العبقريّة اللبنانيّة

مايكل دبغي
مايكل دبغي


تحفل وسائل الإعلام اللبنانية بالحديث عن فرادة الشعب اللبناني، وإنجازات لا تحصى لأبنائه، ولا سيّما المهاجرون. ما سرّ هذه العبقريّة؟ هنا بعض الأمثلة ومحاولة لتحليل الظاهرة..

حاز مايكل دبغي على مساحة محترمة في الصحافة الأميركية عند وفاته. لكنّ المقارنة بين تغطية وفاته في الصحافة اللبنانيّة والأميركيّة كانت لافتة. الصحافة اللبنانيّة جعلت منه قومياً لبنانياً قضى أجمل أيّام حياته في زيارة قصيرة إلى لبنان. والصحافة اللبنانيّة تبنّته بالكامل كلبنانيّ مقيم (مؤقّتاً) في أميركا. لكنّ الصحافة الأميركيّة لم تذكر أمر لبنانيّته، وإذا ذكرته فَعَرضاً وكمحلّ للولادة فقط، إذ إن الرجل عدّ نفسه أميركياً. ويعتقدون في لبنان أن كل مواطن أميركي من أصل لبناني يفتخرُ بالضرورة بلبنانيّته، وهذا غير صحيح. مرّ عليّ في التدريس تلميذ في واشنطن قبل أكثر من عقد من الزمن، وكانت أمّه لبنانيّة. وعمل أثناء الدراسة في تشغيل مصعد مجلس الشيوخ. وجاء مرّة إلى مكتبي ممتعضاً لأنه صدف السناتور السابق، جورج ميتشيل، فكان أن سأله إذا كان يتكلّم العربيّة لكونه ـــ كما روَت له أمه ـــ لبنانياً. لكن السناتور أجابه بصلف شديد: «لا، أنا لا أتكلّم العربية لأنني لستُ لبنانياً. أنا إيرلندي». وفي لبنان يجعلون من الرجل لبنانياً لا يخلد إلى النوم قبل سماع الميجانا. وحتى المتفوّقون من غير اللبنانيّين يجعلون منهم في لبنان لبنانيّين رغم أنفهم، مثل المخرج الأميركي (من أصل يوناني) إيلي كازان، الذي كرّمته محطة القوات اللبنانية لأنها ظنّت أنه من عائلة قازان البيروتيّة. ما هذا الهوس بالتفوّق اللبناني المزعوم والعبقريّة اللبنانيّة المُفترضة؟ والوزير السابق شارل رزق (في حديث مع جريدة «المستقبل السلفي») قال إن فؤاد شهاب «استدعاه» من فرنسا بعدما عَلِم بتفوّقه. وهل هناك في الدنيا من لم يسمعْ بتفوّق شارل رزق؟

تأتي إلى أميركا فتظن أن جبران شاغلٌ لهذه الثقافة كما علّمونا في لبنان. تعلم أنه لم يكن مفكراً أو فيلسوفاً، وتعلم أن كتاب «النبي» تقليدٌ سطحي لكتاب نيتشه الفذ «هكذا تكلّم زرادشت»، لكنك تظنّ أن أدبه لا بد أن يحتلّ حيّزاً ما. تُصدَم. تكتشف أن كتاباته لا تُدرج في قسم أدبي في أية جامعة، مع أنه مقروء كما يُقرأ الناس في بلادنا إحسان عبد القدوس أو مصطفى لطفي المنفلوطي لإنشائيّته المفرطة. وعندما وصلتُ إلى مدينة بوسطن للتعليم في إحدى جامعاتها قبل نحو عشرين سنة، سألتُ أوّل ما سألتُ صديقاً فلسطينيّاً مقيماً في المدينة أن يأخذَني إلى «نصب» جبران ـــ على ما كنتُ قد قرأتُ في «النهار» يومها ـــ في ساحة «كوبلي» في بوسطن. ذهبنا إلى الساحة المحاذية للمكتبة العموميّة في المدينة، فلم نعثرْ على أثر. مشينا ولففنا ودرنا وسألنا المارة وشرطي المحلّة، من دون أي أثر، إلى أن وقعنا على لوحة معدنيّة (قد تكون تَنَكيّة، لن أجزم) صغيرة كانت مغطاة بأوراق الشجر وفيها إشارة إلى جبران. تكتشف أن حسن كامل الصباح بولغَ في اختراعاته، وأن الصهيونيّة العالميّة لم تكن وراء موته. يقولون لك إن شارل مالك هو عَلَم فكري، فتكتشف أنه معروفٌ فقط في أوساط المُسنّين من اليمين المسيحي المتطرّف الذي لعب دوراً في مكافحة الشيوعية. وَعَدَهم أمين الجميل بأن يُدهشَ العالم بشعب لبنان، وهو بالفعل أدهشَ العالم بفسادِ حكمِه وبوحشيّة الحرب الأهلية التي ساهمَ في تأجيجها وفي إطالتها.

وزير العدل اللبناني أكّد بإصرار في مقابلة تلفزيونيّة أن لبنان هو «إمبراطوريّة بكل معنى الكلمة». وسعيد عقل يؤكّد أن لبنان هو واحد من ثلاث حضارات عبر التاريخ البشري. والأخوان رحباني أعلمونا أن أرزَ لبنان «عاجق» الكون، ونبيل بو منصف، خبير المحليّات وشؤون أخرى في جريدة «النهار» (وهو غير مسؤول المحلّيات الجديد في نشرة آل الحريري)، يتبرّم من الطبقة السياسية في لبنان لأنها لا تعكس «العبقرية» اللبنانية. وشاشة القوات اللبنانيّة تبثّ بتكرار مزعج (بمثل إزعاج تكرار بثّ أغنية «قطّورة») أهزوجة معنى أن تكون لبنانياً.

لمَ كل هذا الضجيج ومن أين أتى؟ يجب التساؤل عن العلاقة بين الأساطير المؤسِّسة للبنان الحديث (إذ ليس هناك من لبنان قديم إلا إذا صدقنا أن الطوائف المتنازعة والمتناحرة في جبل لبنان شكَّلت وطناً بحدّ ذاتِه) وبين هذا التداول المنتظم لحروب أهليّة وحشيّة بين سكان البلد الصغير الذي يضيق بأبنائه وبناته. ويجب أيضاً محاولة الربط في التحليل بين أسطورة تأسيس إسرائيل وأسطورة تأسيس كيان موطئ قدم المستعمِر الفرنسي. وقد آن الأوان للتعاطي مع هذه الظاهرة المَرَضيّة في الثقافة السياسيّة والشعبيّة اللبنانيّة. تجد آثارها كيفما التفتَّ. هي موجودة في الصحافة اللبنانية وفي الأحاديث العاديّة بين الناس. لا ندري متى بدأت، ولكنك تدري كيف انتشرت وتأسَّست واستمرّت. جريدة «النهار» ومن بعدها شبكة «إل.بي.سي» لعبتا دوراً كبيراً في هذا الترويج المحموم الذي سرعان ما انتشر في باقي وسائل الإعلام وأدواته في لبنان. نظرية التفوّق اللبناني كانت سمة لصحيفة «النهار» و«العمل» قبل الحرب: كانت الصحافة التقدميّة مثل المحرّر (التي دمّرتها قوات الردع السوري بقيادة الماريشال سامي الخطيب الذي يروي في مذكّراته أن النظام السوري وعدَه بـ«عدم المسّ بحرية الصحافة»، وذلك بعد تدمير مبنى «المحرّر» وإحراقِه بالصواريخ (ص. 427 من كتاب «في عين الحدث» لسامي الخطيب)) تسخر من مزاعم التفوّق اللبناني وتربطها عن حق بخزعبلات وترّهات الأيديولوجيّة الفينيقيّة.

الأسباب التاريخيّة والتجلّيات العنصريّة

من أين تبدأ؟ ليس هناك من تاريخ سحيق للبنان لتعود إليه. حتى فيليب حتي الذي كتب تاريخاً مفصّلاً للبنان اعترفَ بأنه يكتب تاريخاً للشعوب التي قطنت في الأرض المتعارف على تسميتها بلبنان. من أين أتت فكرة الوطن الممتدّ (والمُستريح) على مرّ العصور والتاريخ؟ هل تأثّرت الفكرة اللبنانية بالفكرة الفرعونيّة التي سادت في بعض أوساط النخبة المصريّة المهادنة للمستعمِر قبل الثورة؟ والفكرة الفرعونيّة (التي أثّرت على فكر طه حسين المتأثر بالفكر الاستشراقي المفتون بالفرعونيّة آنذاك)، تعتمد على سياق تاريخي مُوثّق لدولة مصر. وكتاب «مئير زمير» عن نشوء الفكرة اللبنانيّة يتحدّث بإفاضة عن دور اللوبي اللبناني في مصر آنذاك في الدعوة إلى إنشاء الوطن. لكن أصداء العقيدة الصهيونيّة موجودة في تضاعيف الفكرة اللبنانية. ظنّ المؤسِّسون الأوائل أن بمستطاعهم جذب اهتمام الرجل الأبيض إذا ما قلَّدوا الدعوة الصهيونية بحذافيرها، وهذا ما فعلوه. علموا أن الفكرة الصهيونيّة جذبت الرجل الأبيض لن مؤسِّسيها من الأوروبيّين البيض، مثل ثيودور هرتزل وحاييم وايزمان، اللذين كانا على علاقة رفع كلفة مع عليّة قوم القارة آنذاك. وهذا يفسّر في ما يفسّر هذا الجنون في المخيّلة اللبنانيّة الذي يجعل بعض اللبنانيّين يصدّق أنه أوروبي بالرغم من عناد الجغرافيا (الثابتة. ولو كان بمقدور فينيقيّي لبنان أن ينقلوا لبنان إلى أوروبا لفعلوا). وهذا يفسّر أيضا المحاولة البائسة في جذب اهتمام الرجل الأبيض من خلال التماهي مع عقيدة طغيان العرق الأبيض التي تسيطر على الثقافة السياسيّة والشعبيّة في لبنان (الكل، في المعارضة السابقة وفي الموالاة الدائمة، يؤكِّد أن لبنان ليس... ويضيفون، بلداً أفريقياً، والكل يستعمل كلمة «سريلانكي» للتحقير، كما فعل وئام وهاب قبل أسبوع). وقد لعب اللبنانيّون المهاجرون في أوائل القرن العشرين دوراً كبيراً في الطلب من الحكومة الأميركية عدم اعتبار اللبنانيّين (والسوريّين إذ كانوا إخوة آنذاك) من «العرق الأصفر» وفق التصنيف القانوني السائد في ذلك الحين، واستطاع اللبنانيّون الحصول على شهادة تقدير من الرجل الأبيض واعتبارهم من مواليه. (مع أن الصحف الأميركية، مثل «النيويورك تايمز» كانت تنشر مقالات عنصريّة عن المهاجرين اللبنانيّين (كانت تسمّيهم سوريّين ربما لإزعاج صولانج الجميّل) من الموارنة وتقذفهم بأقذع النعوت والأوصاف).

وفكرة أوروبية لبنان ضرورية أيضاً (الحديث عن الأنواع وفق تصنيف العادي والأفضل من الطوائف كما فعل الوزير السابق شارل رزق عندما تحدّث على درج البطريركيّة المارونيّة عن «تفوّق حضاري» لـ«لمجتمع المسيحي» في لبنان ـــ لم يسألْ رزقَ أحدٌ من الصحافة لما فاتته هذه النعمة من التفوّق) من أجل خلق تراتبيّة تُسوِّغ لسيطرة طائفة على أخرى، مثلما فعلت الصهيونيّة في أرض فلسطين العزيزة عندما قال اللورد بلفور إن ميزان «تقرير المصير العددي» لا يتوافق مع وعده الشهير الذي كرّس شهادة الولادة للدولة اليهوديّة. وكان المؤسِّسون اللبنانيّون (العنصريّون الطائفيّون، عليك أن تضيف) يربطون بين دولتهم المنشودة والدولة اليهودية في فلسطين. وهذا يفسّر سبب تبنّي المطران مبارك وإميل إدة للمشروع الصهيوني بحذافيره، ويفسّر أيضاً التحالف الوثيق بين حزب الكتائب وإسرائيل منذ الخمسينيات.

وكان البطريرك أنطون عريضة (المتحالف هو أيضاً مع الصهيونيّة، ويمكن معرفة المزيد عن العلاقة والاتفاق الرسمي بين البطريركية المارونية والحركة الصهيونيّة لو أمر البطريرك صفير بفتح خزائن بكركي أمام الباحثين والباحثات، لكنّه متكتّم ومتستّر. لعلّ هناك ما يحاول إخفاءه، من حقّنا أن نتساءل) صريحاً في تلك المذكّرة الصارخة في طائفيّتها التي رفعها للأمم المتحدة في عام 1948 (كان إعلام القوات اللبنانية يوزِّعها في كرّاس خاص عند التحضير الحماسي لاجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982). وقال مبارك في ما قال إن لبنان «هذا الوطن موجود منذ القدم... ذلك البلد الوحيد الذي يمتاز عن سواه في هذا الشرق الفسيح، بشرائعه المستمدّة من المبادئ المسيحية الحقة...». وذَكَر البطريرك الموقّر أن شعب لبنان هو من «أحفاد أعرق الحضارات البشريّة». وفي إشارة البطريرك عريضة إلى حقبة الصليبيّين (وهي حقبة ذهبيّة بنظره) فإنه يشرح سبب التآلف (المزعوم) بين مسيحيّي الشرق والصليبيّين، فيعزوه إلى أن «ثقافة واحدة ورقيّاً واحداً وذهنية متشابهة» تجمع بين الطرفين. أوّاه، أيها الرجل الأبيض، أوّاه، كما كان بدر شاكر السياب يقول في أشعاره الحنونة. (وكان البطريرك عريضة يصف الرجل الأبيض بـ«المجتمع المتمدّن» مثلما يصف فريق 14 آذار الرجل الأبيض اليوم بـ«المجتمع الدولي»). واستعمل البطريرك عريضة تلك الكلمة المفتاح: فهو رأى أن الأدب العربي هو من «نتاج عبقريّة المسيحيّين». ومن الطريف أن نظريّة «العبقرية اللبنانية» تعرّضت للتطوير مع التغيير السياسي (والديموغرافي) للوطن الصغير (لكنّ «إمبراطورية» لبنان، وفق وصف وزير العدل النبيه، ليست صغيرةً أبداً). فتفسير العبقريّة في كتاب عريضة كان واضحاً: فهو تحدث عن «حضارة» مسيحيّة، وهي التي تنتج تلك العبقريّة اللبنانيّة. لكن التغييرات الديموغرافية في لبنان، بالإضافة إلى الإصلاحات السياسية التي فرضتها نتائج الحرب الأهلية عسكرياً، وخصوصاً بعد كسر شوكة حكم أمين الجميل (ومحاولة أخيه من قبله الاستيلاء على السلطة بدعم إسرائيلي)، غَيَّرت من التفسيرات المُعطاة لعبقريّة هذا الشعب. فبعد خفوت أصوات تشكيل لبنان وطناً قومياً للمسيحيّين ـــ على غرار الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين ـــ تطلّبت الفكرة اللبنانية غطاءً جامعاً للفكرة ذاتها، وجدتها في هذا الاختلاق (غير التاريخي) لأسطورة الفينيقيين.

وعليه، أصبحت العبقريّة اللبنانية نتاج «حضارة» الفينيقيين، وكلمة حضارة (عندما تكون) مقرونة بالفينيقيين بعيدة كل البعد عن الدراسات التاريخيّة الجادّة والرصينة لتاريخ المدن الفينيقيّة. أما الحديث عن شعب أو وطن فينيقي، فلا يمتّ بصلة إلى علم التاريخ، وإن كان يمتّ بصلات إلى المهازل التي تُستعرض في مسرحيّات منصور الرحباني وأولاده. فالمدن الفينيقيّة لم تكن متآلفة متحابّة في ما بينها. على العكس، فإن حروباً ونزاعاتٍ وَسَمت تلك الحقبة، وهي حقبة واحدة من حقبات تاريخية متعاقبة على أرض ما يعرف اليوم بلبنان، مع أن تداخلاً ربط بين شعب أرض لبنان والشعوب المجاورة. لكن مفهوم فلسطين، بالمقارنة، كما اعترف «يهوشوا بورات» في كتابه عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية (جزء أول)، استمرّ عبر التاريخ واعترفت به التقسيمات الإدارية والعسكرية في العهديْن العربي والعثماني. وقد أسهم العديد من دعاة الوطنية اللبنانية (أو الصهيونيّة الفينيقيّة) في ضخّ كمّ هائل من الأكاذيب في المنهج الدراسي المُقرَّر، مما عزّزَ في تأسيس فكرة متطرِّفة للوطنيّة اللبنانيّة، أو النسق اللبناني للنازيّة الذي أتى به بيار الجميّل من برلين.

وهذه الفكرة دشّنها باكراً الاستشراق اليسوعي، وخصوصاً في كتابات هنري لامنس ولويس شيخو. وقد بكّر لويس شيخو في بلورة تصوّر مدرسي ـــ منهجي لتاريخ مختلق للبنان عندما أشرف في حكم المتصرفية على إعداد كتاب «لبنان: مباحث علمية» الرسمي. وجمع شيخو بين علم ومعرفة غزيريْن وقدرة على الاختلاق وعلى إهمال قرائن لا تتوافق مع منطلقاتِه الطائفيّة ـــ السياسيّة. وتجلى هذا أكثر ما تجلى في كتابيْه عن «شعراء النصرانيّة» الذي أصرّ فيه على تنصير شعراء يهود ووثنيّين وغير مسيحيّين (ولا يمكن الاستهانة بتأثير شيخو ومجلة «المشرق» التي جذبت عدداً كبيراً من كتّاب المرحلة ومثقّفيها. فسعيد عقل وفؤاد أفرام البستاني هما متخرجان في مدرسة شيخو. وكان لفؤاد أفرام البستاني دورٌ رسميّ في تأسيس التاريخ الرسمي في المنهج المدرسي المُقرَّر، بالإضافة إلى رئاسته للجامعة اللبنانيّة عند تأسيسها (مع أنه لم يكن حاصلاً على شهادة الدكتوراه، بينما اضطرّ عمر فروخ الذي حصل على دكتوراه «دولة» من ألمانيا وتتلمذَ على أيدي نخبة مستشرقي عصره إلى التدريس في المدرسة الثانويّة، لأن أهواءه السياسيّة، وأشياء أخرى، تناقضت مع شروط التوظيف في جامعات لبنان آنذاك).

وكان يمكن أن يكون دور سعيد عقل ثانوياً لو أنه لم يُلقِّح الإنتاج الرحباني بمفهومه الغريب عن لبنان. ولا شك في أن لاعتناق جريدة «النهار» فكر الوطنية الفينيقيّة الدورَ الكبيرَ لأنها في حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات كانت راسمةً لاتجاهات الرأي العام ولقيَم الثقافة السياسيّة والشعبيّة السائدة. كان لجريدة «المحرر»، و«السفير» في ما بعد، دورٌ مشكورٌ في كسرِ احتكار «النهار» لصنع الثقافة في لبنان. لكن من المؤسف أن قيم العبقريّة اللبنانيّة تسافر نحو الإعلام التقدمي أو ذي المنحى المعادي للفينيقيّة. ما معنى مثلاً أن تنشرَ كل جرائد لبنان في العام الماضي خبراً عن «اكتشاف» طالب طب لبناني دواءً لداء السرطان. والذي اطلع على جريدة «النهار» في أرشيفها يرى بأم العينيْن أنها لم تتوقفْ للحظة عن نشر أخبار عن «اكتشافات» للبنانيّين لأمراض مستعصية، وخصوصاً السرطان. ولا تزال «النهار» تعبِّر عن شغف مضحك بأخبار عن «اكتشافات» لأطباء ومشعوذين ـــ لا فرق ـــ لداء السرطان والإيدز وغيرهما من الأمراض. وتفتقر هذه الكتابات إلى حد أدنى من الثقافة العلمية، لأنها تفترض أن الاكتشاف العلمي الحديث يأتي مثل حدث وقوع التفاحة على رأس إسحق نيوتن، لا عبر تراكم كمّي من الاكتشافات العلمية البطيئة التي تبدأ في المختبرات وتستغرق سنوات أو أكثر قبل أن تصل نتائجها المباشرة إلى حقل التطبيق العلاجي على البشر. لكن هذا السعي الأهوج لإثبات التفوّق اللبناني يؤدي إلى هذا التهليل الحماسي للاكتشافات اللبنانية.

وعندما تقرأ هذه الإشارات إلى «العبقرية اللبنانية» تشعر برغبة قوية في مجالسة واحد من هؤلاء، نبيل بو منصف مثلاً، لتسأله: قل لي. كيف تفسر علمياً نظريَّتَك في «العبقريّة اللبنانيّة» حول العالم؟ هل تظن أن نسبة المتفوِّقين من اللبنانيّين حول العالم تفوق نسبتَها بين أبناء سريلانكا وبناتها، مثلاً (ويجب أن نستعمل مثال سريلانكا نظراً للعنصرية الآسرة التي يختزنُها «العقل» اللبناني نحو بناته وأبنائه)؟ هل يعتقد هؤلاء أن النبوغ في لبنان هو نتاج وصفة عرقيّة خاصة أنعم أحدُهم بها علينا، على ما ظن البطريرك عريضة وغيره ممن خلفَه في دعوة الوطن القومي المسيحي في لبنان؟ هل يظن هؤلاء أن العنصر الجيني اللبناني يختلفُ عن غيره من الجينات، مما يدفع بهذا الدفق الهائل من العبقريّة؟ أم أنهم يَردّون العبقريّة إلى المزج المبتكر بين البطاطا والكزبرة؟ أي إن وسائل الإعلام التي تروِّج لمقولة العبقريّة اللبنانيّة مُطالبة بتقديم تفسير علمي لها، وإلا فإننا مثقلون بالحيْرة، يا محسنين ومحسنات.

وقد أساءت هذه المقولة إلى عقول اللبنانيّين (واللبنانيّات)، وقد تكون مسؤولة عن «الأضراس المسوّسة» في فم الأمة، كما قال جبران مرة (متحدِّثاً عن الأمة السورية). فترى أن الواحدَ منهم عندما يحطّ رحالَه في بلد أجنبي يرى نفسه مطالباً فوراً بتقديم كشف فوري للأهل عن إنجازاته واكتشافاته ونجاحه المذهل الذي سلبَ عقول اللجنة الفاحصة. وتحفل جريدة «النهار» وجرائد أخرى بأخبار شبه يوميّة عن نجاحات وشهادات تقدير وأطروحات من كل حدب وصوب لا ينالها إلا اللبناني ـــ يقبر أمَّه. قد تدفع المواظبة على متابعة تلك الأخبار (المُختلقة) في أكثرها إلى الظن بأن هذا البلد المنكوب هو بالفعل إمبراطوريّة لا تغيب عنها... التبّولة. وهذا يفسّر إقبالاً كبيراً من اللبنانيّين (وبعضه في المجلس النيابي) على شراء الشهادات من شركات تبيعها مراسلةً وعبر الإنترنت، قبل أن تكتشف الشرطة أمرَها. وقد كشف تحقيق في شركة احتيال أميركيّة من هذا النوع أخيراً ونشر أسماء المُشترين، وكان منهم عدد لا بأس به من هؤلاء اللبنانيّين.

وقصة العبقريّة اللبنانية هي مثل الكذبة التي يتكرّر تردادها، مما يدفع إلى تصديقها. ولكن العقل (أو نور العقل كما يقول ابن العربي) يفرض شروطاً ومعايير لا تتوافر في مقولة عبقريّة هؤلاء اللبنانيين. وأين كانت تلك العبقريّة عندما تدافع اللبنانيون لخوض غمار حرب أهلية متوحّشة، إلا إذا قصدنا بـ«العبقرية» القدرة على اجتراح وسائل قتل وتعذيب مُبتكرة لم يسبقْنا إليها متحاربون من قبل، كما ابتكر حزب الكتائب القتل على الهوية وتقطيع أعضاء الذكورة لمن وُلد من طائفة عدوّة.

لا شك في أن هناك أسباباً تاريخيّة لظهور نظرية العبقريّة اللبنانيّة واستمرارها. هي تريد أن تميِّز لبنان عن غيره من جيرانه العرب وذلك من أجل:

1) ربطه بالمحاور الغربيّة، وإن كان الغرب لا يرى أن هؤلاء الفينيقيّين هم من الغرب.

2) عزل لبنان عن المحيط العربي والإسلامي ولصقه بحقبة الصليبيّين الذين يفتخرُ بهم غلاة الوطنية اللبنانيّة.

3) محاولة تعزيز الثقة بالنفس في أوساط قوم توالت الهزائم والإحباطات وخيبات الأمل عليهم، الواحدة تلو الأخرى. قد تكون نظرية المساواة بين الشعوب بعيدة عن أحلام اللبنانيين وتطلّعاتهم، وإن كانت هي الأقرب إلى المنطق وإلى العصر الحديث. لكنّ شيئاً ما يدفع بعض اللبنانيّين إلى الرغبة بالظهور المتفوِّق أمام الجيران، وأمام من يستعبدون (ويستعبدْنَ) في منازلهم. لو آمن اللبنانيّون واللبنانيّات بالمساواة، لَحرَّروا عبيدهم (وعبيدهنّ).

ملاحظة: لم يتوصّل هذا الكاتب بعد إلى «اكتشاف» دواء شافٍ لداء السرطان، بالرغم من طول إقامته في الغربة، وبالرغم من مزجه الطحينة بعدد من المأكولات. عش، ترَ.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا

تعليقات: