ماذا فعلت زينب؟


راح بضعة رجال ينفضون أيديهم من التراب والدم، بعدما دفنوا امرأة لتوّهم. بدوا كمن دفنوها هناك، في مقهى زوجها الذي كان شقيقها يرفع بابه الحديد ويقول على مسمع العشيرة أنه وافق الزوج على إعدام شقيقته، لا بل عتب عليه لأنه غدر به وسارع إلى قتلها قبله. بارك الرصاصات التي مزقت وجهها. فزينب، لأخيها، كانت عاراً، مجرد عارٍ، يجب غسله.

أصغر منها أم أكبر، لا نعلم. كبرا معاً على الأرجح. كانت لهما طفولة مشتركة بذكريات وصور عائلية وحياة. لا بأس. الشرف أولاً. العشيرة أولاً. ورجال العشيرة تجمعوا في المقهى والروح ترّف صامتة فوق رؤوسهم. حاكموا القتيلة بعد قتلها، وأطلقوا حكمهم المبرم بأنها كانت عاراً وقد غُسل، وأن باب الثأر لن يفتح، والحمد لله، ما دام أصحاب دم القتيلة قبلوا بسفكه. فهو دم حلال. والقاتل المتواري عن الأنظار توارى بأطفاله الثلاثة، وكوابيسهم التي ستلاحقهم لما تبقى من حياتهم، لكنه توارى مرفوع الرأس، بطلاً. وهو ليس ملحاً ليذوب أو مُجرماً لينبذ. هناك من احتضنه. فقد انتقم لشرفه هذا البطل، انتقم لرجولته. كان شجاعاً، أفرغ بندقيته في وجه امرأة. فعل ما يفعله كل شهم محله، يفرغ رصاصه في وجه امرأة. فعل ما يفعله الرجال الرجال منذ مئات السنين، يسند ظهره إلى أعراف وتقاليد ونخوة وأفكار مفتولة كالشارب. يقف أعلى تلة من رؤوس حامية لذكور أشدّاء يتميزون بالمروءة والشهامة وعزة النفس والرحمة والعفو عند المقدرة وسحق النساء.

ماذا فعلت زينب؟ ماذا فعلت للعشيرة كي تقتلها وتشهّر بها وتواريها على عجل كأنها هي الجريمة وليست ضحيتها؟ زينب لم تفعل شيئاً سوى أنها ولدت امرأة. هذا ينفي عنها أقل حقها بالدفاع عن وجهها وعن صوتها وعن عمرها. وزينب آخر من وقفت في صفّ النساء القتيلات. بعد قليل ستقف خلفها امرأة أخرى، وأخرى. وهو صف طويل، كخيط من الدم يسيل سؤلاً بلا جواب. بأي ذنب قُتلت؟ بأي ذنب قُتلنَ؟ بأي ذنب قُتلنا؟

في المحكمة المعقودة على عجل، لم تقتل العشيرةُ زينب مرة ثانية. العدالة الوحيدة التي نالتها هي عجز الذكور عن إعادتها من موتها ليقتلوها مجدداً. لكنهم توعدوا وجوه كثيرات ممن لم نر لهم وجوهاً، صغيرات وكبيرات، بمصير مشابه بالقتل من دون حق الدفاع عن النفس، حق الصرخة الأخيرة، توعدوهن بتدنيس أسمائهن بعد ذبحهن وبتمجيد القاتل ورفعه على الأكتاف. توعدوهن بقلّة قيمتهن عندهم، توعدوهن بلغة هي نفسها منذ قرون، لا تتغير ولا تتحول، بفائض في الهرمونات وفائض في العضلات وفائض في الاستخفاف بوجودهن. بفائض في العادات والتقاليد والأعراف والعقول التي كأحجار الصوّان. توعدوهن بأن النون هذه لعنة ستظل تلتف كمنجل حول أعناقهن. تحسب عليهن أنفاسهن، يوم ولدن ويوم..

يا جارات الحارة يا فتيات القرية

الخبز سنعجنه بدموع مآقينا

سنقص جدائلنا وسنسلخ أيدينا

لتظل ثيابهم بيض اللون نقية

لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة، فالمدية

ترقبنا في قبضة والدنا وأخينا

وغداً من يدري أي قفار

ستوارينا غسلاً للعار.

متى كتبت نازك الملائكة هذه القصيدة؟ قبل سبعين عاماً؟ كأنها كتبتها أمس. كأن الشاعرة بقيت وحدها بعدما غادر الجميع. تقف وتنوح فوق قبر زينب: غسلاً للعار.. غسلاً للعار.

تعليقات: