مياه لبنان.. تميت ولا تحيي


لم يثبت عدد ضحايا الكوليرا على 18، إذ ارتفع في الأيام الأخيرة إلى 20، مع انطلاق حملة التلقيح ضدّه، واستمرار الدعوات إلى معالجة شبكات المياه، بوصفها الخطوة الأساسية للوقاية من مرض لا تزال الخشية من تحوّله إلى وباء قائمة، خصوصاً مع حلول فصل الشتاء والاحتمالات السيئة التي قد يحملها على صعيد مفاقمة تلوّث المياه الجوفية، أو جرف السيول لمخلّفات الصرف الصحي إلى أماكن نظيفة. إلا أنّ هذه الدعوات تبدو أشبه بصرخة في وادٍ، في ظلّ ضعف الإمكانات من جهة، وعدم القدرة على تطبيق القوانين من جهة ثانية. غالبية محطات تكرير المياه المبتذلة متوقّفة عن العمل، والاتكال هو على الجهات المانحة لإصلاحها. أما الشكاوى والإخبارات التي يتقدّم بها المعنيون، فتبقى حبراً على ورق كما هو حال الإخبار الذي تقدّمت به المصلحة الوطنية لمياه الليطاني قبل ثلاث سنوات بشأن تلويث مستشفيات المنطقة للنهر بقاعاً. في هذا الملف، الذي جالت فيه «الأخبار» بقاعاً، واستطلعت آراء المسؤولين والمعنيين، يتبيّن لنا أن اللبنانيين «قلبوا» معنى الآية القرآنية: «وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ».



الكوليرا يحرّك «إخبار» مصلحة الليطاني: مستشفيات البقاع مستمرّة في قتل النهر

راجانا حمية

لم يعد الليطاني نهراً، بعدما تحوّل إلى مجرور كبير للصرف الصحي، وتحوّلت مجاريه إلى مكبّات عشوائية للنفايات. لم يأت التلوّث إلى الليطاني فجأة. «ع الهدا»، تسرّب السمّ إليه. فمنذ عشرات السنوات، بدأ التعدّي على مجاري النهر، مع قيام المعامل والمصانع بتحويل مخلّفاتها السائلة إليه، ومن ثم المستشفيات التي أسهمت في تسميمه، قبل أن تأتي التجمّعات ومخيّمات اللجوء لتكتمل الكارثة.

وكما الليطاني، يطاول التلوّث غيره من الأنهُر في البقاع، حتى تحوّل المصدر الأساسي للمياه في المنطقة، إلى لعنة. فكلّ نبعٍ أو نهرٍ هناك هو مشروع مجرور «بعد أن تبتعد المياه مئة متر عن مصبّه»، يقول محمد عمر، مندوب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في البقاع.

على كثرة المتسبّبين، إلا أن للمستشفيات الحصّة الكبرى من الضرر، مع تعاملها مع النهر باعتباره «جورتها الصحية»، وهو ما دفع بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني إلى رفع شكاوى بحق 18 مستشفى تقع على مقربة من النهر ومجاريه قبل ثلاث سنوات.


الحوض الأعلى: سمّ قاتل

في تشرين الأول من عام 2018، أجرت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني كشفاً ميدانياً شاملاً استهدف المصانع والمعامل والمؤسسات الصحية الواقعة ضمن الحوض الأعلى لنهر الليطاني. لم تكن النتائج التي خرجت بها المصلحة خارج التوقعات، لناحية تحويل هذه المؤسسات مياه الليطاني إلى قناة تصريف للصرف الصحي ومكبٍّ للنفايات، وإنما كان لافتاً في المسح أن تكون المستشفيات الواقعة عند هذا الحوض هي أحد الضالعين الأساسيين في «مقتل» نهر الليطاني، إذ أحصت المصلحة 18 مستشفى، خاصة وحكومية، تسهم في تلويث النهر بطريقة مباشرة.

ويمكن التمييز هنا بين فئتين من المستشفيات المخالفة: الأولى، هي فئة المستشفيات التي ترمي سمومها وأوساخها مباشرة في النهر، وهي الغالبية العظمى بحسب المصلحة. أما الثانية فتضمّ المستشفيات التي تحوّل مخلفاتها إلى شبكة الصرف الصحي العمومية. وحتى في هذه الحالة، لا تعفي المستشفيات الليطاني من السمّ، إذ إنّ شبكة الصرف تتدحرج نحو النهر في غالب الأحيان بلا معالجة، مع الخروج المتكرّر لمحطات التكرير الستّ الرئيسية في المنطقة عن الخدمة. ولذلك، لا فرق هنا بين أن تذهب مباشرة، أو أن تعبر في شبكة الصرف الصحي العمومية، ففي الحالتين، الوجهة واحدة: الليطاني. أما الأسوأ من كلّ ذلك فهو أنّ هذه المخلّفات تذهب إلى النهر بلا عملية معالجة ولا تعقيم. وهذا يعني أن غالبية هذه المستشفيات القائمة على كتف النهر «تخلط الصرف الصحي العادي مع المخلّفات السائلة الطبية». وهي إذ تفعل ذلك تخفيفاً لأكلاف، تحصّلها أضعافاً من المرضى، تسوقهم- مع غيرها من المصانع والمعامل- إلى الموت عن سابق تصوّر وتصميم. والدلائل قاطعة حول هذا الأمر، وليس أقلّها السرطان الذي ينتشر في المناطق الأقرب إلى تلك المستشفيات. واليوم، تحاول قتلهم بالكوليرا أيضاً، وهي البكتيريا التي تتكاثر بسبب اختلاط مياه الصرف الصحي مع مصادر المياه العادية.


إخبار منذ ثلاث سنوات

وثّقت مصلحة الليطاني جملة من المخالفات الصادمة. وفي هذا السياق، يعيد مندوب المصلحة في البقاع محمد عمر سرد بعضها، ومنها المشهد الذي على إثره تقدمت المصلحة بإخبار أمام النيابة العامة التمييزية بحق المستشفيات الـ18، مطلع عام 2019، بتهمة ارتكاب جرائم تلويث البيئة: «خلال الكشف على أحد أمكنة تجمّع الصرف الصحي من المستشفيات من ناحية بلدة مكسة، فوجئنا بوجود لحم حيّ أي بقايا إصبع بني آدم والكثير من الدماء». وقد قدّرت المصلحة، في حينه، كمية ما تخلّفه المستشفيات بمليون متر مكعب سنوياً. وهي كمية هائلة إذا ما أخذنا في الحسبان نسبتها من الكميات الأخرى التي تُرمى في مجاري النهر من المصانع والمعامل وغيرها، والتي قدّرتها المصلحة بأربعة ملايين متر مكعب.

اليوم، وبعد انقضاء ثلاث سنوات على إخبار المصلحة، لم يُحدِث ذلك أيّ تغييرات جذرية، على المستويين القضائي والميداني. قضائياً، كلّفت النيابة العامة الاستئنافية في البقاع قبل ثمانية أشهرٍ تقريباً الخبيرة كارول السخن (وهي خبيرة في السموم البيئية وطبيبة في مستشفى الجامعة الأميركية) بإجراء كشف عام على المستشفيات، إلا أنه لم يصدر حتى اللحظة تقرير رسمي لأسبابٍ تتعلق بالروتين الإداري من جهة، والعطلة القضائية وما سبقها ويلحقها من اعتكافات من جهة ثانية. أما ميدانياً، فلم يفعل الإخبار فعله، إذ إنه من أصل 18 مستشفى، التزمت 3 مستشفيات فقط بإنشاء محطات تكرير خاصة بها، منها مستشفيان يعودان لمالكٍ واحد، فيما لم تنشئ بقية المستشفيات حتى اللحظة محطات تكرير خاصة بها.


مسؤولية مَن؟

حتى بالنسبة إلى المستشفيات الملتزمة، لم يخرج إلى الآن أيّ تقرير رسمي من القضاء يشير إلى مطابقة آلية عمل محطات التكرير الخاصة بها للمواصفات المنصوص عليها بيئياً، إذ إنّ أمر «المطابقة» متروك حتى اليوم لأصحاب المستشفيات. وقد دفع هذا الأمر بمصلحة الليطاني لتوجيه كتاب إلى وزارة الصحة العامة تدعوها من خلاله إلى ضرورة الكشف واتّخاذ الإجراءات المناسبة بحق المستشفيات المخالفة، نظراً «إلى وجود خلل في الرقابة على المؤسسات الصحية»، ولا سيما في ما يتعلق بالالتزام بالمرسوم 13389 المتعلق بتنظيم إدارة نفايات المؤسسات الصحية، وتحديداً في مادتيه، الثانية التي تنصّ على وجوب «إدارة نفايات المؤسسات الصحية بطريقة تخفّف الخطر على الصحة وتشجع تخفيف تولدها وإعادة استخدامها وتدويرها واستردادها وتنظّم جمعها ونقلها والتخلص منها ضمن برنامج إدارة بيئية سليمة»، والثالثة التي تنصّ على «الآلية العامة للوصول إلى الهدف (...) لناحية حرص تلك المؤسسات على إدارة نفاياتها وفق معايير السلامة والأمان».


تسهم 18 مستشفى خاصة وحكومية في تلويث نهر الليطاني بطريقة مباشرة


لم تتمادَ المستشفيات في مخالفاتها فقط لأنها تريد ذلك، بل لأنها كانت «أقوى من الكلّ»، يقول رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، سامي علوية. والكلّ هنا تشمل الوزارات المعنية من «الصحة» المسؤولة عن الرقابة على المؤسسات الصحية، إلى «البيئة» المسؤولة عن التزام هذه المؤسسات بمعايير الحفاظ على البيئة وحمايتها، و«الطاقة» المسؤولة عن تشغيل محطات التكرير، إلى الناس، وليس انتهاءً بالطبيعة.


6 محطات تكرير... معطلة

تتوزّع عند الحوض الأعلى لنهر الليطاني ست محطات لتكرير المياه المبتذلة، وهي زحلة وجبّ جنين وعيتنيت وصغبين وإيعات وتمنين التحتا. وتدار هذه المحطات من قبل مؤسسة المياه في البقاع، التي تمارس عملها تحت وصاية وزارة الطاقة والمياه. لكن وجود كلّ هذه المحطات لا يعني أنها تعمل. فبحسب مدير عام مؤسسة مياه لبنان الجنوبي، وسيم ضاهر، المكلّف إدارة مصلحة مياه البقاع، فإن الوضع «في ملف الصرف الصحي كارثي»، مشيراً إلى أن المحطات العاملة اليوم في البقاع محصورة «بمحطتَيْ زحلة وجب جنين، فيما المحطات الأربعة المتبقية فيها الكثير من المشكلات». بتعبيرٍ آخر «مش شغّالة». ويعدّد ضاهر الأسباب التي تخرج بسببها المحطات عن العمل، وهي «تبدأ بغياب الصيانة، مروراً بأزمة التيار الكهربائي والنقص الحاد في المحروقات». وبالنسبة لضاهر، حتى محطتي زحلة وجب جنين تعملان بجزء من طاقتهما ومراحل تشغيلهما، لكونهما تعملان على «خط الخدمة»، وهذا مؤثر لناحية أن المحطات يفترض أن تعمل من دون توقف. وهذه المشكلة تحدث بشكلٍ متكرّر في جب جنين، أما زحلة فتعمل على سدّ النقص من «كهرباء زحلة»، من دون أن يخلو الأمر من مشكلات أيضاً. فبحسب ضاهر، «تواجه زحلة مشكلتين أساسيتين، أولاهما الفاتورة الكبيرة التي تدفعها لشركة كهرباء زحلة، وثانيتهما أنه عندما تفقد مادة المازوت من الشركة سينقطع التيار الكهربائي ويتعطل عملها».



وزارة الصحة: شكّلنا لجنة ونتابع الملف

راجانا حمية

تشير مصادر وزارة الصحة إلى أنها أرسلت «قبل كتاب المصلحة عام 2019، إنذارات خطية لجميع المستشفيات المخالفة في محافظتَيْ البقاع وبعلبك ـ الهرمل تطالبها به بضرورة إنشاء محطات لتكرير المياه والالتزام بجميع الشروط الصحية والبيئية». وتضيف المصادر أنه على إثر هذه الكتب، «قام عدد لا بأس به من المستشفيات بإنشاء محطات تكرير نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: دار الأمل الجامعي، وتعنايل، وراشيا الحكومي، والمياس، وشتورة، والأطباء المنارة... أما بالنسبة إلى المستشفيات الأخرى، فغالبيتها تحوّل صرفها الصحي إلى شبكات الصرف الصحي الموصولة بمحطات تكرير معطلة في الغالب نتيجة لغياب الصيانة الدورية أو غياب التيار الكهربائي، مع العلم أن تشغيل هذه المحطات وصيانتها هما من صلاحيات وزارة الطاقة والمياه، وهي الوزارة الوصية على المصلحة الوطنية لنهر الليطاني».

إلى ذلك، تعيد المصادر التذكير بالقرار الصادر عنها عام 2017، المتعلّق بإعطاء التراخيص، حيث «تمتنع الوزارة بموجبه عن إعطاء أي ترخيص لمؤسسة صحية من دون أن يكون الطلب مرفقاً بدراسة الأثر البيئي»، مؤكدة أن «الوزارة رفضت بموجب هذا القرار 4 طلبات إنشاء مستشفيات جديدة».

أما اليوم، وعلى إثر كتاب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، يلفت وزير الصحة العامة، فراس الأبيض، إلى أن «الوزارة شكلت لجنة لدراسة ما تضمنه الكتاب واقتراح المعالجات المطلوبة». وقد باشرت هذه الأخيرة اجتماعاتها «مطلعة على الملف ليبنى على الشيء مقتضاه»، يكمل رئيس دائرة المستشفيات والمستوصفات في الوزارة وأحد أعضاء اللجنة، هشام فواز. وبحسب المعلومات، فقد ردّت الوزارة على كتاب المصلحة بكتابٍ آخر تشير فيه إلى ما سبق، مع إضافة «ما يتعلق بجهوزيّة المستشفيات التي تستقبل الحالات المصابة بالكوليرا»، مشيراً إلى أن «المستشفيين الوحيدين اللذين يستقبلان المصابين في البقاع حالياً هما دار الأمل الجامعي وأطباء بلا حدود، وكلاهما مجهزان بمحطات تكرير للنفايات السائلة ومياه الصرف الصحي»، أضف إلى ذلك أن «الوزارة واليونيسيف تقومان بإجراء تقييم بيئي وصحي استباقي لجميع المستشفيات الحكومية والخاصة التي يمكن أن تُعتمد كمستشفيات مرجعية لاستقبال مرضى الكوليرا».

مع ذلك، يجزم فواز أنه «إن كان الخلل في المؤسسات الصحية ومخالفة المعايير الصحية، فلن نسمح بذلك في الوزارة وسنتابع الملف مباشرة، أما إذا كان الخلل في شبكات الصرف الصحي ومحطات التكرير، فتلك ليست مسؤولية الصحة وإنما مسؤولية وزارات الأشغال، والطاقة والمياه، والبيئة».


وزارة البيئة: نقوم بالمطلوب

من جهته، أكد وزير البيئة، ناصر ياسين، «متابعة الملف مع وزارة الصحة»، مشيراً إلى تحمّل وزارة البيئة لدورها، خصوصاً في ما يتعلق بما هو مطلوب من المؤسسات الصحية، على الصعيد البيئي، لناحية «قيام المؤسسات الصحية بإعداد دراسة تقييم الأثر البيئي تتضمّن خطة الإدارة البيئية ومن ضمنها طريقة معالجة النفايات الطبية والمياه المبتذلة».



مؤسّسات المياه: مياهنا نظيفة... ملوّثة!

آمال خليل

يختصر وزير البيئة ناصر ياسين واقع المياه بالقول: «جميع مصادر المياه ملوّثة». يستعيد في حديث مع «الأخبار» التقارير التي خلصت إليها وزارة البيئة عام 2010، التي تثبت بأن المياه الجوفية اختلطت بنسب مختلفة، بالصرف الصحي ورواسب مكبات النفايات العشوائية. فيما مجاري الأنهر اختلطت فيها مياه الأمطار والمياه المبتذلة وعصارة النفايات الصلبة. كلّ ذلك في مقابل، إنجاز متباطئ لمنظومات تكرير المياه المبتذلة في المناطق كافة. من هنا، لم يستغرب ياسين ظهور مرض الكوليرا في لبنان «لا يمكن تحميل المسؤولية كلّها للنازحين السوريين. فالتجمعات ليست سوى عامل واحد من سلة عوامل كثيرة».

إلا أنّ ما يقرّ به ياسين، يختلف حوله مديرو مؤسسات المياه في المناطق، المعنيين بتقييم جودة المياه من المصدر إلى المستهلك!


بيروت وجبل لبنان: لا مشكلة!

يسارع المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران إلى الطمأنة: «ليس لدينا مشكلة أبداً». يربط طمأنينته تجاه نظافة المياه التي تضخها المؤسسة إلى بيوت المشتركين في المحافظتين اللتين يقيم فيهما 75% من سكان لبنان، بـ«تعقيم مصادر المياه بمادة الكلور». وفي حال عقمت المياه في خزانات المؤسسة بعد جمعها من نبع جعيتا والآبار الجوفية، قبل ضخها إلى المشتركين، فما الذي يضمن نظافة الشبكات؟ «الخطر الوحيد اختلاط مياه الصرف الصحي بمياهنا، وهو ما لم يظهر حتى الآن. فنحن نقوم بجمع العينات بشكل يومي». ما لا يطمئن له جبران، هو الآبار الارتوازية الخاصة، ولا سيما في حال استخدامها لبيع المياه بالصهاريج. طمأنينة جبران تماثلها طمأنينة دائرة الصحة في بلدية بيروت التي أصدرت بياناً يوم الجمعة الماضي حسمت فيه عدم تلوّث مصادر المياه في نطاقها، مؤكدة أنها تقوم يومياً بأخذ عيّنات من عدد من الآبار الارتوازية بناءً على توجيهات محافظ بيروت مروان عبود. ووفق الفحوص المخبرية، «أكدت النتائج أن العينات كافة خالية من الجراثيم والكوليرا».


الشمال: تكرير غير مكتمل

على خطى جبران، سار خالد عبيد، المدير العام لمؤسسة مياه لبنان الشمالي. «كلّ المياه الموزّعة من مؤسسات المياه صالحة للاستخدام»، لكنه يربط صلاحيتها بالمعالجة. أما قبل ذلك «فتصبح معظم مصادر المياه ملوّثة». في الشمال الذي شهد انطلاقة الكوليرا، استنفرت مؤسسة المياه لمراقبة جودة المياه وتعقيمها في الخزانات والآبار التابعة للمؤسسة «لكن هناك مصادر أخرى للمياه كالآبار الخاصة والينابيع»، مستدركاً خطراً محدقاً بشبكات مؤسسته «هناك مخاوف من اختلاط الصرف الصحي بمياه المنازل في حال انكسار أحد قساطل الشبكات». كما يتخوّف من المياه المبيعة في الصهاريج، لكن «ليس لدينا صلاحية على أصحاب الصهاريج. وكيف يمكننا ضبط جميع من يسحب المياه من القنوات والعيون والينابيع؟». وفي هذا السياق، تقول مصادر بلدية لـ«الأخبار» إن الأجهزة الأمنية رفضت طلب المؤسسة مؤازرتها في ضبط التعدّيات على الشبكات وتوجيه الصرف الصحي إليها، بسبب ضيق الإمكانات وقلة العديد.

يحيل عبيد الحلّ بضمان جودة المياه، إلى تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصرف الصحي. «طالما أن محطات التكرير لا تعمل بالشكل المطلوب، خطر تلوّث المياه قائم». في نطاق المؤسسة، فإن محطة طرابلس الأضخم في لبنان، عملها متعثّر لأن شبكاتها الموصولة ببلدات ساحلها الجنوبي وزغرتا والكورة والضنية، ليست مكتملة بعد.


البقاع والجنوب: التعقيم الذاتي

الأكثر يأساً بين مديري مؤسسات المياه، كان وسيم ضاهر، المدير العام لمؤسسة مياه لبنان الجنوبي الذي أوكلت إليه أخيراً إدارة مؤسسة مياه البقاع مؤقتاً. «البقاع مقبل على كارثة خلال فصل الشتاء بسبب عدم قيام المنظمات الدولية بتفريغ الحفر الصحية في تجمعات النازحين السوريين، التي ستفيض إلى البلدات المجاورة والسهول الزراعية وتتسرّب إلى المياه الجوفية». في مستوى واحد، يحمّل ضاهر مسؤولية تلوّث مياه البقاع للمنظمات الدولية كما إلى تلوّث نهر الليطاني، وإلى تعثّر تشغيل محطات الصرف الصحي. أما الأسباب التي تسهّل انتشار الكوليرا فهي واحدة في الجنوب والبقاع، وإن فاقت نسبها بقاعاً: «ريّ المزروعات بالمياه المبتذلة وتوجيه الصرف الصحي للبلدات وتجمعات النازحين إلى قنوات الريّ والأودية ثم تسرّبها إلى المياه الجوفية، إلى جانب التعدّيات على الشبكة الذي يتسبّب بتلوث المياه المعقمة التي تضخها المؤسسات بملوّثات خارجية».


كلّ مواطن مسؤول عن التعقيم الذاتي للمياه في منزله

في نطاقه، تبلّغ ضاهر عن قيام أشخاص بتعبئة مياه من نهر الأولي وبيعها بالصهاريج في صيدا وضواحيها. وفي البقاع، تبلغ عن ريّ بعض السهول بالمياه الناتجة من محطات التكرير من دون معالجتها. كما تبلغ عن تسرّب النفايات السائلة من معاصر الزيتون في حاصبيا ومرجعيون إلى الأنهر والمياه الجوفية. «وفي حال تعقيم تلك المياه بمادة الكلور، تصبح مسرطنة باختلاطها مع المواد النفطية التي يحتويها زيبار الزيتون». المخرج الذي يقدّمه ضاهر مع غياب إمكانات المؤسسات والأجهزة الأمنية، هو التعقيم الذاتي «على كلّ مواطن أن يعقّم مياه الخزان في منزله بمادة الكلور لضمان تعقيمها في حال تعرّضها للتلوث في الطريق من المؤسسة إليه».



من عرسال إلى إيعات: من يحمينا من التلوّث؟

رامح حمية

قبل أكثر من شهر، أثارت «الأخبار» قضية خشية القرى المجاورة لعرسال من التلوّث، بسبب تفريغ مياه الصرف الصحي لمخيمات النازحين السوريين، في برك ترابية تقع في مجرى السيل لبلدات العين والفاكهة وراس بعلبك، ما يهدّد بوصولها إليها. على إثرها، كلّف المحافظ بشير خضر مصلحة الصحة في المحافظة بإجراء كشف عاجل على هذه البرك، للتأكد من مطابقتها للشروط الصحية والبيئية. وبنتيجة الكشف الميداني تبيّن «وجود 4 حفر مخصّصة لهذه الغاية، وجميعها غير مطابقة للمواصفات، ما يهدّد مياه الشفة، وأنّ حفرتين منها تقعان على مجرى السيل، ما يهدّد باختلاطهما بنبعَيْ بلدتي العين والفاكهة عند انجراف مياه الأمطار».


الكارثة وشيكة

مضى أكثر من أربعة أسابيع على نيّة المحافظ اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المتسبّبين بهذه الكارثة، لكن حتى اليوم لا تزال الصهاريج تفرغ حمولاتها من مياه الصرف الصحي، بحسب ما أكدت مصادر مطلعة في عرسال لـ«الأخبار». وبما أن فصل الأمطار بدأ، فإن الخشية باتت أكبر من أن تكون مخاطر التلوّث أسرع وأكثر انتشاراً، بحسب ما يؤكد لـ«الأخبار» وسيم ضاهر، المدير العام لمؤسسة مياه الجنوب وبالوكالة مؤسسة مياه البقاع، إذ يؤكد ضاهر أنّ البرك الأربع «لا تزال تُعتمد، وخلافاً للمعايير من قبل المنظمات الدولية، لتفريغ الصرف الصحي، وهذا الأمر يُعدّ كارثة بكلّ ما للكلمة من معنى». وبما أنّ لا صلاحيات للمصلحة في هذا الإطار «سنتوجه بكتب خطية إلى سائر الوزارات المعنية لوقف تلك الكارثة التي ستنشر التلوّث في المنطقة بأكملها».

كما يشكو أهالي عرسال من عدم اهتمام الدولة بشؤونهم، فيؤكد عدد منهم أنّ وزير الصحة العامة فراس أبيض يزور عرسال دورياً و«نحن نناشده النظر في معاناتنا وتوفير المياه المكرَّرة لنا كلبنانيين أسوة بالنازحين السوريين، خصوصاً أنّه أشرف على تشغيل محطة التكرير الخاصة بالسوريين، وسؤالنا لماذا التأكيد على تشغيل محطه تكرير مياه للشفة دون غيرها؟ وهل على العراسلة أن يشربوا مياهاً غير مكرّرة تهدّد صحة أبنائهم؟!».


محطة التكرير في إيعات

ليس بعيداً عن عرسال، ثمّة محطة تكرير للصرف الصحي في بلدة إيعات، متوقفة عن العمل منذ أكثر من سنة. بحسب حسين عبد الساتر، رئيس بلدية إيعات، المحطة تحتاج إلى تصليحات ولا يمكن أن يبدأ تشغيلها قبل عام، مستنداً في رأيه إلى أنّ «معدّات المحطة معطّلة نتيجة الإهمال الذي أصابها من المشغّلين، ومن عدم تنفيذ أعمال الصيانة الدورية»، كاشفاً أنها تحتاج «إلى ما لا يقلّ عن 23 مليون دولار لتحديثها، وتجميع المياه وإعادة تشغيلها، وقد موّل الاتحاد الأوروبي تشغيل سائر محطات تكرير الصرف الصحي في لبنان ومحطة إيعات من ضمنها».


وعود بعودة محطة إيعات إلى العمل مطلع العام المقبل بدعم من الاتحاد الأوروبي


الجدير ذكره، أنّه ومنذ أربع سنوات، أوكل إلى مؤسسة مياه البقاع تشغيل محطة إيعات، إلا أنّها لم تشغلها لعدم توفر القدرة على تشغيلها. في المقابل، يؤكد المدير العام لمؤسسة مياه البقاع بالوكالة وسيم ضاهر، أن «الاتحاد الأوروبي سيبدأ تشغيل المحطة مطلع العام المقبل». وفي هذا الإطار، تحذّر مصادر مطلعة من استمرار توقف المحطة عن العمل لأن «هذا قد يؤدي إلى تراكم كميات الوحول فيها»، مقترحة «إقامة برك وطمر الوحول فيها، بإضافة الكلس أو الكلور ومن ثم طمرها، والاتحاد الأوروبي قادر على إنجاز المهمة وتشغيلها ما لم تكن هناك مشاكل أخرى!». حلّ يرفضه عبد الساتر بقوله: «منذ أيام فوجئنا بنيّة مؤسسة المياه إقامة برك لنقل الوحول إليها، ما دفعنا للاعتراض لأن ما يقومون به قد يتحوّل إلى بؤرة للكوليرا، وكلّ ما طالبنا به هو اعتماد طرق أخرى للتخلص من الوحول، فاقترحوا اعتماد الإيدروكلورين، وهو ما رفضناه أيضاً لأنه يتبخّر بسرعة، وما زلنا بانتظار وسيلة يعتمدونها للتنظيف والعمل».


تلوّث المياه الجوفية

إلى محطة التكرير، تبرز مشكلة تلوّث المياه الجوفية في إيعات، إذ يشير عبد الساتر إلى أن مشروع «غوثام»، أو إدارة وحوكمة المياه الجوفية في بلدة إيعات الذي ينفذه الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع بلدية إيعات منذ عام 2018 كشف أنّ الينابيع في الجهة الشرقية والشمالية لمحطة إيعات نظيفة وصالحة للشرب، في حين أن سائر المياه والآبار في المنطقة الجنوبية والغربية أسفل المحطة غير صالحة للاستعمال المنزلي والزراعي. إلا أنّ عبد الساتر يطمئن في المقابل، إلى أنّ المزارعين في سهل إيعات توقفوا عن ريّ مزروعاتهم بمياه الصرف الصحي بسبب عدم تشغيل محطة التكرير، وأنّه منذ انتشار الكوليرا «نفّذت جولة بمؤازرة جهاز أمن الدولة على سهول وقرى اتحاد بلديات بعلبك ولم نجد أيّ مخالفات لجهة ريّ المزروعات من مياه الصرف الصحي، لكنّ اليونيسف وخلال الفترة السابقة كانت ترسل صهريجين للصرف الصحي ليفرغا حمولتهما من مخيمات النازحين في بعلبك في مجرى المحطة، وأمام اعتراضنا وادّعائنا على سائقي الصهريجين، عمدت إلى إنشاء محطة تكرير صغيرة للصرف الصحي خاصة بالنازحين السوريين داخل حرم محطة إيعات، بدأت عملها منذ شهرين». في المقابل، أكّدت مصادر أمنية لـ«الأخبار» استمرار عدد من المزارعين في الريّ من أقنية وشبكات الصرف الصحي الممتدة في سهل إيعات حتى دير الأحمر وبلدة الكنيسة.

تجدر الإشارة إلى أن محطة تكرير الصرف الصحي في تمنين التحتا، والتي تُعتبر المدماك الأساسي للتخلص من كلّ ذلك التلوث في الحوض الأعلى، توقفت الأشغال فيها بشكل شبه تام بعد تخلّف الدولة عن دفع المبالغ المترتّبة للصناديق المموّلة، كما سبق لـ«الأخبار» أن نشرت ذلك مطلع الشهر الفائت.

محطة تكرير مستشفى المياس (مروان بوحيدر)
محطة تكرير مستشفى المياس (مروان بوحيدر)


أحد مجاري نهر الليطاني (مروان بوحيدر)
أحد مجاري نهر الليطاني (مروان بوحيدر)


احدى الحفر التي يتم فيها تفريغ الصرف الصحي من مخيمات النازحين
احدى الحفر التي يتم فيها تفريغ الصرف الصحي من مخيمات النازحين


مخيّمات النازحين: «حفر صحية» بالجملة
مخيّمات النازحين: «حفر صحية» بالجملة


تعليقات: