، أولاً، إلى بنود عقد العمل الموحّد الذي يلزم صاحب العمل بتأمين الرعاية الصحية اللازمة، بالإضافة إلى العناية الأساسية بالأسنان عند الضرورة للعاملة الأجنبية. ويلتزم صاحب العمل بتأمين بوليصة تأمين تغطّي الرعاية الصحيّة والحوادث وفقاً لشروط وزارة العمل. كذلك يلتزم صاحب العمل بضمان بيئة عمل آمنة وصحيّة، وبإبلاغ وزارة العمل والجهة المحدّدة من قبل العاملة الأجنبية عند تعرّض هذه الأخيرة لحادث عمل. ولا يجوز لصاحب العمل إلزام العاملة القيام بأعمال قد تعرّض صحتها أو سلامتها للخطر، ويحق لها الابتعاد لحين تصحيح الخلل عن كلّ ما قد يعرّضها للخطر".


حقّ الإجازة المرضيّة

يؤكد عز الدين أنه "في حالة المرض، يحقّ للعاملة الأجنبية أن تحصل على إجازة مرضيّة لمدّة خمسة عشر يوماً بأجر كامل، وعلى خمسة عشر يوماً بنصف أجر. وفي حال تعرض الفريق الثاني لطارئ عمل يؤثر في قدرته على العمل، يطبّق بشأنه القانون الخاص بطوارئ العمل وشروط بوليصة التأمين. وفي حال نشوء خلاف حول تأمين الرعاية الصحية، وفي حال حصول أيّ نزاع آخر بين طرفي هذا العقد، يُمكن التقدّم بشكوى إلى وزارة العمل بصورة مباشرة أو عن طريق الخطّ السّاخن، أو التقدّم بدعوى أمام مجلس العمل التحكيمي المختص".


تغطية التأمين الصحي

يتحدّث عز الدين عن إصدار وزارة العمل الدليل الإرشادي للعاملات المنزليّات المهاجرات في لبنان، الّذي شدّد على أنّه يحق للعاملة المنزليّة بالعناية الطبيّة عند حاجتها إليها. وعندما تحتاج إلى زيارة الطبيب، عليها أن تطلب من صاحب العمل ترتيب الزيارة، إضافةً إلى أن التأمين الصحيّ الخاصّ يغطّي تكاليف الحوادث الطارئة والعلاج في المستشفى.

أماّ طب الأسنان والعيون فلا يدخل ضمن هذا التأمين وهو على عاتق صاحب العمل. ولكن عملاً بهذا الدليل، فإنّه يحق للعاملة الأجنبيّة بيوم عطلة في الأسبوع لمدّة 24 ساعة، تتحمل خلالها كامل المسؤولية عن تصرّفاتها. بمعنى آخر، في حال تعرّض العاملة لأي حادث خلال مدّة هذه الإجازة، فلا يتكفّل صاحب العمل بالعناية الطبية.


حلّ النزاعات

إذا تنازعت العاملة مع صاحب العمل بشأن الأمور الّتي تخصّ حقوقها وواجباتها المذكورة في العقد، عليها توجيه شكوى إلى وزارة العمل الّتي سوف تعمل على حلّ النزاع ودياً. في حال عدم حلّ النزاع، تُحال القضية إلى المحاكم اللبنانية.

أما في حال فقدت العاملة الأجنبيّة شروط الإقامة القانونية، فتفقد أيضاً الحق بأمور عديدة، منها تأمين حماية قانونيّة وخدمات صحيّة وسائر الخدمات الأخرى التي يستفيد منها العمّال المقيمون بصورة شرعية في لبنان.

كذلك يشير عز الدين إلى أنّ منظّمة العمل الدوليّة وضعت عقداً معياريّاً موحّداً خاصّاً بالعاملات الأجنبيات، ينصّ على حقّ العاملة الأجنبيّة بالرعاية الطبيّة عند الحاجة؛ وعندما تحتاج إلى رؤية طبيب يتوجّب على صاحب العمل تدبير هذه الزيارة. وتقع على عاتق صاحب العمل مسؤولية حصول العاملة على بوليصة تأمين من شركة تأمين معترف بها في لبنان، تتوافق والشروط المنصوص عنها في وزارة العمل، على أن تشمل تغطية الاستشفاء والنقل إلى البلد الأم في حالة الوفاة. ونادراً ما تغطّي بوليصة التأمين هذه العناية بالأسنان والعيون.


تشريع عادل

في ظل غياب النصّ القانوني الواضح، نجد أنّه من الضروري وضع تشريع خاصّ يحدِّد الأطر القانونية للتعاطي مع العاملات في المنازل، فيُنظّم عملهن وأطر التعامل والحماية الخاصّة بهنّ، سواء من ناحية تأمين الرعاية الصحيّة اللازمة أو لناحية تأمين الحدّ الأدنى من الحقوق الأساسية المعترف بها دولياً، كما يجب أن يراعي هذا التشريع الخاصّ حق صاحب العمل الذي يستقدم عاملة أجنبية للخدمة المنزلية، ويتكفّل بكلّ نفقاتها وتكاليف قدومها إلى لبنان، ثمّ تتراجع وتُحمّل صاحب العمل خسائر ماليّة.

بالتالي، فإن نظام الكفالة يجب استبداله بتشريع عادل لكلّ من العامل الأجنبي وصاحب العمل على السواء حتى تُنصف العاملة ولا يتكبّد صاحب العمل نفقات السفر والاستقدام والإقامة من دون طائل.


25 مليون ليرة

تروي إحدى العاملات الأجنبيات، التي توقفت عن العمل بعد حملها، أن "ما قبل الأزمة مختلف عمّا بعدها. اختلفت الأسعار كثيراً، وبات الوصول إلى الخدمة الصحيّة صعباً ومرهقاً. كان حملي جيّداً في الأشهر الأولى، ولكنّني اضطررتُ في الأشهر الأخيرة إلى ملازمة الفراش للحفاظ على صحّة طفلي. وبعد استشارة طبيب في أحد المستشفيات في منطقة جل الديب، كانت الصدمة. ستبلغ تكلفة التوليد الطبيعيّ 25 مليون ليرة لبنانية، فكيف لي أن أدفع هذا المبلغ في ظلّ ارتفاع الدولار المتواصل وانهيار الليرة اللبنانية؟".

كان كلّ شيء صعباً، ولكن بعد البحث والاستفسار، وبفضل مجموعة من أصدقائها، وصلت تلك العاملة إلى أحد المراكز التابعة لإحدى المنظمات الدوليّة التي تكفّلت بكلّ شيء، فوضعت مولودها في أحد المستشفيات الحكومية.

هذه العاملة وجدت من يساعدها ويتكفّل بمصاريف الولادة، فمن للعشرات من اللواتي يجدن أنفسهن مجبرات على تكاليف الحياة الباهظة برواتبهنّ الزهيدة؟!


تعليقات: