إيف لوباسكور: لماذا تتميّز اللبنانيّات بالإغراء؟

عارضة الأزياء اللبنانية نور عريضة في مجلة فوغ-الطبعة الفرنسية
عارضة الأزياء اللبنانية نور عريضة في مجلة فوغ-الطبعة الفرنسية


ينطلق إيف لوباسكور[1] من سؤال بسيط يُطرَح عليه: "لماذا تتميَّز اللبنانيّات بالإغراء؟"، وهو السؤال الذي تحوّل عنواناً لكتابه، ممّا قد يوحي بأن موضوع الكتاب الأساسيّ يتناول جوانب من حياة المرأة اللبنانيّة في اللباس والتبرّج، وطبيعة سلوكها وطرائق عيشها، وهو ما يميّزها بين سائر نساء الشرق[2]. ولكي لا يذهب فكر القارئ بعيداً ويتحوّل "السؤال العنوان" "فخّاً" لاجتذاب قرّاء النوع، يُلحِقه الكاتب بعنوان ثانويّ توضيحيّ: موجز في تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين كما أشرحه لأولادي، وهو ما يشكّل القسم الأول من كتابه، أمّا القسم الثاني فقد جاء بعنوان: "لقد أحرزنا تقدّماً"، وفيه يتناول مسألة الهجرة والإندماج في أوروبا.

الكتاب إذن قسمان، هما عبارة عن دراستين وضعهما الكاتب في فترتَيْن متباعدتَيْن، ومن الواضح أنّه يعالج فيهما، مِنْ طرفَيْ العالم، العلاقة المُلتبِسة بين الشرق والغرب، وذلك من منطلق ذاتيّ بعيداً من المنهجيّة العلميّة الصارمة، كما يوضح في مقدّمته، متّكلاً على ملاحظاته وعلى ما "يسّرته له الحياة من مشاهدات ومشاعر" بحسب تعبيره. هناك بالطبع المطالعات، لكن أيضاً مصادفات الحياة التي تترك انطباعات وتفتح المجال للتأويلات العفويّة والحدسيّة، تأويلات جريئة لكن مع الشكّ حيث يتوجّب الشكّ.

نتناول القسم الأوّل في هذا المقال على أن نعالج القسم الثاني في مقالٍ لاحق.


"لماذا تتميّز اللبنانيّات بالإغراء؟"

عادات وأعراف وتقاليد

الجواب البسيط والمباشر حول مسألة الإغراء النسائيّ يجده الكاتب في التقاليد الموروثة، وطبيعة المرأة الشرقيّة في أجواء التربية والأعراف والتقاليد. وإن كانت هذه النزعة إلى الإغراء هي وليدة حاجة حسّية جسديّة، أو شهوانيّة بالمعنى الصريح للكلمة، فإنّ لها ما يلازمها، أو ما هو امتداد لها في تقاليد معهودة من التزهّد والتشدّد في كبت الرغبات. كما أنّ لها ما يكمّلها في "الحياء"، والحياء ملازم دوماً للتباهي والتفاخر، "فمَن ليس عندها ما تحجبه، ليس عندها ما تعرضه". وبالتالي ليست المرأة اللبنانيّة قليلة الحياء، أو متجرِّئة، على غرار الفرنسيّات مثلاً، اللواتي لا يتميّزن بالإغراء ولا بالحياء، فيما اللبنانيّات يجمعْنَ الصفتَيْن معاً. وفي ذلك أنوثة شرقيّة، موروثة من تقاليد عريقة، حين كانت المرأة تبدي من وراء حجابها عيناً أو شفتين، كمادتَيْ إغراء. إنّها سياسة العرض والتمنّع، الطلب والرفض، وهو ما يذكّرنا بمعاناة الشعراء العرب، ومنهم امرؤ القيس في بيته الشهير:

"تَـصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ"

"تَصُدّ وتُبْدي"، هذا هو نوع الإغراء الموروث الذي تمارسه المرأة اللبنانيّة. وباختصار فإنّ المطلوب في جسد المرأة يبقى محجوباً عندها، فهي ترتدي فستاناً يكشف عن ظهرها مثلاً، وكما كانت المرأة قديماً تبدي عيناً أو فماً. ما يعني أن الأشكال أو المظاهر تتغيَّر فيما تبقى الذهنيّات هي نفسها. المرأة اللبنانيّة، والشرقيّة عموماً تصنع الفرق مع الغربيّات، عندما يبقى عندها ما هو مخبّأ، فتتولد الرغبة في الحصول عليها.

فماذا يعني أن ترمي اللبنانيّات جمالهنّ في وجه العالم؟ أهي الحيويّة الشرقيّة المتجدِّدة أم هو بتأثير من تَأمرُك لبنان؟ يرى الكاتب أنّ هذا قد يكون بفعل العاملَيْن معاً، لكن، كي نفهم ذلك، هو يدعونا إلى النظر في المسلكيّة الشرقيّة، سواء في مسألة الإغراء أو في سائر المسائل. وهكذا ينقلنا ببراعة من دراسة المظهر الخارجي إلى عمق النفسيّة الشرقيّة المتحكّمة بالسلوكيّات. فسلوك الإنسان الشرقيّ قائم على التناقض، إذ إنّ الشرق بحدّ ذاته متناقض، ويحبّ التناقضات. وهو ما يضفي على الشرق صفاته، "فالشرق حيويّ، متوتّر، يائس (وباعث على اليأس)، إنفعاليّ، مؤثِّر، لا يشعر أبداً بالرضى، في حركةٍ متواصلة وحياة دائمة، وذلك لأنّه لا يجد حلاً لتناقضاته، ولا يريد إيجاده (...) إذ ليس للتناقضات عنده سوى حلّين: الله والموت".

من هذه الفكرة يبدأ لوباسكور تحليل حياة الإنسان الشرقيّ في علاقاته باللّه والدين والشّرق والغرب والسياسة والتاريخ. وهو، على ضوء ما تقدّم، يستعرض تاريخ الشّرق في القرن العشرين عبر تحليل مواقف وسياسات أربعة فرقاء كان لهم تأثيرهم في هذا القرن، وهم: أدباء ومفكّرو عصر النهضة العربيّة، الحركات القوميّة، الحركات الإسلاميّة، والغرب وسياسته في الشرق... متناولاً تأثير ذلك كله في المرأة الشّرقيّة عموماً، واللبنانيّة خصوصاً.


العلاقة باللّه والدين

الشرقيّون يتوقون إلى الله ويخشونه في الوقت نفسه، لأنّه يتطلّب منهم كلّ شيء. فاللّه واحدٌ وبسيط وكامل وأرفع من كلّ موجود، بعيد من كلّ تعقيد أو تعدّد، لا كينونة ماديّة له وإلا صار عرضة للنقص. ومن هنا التناقض، الذي يصل حدّ الصراع، بين البسيط والمعقّد أو المتعدّد (...)، وإذا الشرقيّ ميّال من دون هوادة إلى المتناقضات، وهو ما يعكس في آنٍ معاً عدم الاكتفاء أو عدم الرضى الذي يوحي به العالم إلى الإنسان، وهذا أساس إنسانيّته، كما يعكس حبّ هذا العالم الذي لا يُقاوَم. إنها الطبيعة الإنسانيّة، وهذا ما يجعل كلمة "شرقيّ" مرادفة تقريباً "للبشريّ".

وإذ يجمع الشرقيّ بين متناقضاته كلها، تراه غير متصالحٍ مع نفسه في الكثير من النواحي، فهو مع الشيء وضدّه، متشدّد في أمرٍ ما ومتساهل فيه في مكان آخر، من دون أن يؤدّي ذلك إلى إنكار عدميّ للمتناقضات.


روّاد النهضة

كانت "النهضة" إصلاحية من نوعٍ آخر. فهي عبارة عن قطيعة على مستوَيَيْن، أوّلاً مع التقليد الشرقي أو السياسات السابقة، على غرار الإسلاميّين، ومع حالة انحطاط الشرق، بعكس الاسلاميّين. لقد حملت النهضة، حيّوية جديدة تميّز بها النهضويّون كونهم أعملوا الفكر، وراحوا يُفتِّشون عن "مجهولٍ" أو أمرٍ "خفيّ" (inconnu) يجب التفكير فيه، وهو ما يضرِب أشكال اليقين التبسيطيّة القائمة، وما يعني العودة إلى التعقيد، ومع التعقيد إلى حبّ الذات.

إن ما يخفيه تاريخ الشرق هو هذه الحاجة إلى إنكار الذات تبعاً لديناميةٍ موروثة، والتي فاقمتها تدخلات الغرب أو التواصل مع حضارته المتقدّمة. وهذا الانكار هو نتيجة الخجل بهذا الشرق في تخلّفه وانحطاطه وعجزه. ولقد كان الحلم المشترَك عند كلّ طليعيّي النهضة، ومنذ القرن العشرين الزاهر وحتى زمن القوميّين الاستبداديّين ودعاة الاشتراكية وحتى الماركسيّة، هو إلغاء الشرق والتحوّل إلى نوعٍ من "غربٍ" بسيط عقلاني وفعّال، وهو ما سرّع في انهيار الشرق. فالكل أرادوا أن يجعلوا من بغداد أو بيروت ضاحية من ضواحي نيويورك.

ويرى لوباسكور أنّ في سلوك هؤلاء النهضويّين قطبة خفيّة، أو خديعة، لا تخفى آلية عملها على النبهاء، وهي تقضي بتمجيد الهوية التي يعملون على تدميرها وتمجيد الماضي الذي يريدون تصفيته. لكن من ناحية أخرى، أبرزت النهضة التناقض والتعارض مع الحركات الاصلاحيّة الإسلاميّة التي تميّزت بالتزمّت، ولم تذهب إلى ما هو أبعد من ظاهر الكلام.

وأيّاً يكن، فمع هؤلاء الروّاد في مرحلة العشرينات، وبعد سقوط الدولة العثمانيّة التي كان الانحطاط معها أكيداً، استُعيدت الثقة وجرأة الاعتراف بالذات، لكن نكبة فلسطين في آخر الأربعينات شكّلت سقطة جديدة، إذ أغرقت الشرق مجدَّداً في العار، ومجدّداً كره الشرقيّون حضارتهم وثقافتهم وماضيهم.


القوميّون والإسلاميّون

لفهم موقف القوميّين، ومعهم الإسلاميّون، يقيم لوباسكور الفرق بين الهوّية (identité) والهويّاتيّة (identitaire). فالهوية لا تعي ذاتها إلا بشكل غامض وضبابيّ، وهي لا تبرز إلا في حالات استثنائيّة، عند التعرّض للخطر أو لاعتداء... وهي أساساً معقَّدة ومتراكبة تاريخيّاً كونها في تطوّر مستمرّ يحولّها ويعيد قولبتها لتصبح هوّية أخرى مختلفة. وباختصار فإنّ الهوّية هي وليدة عمليّات "مراكمة" و"تحوُّل" و"نقل" (أو تناقل).

أمّا "الهوّياتيّة" فلا شأن للنقل فيها، بل هي تقول بوجود ثابتة تاريخيّة كبرى لا تدين بأي جديد للجيل السابق مباشرة، أي المفترَض أنّه ينقلها. هي عملية "تماثُل" أو "تَكَنُّه" (تحقيق الذات). وهي، بعكس الهوّية، عمليّة وعي واثقة من الكينونة أو مما نريد أن نكون عليه، وكوننا نريده يعني أنّه لم يعد موجوداً، ولأنّه لم يعد موجوداً تبرز الحاجة إلى التباهي به (أنا فخور بأنّني "كذا"...). وتصبح الهوّية وعاءً لكلّ المكبوتات، تُرمى فيه بشكل كاريكاتوريّ كلّ الرغبات التي لم تتحقّق. وهنا لا ينتبه مصنّعو الهوّياتيّة، الذين لا يتوصّلون إلى معرفة ما كانت عليه الهويّة، إلى أنّهم يغشّون، وأنّهم يخدعون أنفسهم أوّلاً بأوّل. فيتساءل لوباسكور مثلاً عن دلالة كلمة "عربيّ" وعلى من تنطبق هذه الصفة، ليشير إلى أنه كان يُشار بها تحديداً إلى بدو الجزيرة العربيّة لا أكثر، أما سكان العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر فما كانوا قبل الاستقلالات يعتبرون أنفسهم عرباً. فكيف شملت "العروبة" الشرق كلّه بما فيه حتى من مسيحيّين ويهود. ويرى أنّ القاسم المشترك هو اللغة العربيّة ولذلك أطلقت الصفة على الناطقين بالعربية لتمييزهم عن الغربيّين، ثم اعتُمِدت لتمييز أهل المنطقة (لغويّاً) عن "التُركي"، ولذلك وجد فيها القوميّون ضالتهم لأنها تناسبهم ببساطتها. وبذلك تكون "النهضة" قد كذبت من البداية لأنها قامت على إلحاق الشرق بأكمله بمنطقة فرعيّة منه.

وكذلك قلْ عن الإسلاميّ الذي يصوّر مجتمعات الإسلام الأولى، على أنّها مثاليّة طاهرة وطوباويّة على غرار جماعة "الحزام الإنجيليّ" الأميركيّ، فهو إنما يصدّق نفسه لأنّه يتخيّل ذلك، ولأنه ليس هناك من يمكنه أن يناقضه في ذلك لأنّه بعيدٌ منه مئات السنين. ويخلص لوباسكور إلى أنّ الهويّة هي عملية "تحوّل" فيما الهوياتيّة هي عمليّة "تجمُّد".

وكما عند النهضويّين، فإنّ كره الذات نتيجة وجود المحتلّ، أو استمرار سطوته، تجعل الشرقيّ مغلوباً على أمره لأنّه لا يساوي شيئاً. وهذا الكره يفاقم كراهيّته للمحتل لأنّه ظَهَّر له هذا التخلّف وهذا العجز. وبالتالي عندما يريد المرء في هذه الحالة أن يكون هو ذاته، أن يكون ما يريد أن يكون عليه، يجد نفسه أمام حلَّيْن جذريَّيْن، إما تغيير الهوية، وهو ما يتحقّق بالهجرة وما يتبعها، وإمّا باختراع سيرة حياة جديدة، أي بإعادة رسم الماضي السحيق بعد الضرب صفحاً عن التاريخ القريب الزاخر بالشواهد التي يمكن أن تناقض أو تسقط المشروع. وهو ما يفعله القوميّون العرب عندما يغضّون الطرف ويتغافلون عن التواريخ المتأخّرة (إهمال النظر في المرحلة العثمانيّة مثلاً الزاخرة بالوثائق والمدوّنات) ويعودون إلى الماضي البعيد حيث يمكن صناعة هوّية لا شيء يمكنه التشكيك في مقوّماتها.

وهنا يمكن النظر في بُنية الشرق المتكرّرة في القرن العشرين، فإذا ما تُرِك لحاله، تردّد بين طريقين، الانبعاث أو الزوال. لكنه، عندما يتعرّض لاعتداء من الغرب، يسقط مجدّداً في الإنكار وفي الكراهيّة، كره الذات وكره مَن دفعه إلى كره ذاته (اجتياح العراق مثلاً، بعد حرب الجزائر وبعد نكبة فلسطين).

لكن مشكلة القوميّين المثقّفين، تكمن في عدم قدرتهم على ملء الفراغ بعد سقوط الإسلام التقليديّ. كما أنّ الحركات الإصلاحيّة الإسلاميّة تميّزت بالتزمّت، ولم تذهب إلى ما هو أبعد من ظاهر الكلام. فلم يعد المطلوب عندهم يقظة الشرق ولا يقظة الإسلام، بل ترسيم (إضفاء الطابع الرسميّ) على السُّبات، والإطمئنان إلى ما هم فيه. وهذا ما يُعتبَر استمراريّة لحالة الانحطاط.

فالإسلاميّون والقوميّون على حدٍّ سواء أقاموا الحواجز التي تحرّم التعمّق والتعقيد، فاكتفوا بظواهر الأشياء سعياً إلى الإطمئنان وخوفاً من مفاجآت المجهول. وما فاقم من حالات اليأس والإنكار هو الاحتلالات الغربيّة المباشرة، ثمّ وصول العسكريّين الأغبياء إلى الحكم في الكثير من دول الشرق. ولا يرى لوباسكور أي فضلٍ للعسكريّين في النهضة، ويأخذ الناصريّة مثلاً، ويبيّن أنها لم تترك إنجازات مهمّة للمراحل اللاحقة، وما تحقّق في زمنها كان استمراراً لما كان من قبل. فهي مرحلة لم تدُم طويلاً لتحقّق إنجازاتها الخاصّة، وعملياً عندما تكون هناك إنجازات، يجب أن تدوم من مرحلة إلى أخرى، وليس هذا وضع الناصريّة.

ولأنّ لبنان قاوَم نزع الصفة الشرقيّة عنه، ظلّ بلداً جميلاً وممتعاً، وهو ما ولّد هذه الكراهيّة تجاهه في نفوس القوميّين والإسلاميّين، وجعلهم يشمتون فيه عندما غرق في الحرب وفي كلّ مصائبه. رأوا في الحرب قصاصاً له لأنّه رفض الانصياع لنموذجٍ أخلاقيّ عقلانيّ ومتفائل مستورَد من النماذج الغربيّة. لقد رأوا فيه "بلداً خفيفاً جدّاً، فيه الكثير من الموسيقى والغناء، قليل الجدّية، مأسويّاً جداً وقديماً جدّاً، محافظاً ومنفتحاً لا يعبأ بالأخلاقيّات، وليس منتِجاً، كثير التغيّر وضارب في القِدم. فلبنان ظلّ شرقيّاً أكثر من غيره. وكانت الحركات القوميّة تتحرّق للتخلص من هذه الحالة الشاذّة".

إنّ ما يريده هؤلاء، والإسلاميّون على الأخصّ، هي المعارك المستدامَة وليس النصر. يطيب لهم فقط الصراع والاستفزاز والجدل، ويفتّشون دوماً عن القضايا التي تسمح لهم بهذه الممارسة.


العلاقة بالغرب

من المفارقات التي يشير إليها لوباسكور، ويرى ضرورة للاعتراف بها وإن كان البعض لا يستسيغها، هي أنّ الانفتاح على الغرب يساهم في "إعادة تشريق الشرق" لأنّه يُعيد إحياء المساءلة والالتباس والحياة. وهذه حال الكثير من الأدباء والمفكّرين والفنانين الشرقيّين من العرب وغير العرب الذين يدّعون التمزّق الداخليّ بين هوّيتين، في حين أنّهم بالتعقيدات التي يعالجونها، شرقيّون أكثر من أي وقت، شرقيّون كلّما ازداد فضولهم لفَهم الغرب. هم جميعاً يزورون الغرب ويطّلعون على كتبه وفنونه من دون أن يكنّوا له أي ولاء.

ثمّ إن المثقَّفين المحتكّين بالغرب هم الذين يتقنون تفسير وتحليل الآداب والفنون الشرقيّة والإسلاميّة. هم الذين يحاولون إحياء الحضارة الشرقيّة، بعكس "مُدَّعي" النزعة الشرقيّة الذين يهاجمون الغرب ويغرقون تماماً في تقليد مظاهره السطحيّة. وهذا ما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، مع الانفتاح والشكّ وطرح التساؤلات الجوهريّة، مع تحرّر المرأة مثلاً في بيروت ودمشق والقاهرة. كأنّ الشرق لا يكون شرقاً إلا عندما يشكّ في كلّ الصيغ.

ومع أنّ لرجالات النهضة إسهاماتهم إلا أنّ النهضة بقيّت هشّة، على الصعيد الفكري والروحي، ولا نعرف ما الذي كانت ستعطيه لو أنها تبلورت كما يجب.

خطأ الغرب أنّه اعتبر أنّ لبنان تميّز من حيث التمدّن والحرية عن سائر الشرق بفضل المسيحيّين الذين انفتحوا على الغرب وتأثروا به. لا يمكن إنكار دور المسيحيّين هذا، لكن اللبنانيّين ظلّوا شرقيّين حتى في اتّصالهم بالغرب، وهذا ما جعل منه بلد الفكر والإبداع والفرح وحرّية المرأة.

وتبقى المفارقة قائمة: إنّ الانفتاح على الغرب هو مصدر توليد الحيويّة للشرق، لكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الخضوع لنظام عقلانيّ وأخلاقيّ على الطريقة الغربيّة، يحدث الانغلاق على الثقافة الأوروبيّة، إنّما ليس على أحدث منتجاته الصناعية والتقنيّة التي يُقبل عليها الإسلاميّون بشغف كما يُلاحِظ لوباسكور في السعوديّة مثلاً.

إن القوميّين- الإسلاميّين، الذين تغرّبوا، يرفضون الانفتاح على الغرب، وذلك لأنهم يخافون الاضطراب والشكّ والتعقيد، ويسعون إلى العكس، أي إلى السطحية والتبسيط، تماماً مثل الأميركيّين مثالهم الأعلى (البروتستانت المتشدّدين على الأخصّ، ويسجّل الكاتب الكثير من القواسم المشتركة بين الطرفَيْن).

فلماذا يصبح أتباع العقلانيّة الغربيّة إسلاميّين؟ ذلك لأنّهم تلامذة العقلانيّة الغربيّة، فمعظم القادة الإسلاميّين هم مهندسون، أي من أصحاب الميل العلميّ العقلانيّ، وليسوا ممّن تلقّوا تعليماً وإعداداً دينيّاً. وليس هناك ما يدلّ على أنّ من قرأوا كبار الكتاب الشرقيّين قد أصبحوا إسلاميّين.

وليست المواجهة مع النموذج الأميركيّ، فالوهابية سبقت بقرنين أولى بعثات الطلاب السعوديّين الذين درسوا في أميركا. فالتغريب ليس "تأثيراً"، بل نزعة عالميّة عند كلّ الحضارات، لكنها تحقّقت في الغرب قبل غيره وبشكلٍ أكمل... لذلك هيمن الغرب إيديولوجيّاً على العالم. وأصحاب هذه النزعة (القوميّون والإسلاميّون في حالة العرب) قلّما يرتاحون إلى الاتصال بهذه المجتمعات، الأميركيّة والأوروبيّة حيث نجحت هذه النزعة في محو كلّ شيء ما عداها.

أما سبب هذا الخلط فهو أن السياسيّين والصحافيّين يبنون آراءهم على معلومات تاريخيّة (ما كان من قبل) في حين أنّ المفروض البناء على دراسة الأنساب، أي الأصول (ما هو خفيّ في كلّ وقت)، لكي نتمكّن من فهم الطبيعة البشريّة الموروثة أو المتكوّنة التي تؤدّي إلى ما يعيشه الشرق. فالصور والمفاهيم التي تعرض في التلفزيونات والإعلام، والقائمة على دراسات واستنتاجات تاريخيّة، تشوّه الحقائق أو تخفيها، ولا تضع الإصبع على الجرح...

وأخيراً لقد انتقلت أوروبا الآن من الشعور بالذنْب وتحمّل المسؤولية عمّا آل إليه الشّرق، إلى توهُّم البراءة، وهي بالتأكيد ليست بريئة كلّياً. ويعترف الكاتب أنّه كان من الجيل الذي يبرّئ الغرب، لكنه رأى في النهاية ما كان يرفض رؤيته. فليس الشرق هو الذي يدمّر نفسه بل الغرب هو الذي يدمّره. ووعي الحاضر هذا يُفتَرض أن يقود إلى إعادة قراءة الماضي. فعلى ضوء صدمات الحاضر، يمكن فهم ما كانت عليه صدمات القرن العشرين.


المرأة اللبنانيّة وسائر النساء

بعد استعراض مختلف الفئات الشرقية في تعاملها وموقفها من الغرب، وأثر ذلك في المجتمع الشرقيّ، ومن خلال فهم هذه العلاقة الجدليّة بين الشّرق والغرب، يعود لوباسكور إلى الإجابة عن سؤاله الأساسيّ حول سبب إغراء النساء اللبنانيّات.

فاللبنانيّون، في انفتاحهم على الغرب، لم يتخلّوا عن شرقيتهم، ومن هنا حرّية المرأة فيه. وإذا ما عدنا إلى فكرة التعامل مع التعقيدات والمتناقضات، يمكن العودة إلى الجواب الأوّلي عن السؤال الأساسيّ (الصدّ والإغراء). فما يصنع الإغراء عند المرأة اللبنانيّة الفاتنة هو التعقيدات الشرقيّة في لعبتها. وإذا ما كانت اللبنانيّة الجديدة تثير نوعاً من الاستياء فذلك لأنّ لعبتها، كما في العمليات التبسيطيّة التي يجريها الإسلاميّون، "تتبسَّط، تتغرَّب وتتراجع من الإغراء، ما بين الوعد والرفض، إلى عرض المفاتِن بشكلٍ بليد وباهت". هذا التبسيط هو المرض الذي يتآكَل الشرق الحديث، ولا فرق بين المهووسات بلبس الحجاب (السطحيّة في تبسيط الحشمة) وبين المتحمّسات للعمليّات التجميليّة (السطحيّة في تبسيط الجمال واستعراضه). كلا الطرفين يعتقد أنّه يستأنف التقاليد (في الصدّ والإغراء) في حين أنّه يخالفها ويخرج عنها.

من يعِش مثل الكاتب في لبنان، يكتشف النساء من الطراز القديم جدّاً، والبعيدات كلّ البعد من المرأة الساعية إلى العمل أو إلى فرض شخصيتها ومجاراة الرجال وبناء حياتها الخاصّة وفق نمط الحياة الغربيّ. فالمرأة اللبنانيّة مثلاً لا تعمل إلا مضطرة أو للتسلية، ولبناء الصداقات وتقطيع الوقت في انتظار الزواج، بحسبه. بينما لاحظ الكاتب في سوريا مثلاً أن المرأة المحجّبّة هي امرأة عاملة، وفي ذلك دلالة على التأثير الغربي لا الشرقي. فعملهنّ على الطريقة الغربيّة هو من أجل تحقيق المجتمع السعيد المطمئنّ.


خلاصة

بعد اليقظة الناقصة إنما الواعدة ما بين الحربين، حدثت الانقلابات وسيطر العسكر وأصبح الجو ضاغطاً في كلّ مكان. والحال أنّه إذا ما تُرِك الشرق مطمئنّا قليلاً لن تلبث أن تبزغ مجدّداً الرغبة في الحياة.

لكن يصدر دائماً عن الغرب ما يعيد خلط الأمور ويعود بها إلى بداياتها. فقد احتلت اميركا العراق، وتمادت إسرائيل في السلب والقتل في فلسطين، من دون أن تبادر أوروبا إلى أي ردّ فعل إيجابيّ وإلى تطبيق مواعظها. إزاء هذه الاعتداءات والذلّ لا يكتفي الشرقيّ بكره خصمه، بل يعود إلى كره الذات... ويعود إلى تحوّلات بسيطة وجذريّة في حياته. وتعود لغة التخوين.

في القرن العشرين لم يكن من شأن الشرق سوى التدمير الذاتي، وإن كان بعض الشرقيّين المتواطئين مسؤولين عن ذلك، إلا أنّ هذا لا يخفّف من مسؤوليّة الغرب الذي، لولا تدخّلاته المتتالية، لما كان ضاع كلّ شيء.

في النهاية يقدّم لوباسكور نصيحة قد لا يقدمها المؤرّخون: إذا كان الأوروبيّون قلقين على الشرق ومهتمّين لأمره، فليدعوه وشأنه من دون إطراءات ولا توبيخات في معظم الأحيان، وهو كفيل بأن يستعيد الحياة والحيويّة بكلّ وجوهها.

ويختم بتساؤلين قد تكون الإجابة عنهما سلبيّة:

- هل سيتشبّث الشرق بالانبعاث مجدّداً؟ هناك مجال للشكّ في ذلك!

- هل سيتحلّى الغربيّون بالقليل من بُعد النظر؟ أخشى أن يكون الشكّ كبيراً!


_______________

[1] . إيف لوباسكور (Yves Lepesqueur) عمل وعاش في لبنان وسوريا والسعودية كما في إيران. هو أيضاً محرّر متخصّص يكتب زاوية في المجلّة الفصليّة محتَرَف الرواية. من أعماله دراسة بعنوان أعياد الربيع قديماً في حمص. نشر مؤخّراً كتابه هذا "لماذا تمتاز المرأة اللبنانيّة بالإغراء؟" (Pourquoi les libanaises sont séduisantes?) في دار لارماتان (L’harmattan)، باريس، 2022.

[2] . . يشير الكاتب إلى أنّه يعتمد دوماً تسمية "الشّرق" ومشتقاتها للدلالة على "الشَّرقَيْن الأدنى والأوسط"، لافتاً إلى أنّه كان بإمكانه اعتماد تسمية "العالم العربيّ الإسلاميّ" لكن ذلك كان من شأنه أن يهمل الشرقيّين غير المسلمين من يهود ومسيحيّين وغيرهم، وكذلك غير الناطقين بالعربيّة مثل الأرمن والأكراد والفرس والأتراك. كما أن في كلمة "الشّرق" دلالة على استمراريّة ثابتة منذ الأزمنة القديمة يوم لم يكن الشرق مسلماً ولم يكن عربيّاً إلا بشكلٍ هامشيّ.



لماذا تتميَّز اللبنانيّات بالإغراء؟ لقد أحرزنا تقدّماً... الهجرة والإندماج(2/2)

جان هاشم


رأينا كيف تناول إيف لوباسكور في القسم الأوّل من كتابه "لماذا تتميّز اللبنانيّات بالإغراء؟" تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين وعلاقاته بالغرب وتأثّره به سلباً أو إيجاباً. وفي هذا المقال نتناول القسم الثاني الذي أعطاه عنوان "لقد أحرزنا تقدّماً"، وقد عالج فيه مسألة الهجرة والاندماج، قضية الساعة المتفاعلة في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً.

يذكر إيف لوباسكور أنّه منذ كتابة "اللبنانيّات" (2004)، والشرق والغرب يأملان أن تتحسّن بشكلٍ أو بآخر، الأوضاع المأزومة والمنذرة بالأخطار. لكن الأمور تطوّرت كثيراً وتقدَّمت نحو الأسوأ، كما يوحي الكاتب بعنوان القسم "لقد أحرزنا تقدّماً".

يلفت لوباسكور إلى أنّه أصبح من الثابت أنّ الشرق في حالة انهيار ونقمة، ونتيجة ذلك تكثّفت إلى حدّ كبير هجرة أبنائه إلى مختلف أصقاع الأرض، ويمكن القول إنها "روحة بلا رجعة" لقد رحلوا وألقوا المفاتيح بكلّ بساطة، ولأن "البلاد لم تعد بلاداً" فوداعاً يا أرض الأجداد.


المُقتَلَع من جذوره وحشٌ تعيس

وفي الغرب الذي يعيش موته الخاص، يلحظ الكاتب أن الأوروبيّين، ولأسباب متعدّدة، وكل فئة بحسب قناعاتها ومصالحها، يغتبطون بوفود الشرقيّين المهاجرين، من دون أن يتنبَّهوا إلى ما يعيشه هؤلاء المقتلَعون من أرضهم من نقمة وألم وخزيٍ وعار، يجعلهم يعملون، في ظلّ ظروفٍ غير مؤاتية وفي خيبة أملٍ من واقعهم الجديد، على تدمير الحضارة الغربيّة، انتقاماً من هذا الواقع. ويذكّر الكاتب بمقولة الفيلسوفة الألمانيّة سيمون فايل (Simone Weil): "المُقْتلَع يقتلِع"، ويضيف: "ليس المقتلَع تعيساً وحسب، إنّما هو وحشٌ تعيس".

المغتبطون والمرتعبون من موجات الهجرة يخشون النتيجة نفسها: عدم صمود أوروبا. علماً أن هناك ما هو أخطر عليها، مثل الخطر البيئيّ والأسلحة التكنولوجيّة الجديدة والمعالجات العلميّة المتخطّية للبُعد الإنسانيّ، وما مسألة الهجرة إلا من نوافل الأخطار. لكن مواقفهم هذه تبيّن طبيعة علاقتهم بحضارتهم، ما بين فرحين بزوال أوروبا القديمة ومن يتمسَّكون بها علماً أنّهم هم أنفسهم مُقتلَعون في الأساس (مع تهاوي أسس حضارتهم في سياق نظام العولمة) ويعمدون إلى استهلاك الأصول أو الجذور (أي ما يمتّ إليها بصلة من ألبسة ورموز) معتقدين أنّهم بذلك يحافظون على هوّيتهم، علماً أنها جذور مزيّفة تتحوّل قشرة سميكة يلتحفون بها.

ويؤكّد لوباسكور أنّ المُقتلَع أساساً لا يمكنه صناعة حضارة جديدة ولا استعادة حضارة أصليّة، فالانتماء إلى حضارةٍ ما لا يكون باستهلاك رموزها، بل بالانطباع بها والتشبّع منها من دون معرفة كيف ولماذا. والحال أنّ الساعين وراء ذلك، كما نرى عند المتعصّبين للهويّة الإسلاميّة أو الفرنسيّة أو الإيطالية او الإنكليزيّة أو المسيحيّة، يغرقون في الرموز التي تتحوّل مواد استهلاكيّة تنهمر عليهم، ماركات ذات نفوذ وقوّة تهبط لا يُعرف من أين وممّن، فيصبح الدِين ماركة والأمة ماركة، وهم يتنكَّبون بهارجها.

وإذ يبدي لوباسكور استغرابه عدم التفاهم على بعض الأفكار البديهيّة في ما يتعلّق بالهجرات الجديدة، يرى أنّ هناك ثلاث مُسلَّمات بديهيّة تفرض نفسها:

الأولى هي أنّ المهاجرين هم بشرٌ والتعاطف معهم أساسيّ ومبرَّر، وهذا ما بدا جليّاً في موقف بابا روما الداعي إلى ذلك حتى وإن أزعج البعض.

المُسلَّمة الثانيّة هي أنّ الهجرة ليست خياراً مُرضِياً ومريحاً. فلا أحد يهاجر من أجل المتعة، ومَن يراها من هذه الزاوية فإنما يفعل من باب المصلحة الخاصّة. لقد أصبحت صورة المهاجر في أوروبا أسطوريّة حتى غُيِّرت التسمية وباتت لها دلالتها المختلفة. حلّ مُصطلَح "Migrant" "المُترحِّل" (مثل البدو الرُّحّل) مكان المُهاجر والمغترب أو المتغرِّب "L’émigrant ou émigré, et l’immigrant ou immigré" المترحّل الذي لا يثبت ولا يستقرّ في مكان فهو في تنقّل مستمرّ في ظلّ الرأسماليّة المعولمة، كما نلحظ في تنقّل أو ترحّل الموظّفين وحتى الطّلاب من دولة إلى أخرى بحسب مقتضيات الوظيفة والعمل ومصلحة الشركات والمؤسّسات.

أمّا المُسلَّمة الثالثة والأخيرة فهي ضرورة الاعتراف بأنّ الاندماج ليس بالأمر السهل على المهاجرين أنفسهم، حتى وإنّ أستشهد البعض بالمهاجرين الأوائل الذين نجحوا في الإندماج التام بالرغم ممّا عانوه من صعوبات، ولا على المقيمين الذين قد يتقبّلون إقامة شخص أو اثنين في ما بينهم، يفِدُ في ظروف عادية (زواج ومصاهرة مثلاً) و"يُضفي لمسة غريبة (مُستَجلَبة) على القرية". لكن وفود جماعات وبأعداد كبيرة، حتى وإن كانت نواياهم حسنة ومسالمة، سيدفع إلى المنافسة على المكان، وليس طبعاً من دون توتّرات.


والواقع أنّ الاحتكاك والتلاقح بين الشعوب مفيد عموماً، لكن هل يصحّ ذلك إذا ما حدث بين شعوب مُقتلَعة عن بلادها اقتلاعاً؟


وجد البعض الجواب-الحلّ في كلمة "التهجين" التي درجت مثل كلمة "المترحّل". وهنا أيضاً ينتقد الكاتب مقولة التهجين ويرى أنّه يتطلب أن تكون الحضارتان المتلاقِحَتان سليمتَيْن وقويتَيْن، فتتبادلان التأثّر والتأثير وتعطيان نتاجاً "هجيناً" قويّاً وسليماً. والحال أنّه لا يمكن تهجين ما فقد الحياة والقوة والخصوبة، كما هي حال الغربيّين والشرقيّين على حدٍّ سواء.


الهجرة في فرنسا واقعاً وتداعيات

يحصر لوباسكور تحليله في فرنسا التي يعرفها كما يعرف مهاجريها، وينطلق من آخِر كتابات جورج برنانوس (Georges Bernanos) ليبيِّن ما الذي بقي مشعّاً في فرنسا من مفاهيم ومبادئ كانت قائمة عندما لم يكن الغرب بعد كوكباً ميْتاً. يرى برنانوس أنّ الحضارة الفرنسيّة قامت على مفهوم الرجل "العاقل والحرّ"، وهذا التلازم المطلق بين العقل والحرّيّة هو الذي يضفي على الإنسان طابعه المقدّس عند الفرنسيّين، وقد قامت رسالة فرنسا على هذا المبدأ الذي يعني عمليّاً تحمّل المسؤوليّة كإنسان مفكّر، لا يتنازل عن واجب إعمال العقل هو بنفسه.

هذا ما عملت عليه المدارس في فرنسا وتربّت عليه أجيال، أجيال الأجداد بالتأكيد، التي تعلّقت بالفكر الحرّ والعقلانيّة، ورفضت أن تُملى عليها القناعات. ومع احترامها لأهل الفكر، احتفظت بالقيم الإنسانيّة العليا.


فرنسا تُقتلَع من جذورها

هل أنجزت فرنسا هذه المهمّة. كلا! هذا ما يؤكّده آسفاً لوباسكور، وقد برهن، مستعيناً ببرنانوس، كيف أنّ المدارس الفرنسيّة اليوم لم تعد تنجز مهمتها هذه. وفي "حضارة الآلة" كما يسميها برنانوس، واليوم نسمّيها "حضارة الاستهلاك"، باتت تُعِدّ شبّاناً فارغين وصالحين للعمل، يتمتّعون بـ"كفاءات" مفيدة، لكنّهم يفتقرون إلى قواعد التفكير.

فأين هي فرنسا التي يجب أن يندمج فيها المهاجرون وقد بات الشعار الوحيد فيها: "كونوا مستهلِكين كاملين"، ومعه فقد الفرنسيّون الأسس والقيم الروحيّة والإنسانيّة التي تربّت عليها الأجيال السابقة، وباتوا يحسّون أنّهم غرباء عن هذا الواقع وباتت فرنسا بلد أناسٍ مقتلَعين (من جذورهم الحضاريّة الخاصّة)، كما اقتُلِع الناس الوافدون إليها من جذورهم.


المهاجرون ضحايا الاستهلاك

وكما الفرنسيّون وقع شباب المهاجرين من أفارقة وشرقيّين ضحايا المجتمع الاستهلاكيّ. ولم يعد المسلمون منهم يحملون من مُثُل الإسلام العليا، ومن الميراث الحضاري الكبير، ومن القيم الإنسانيّة، سوى الاسم فقط. وأوّل المنزعجين من سلوكهم هم المهاجرون الأوائل أو الجدد من أبناء جلدتهم الذين ما يزالون متمسِّكين بقيمهم وحضارتهم الفعليّة، وهم يشاركون الأوروبيّين في الحذر منهم. نرى إذن أنّ الوافدين إلى بلدٍ لم يعد يعرف ما هو، هم أناس ما عادوا يعرفون من هم (ومع ذلك يمعنون في رفع لواء الهويّة التي ما عادوا يحملون منها شيئاً، كما رأينا في القسم الأول).


هل يمكن التهجين بين طرفَيْن معدمَيْن؟

فأي تهجينات جميلة ستنشأ من هذه المواجهة بين المُعدَمين؟

لو كان العرب، بعدُ، عرباً، والأفارقة أفارقة، بالقيم والأصول التي كانت عند أهلهم وأجدادهم، ولو أن فرنسا بقيت أمينةً للمهمة التي تصوّرها برنانوس لها، لما كان الإندماج، أو التهجين كما يراه البعض، صعباً إلى هذه الدرجة. لكنّهم لم يحتفظوا بشيء من حضارة أهلهم وأجدادهم، وباتوا أبناء العولمة، ينساقون إلى نظامها الاستهلاكي، وبها يريدون الاندماج وليس بفرنسا مثلاً.

ويحمّل لوباسكور الفرنسيّين أولاً مسؤولية فشل الإندماج لأنّ الدور الأساسيّ يقع على عاتق البلد المضيف. فكيف يمكن الاندماج في بلدٍ لم يعد موجوداً؟ "فنحن من كانت عليه مسؤولية إبقائه حيّاً فتركناه يضمحل، وليس الأقليّات المتحدّرة من الهجرة". وكيف يمكن الاندماج في مجتمع هو أصلاً متفكّك، وكلّ مكوّناته السياسيّة والشعبية والاجتماعيّة والدينيّة تتبادل الازدراء والكراهيّة متخلّيةً عن أدوارها، حتى بات الفرنسيّ الأصل يرى نفسه غريباً فيه؟

كما لا ينجح الدمج بالتقديمات وتوفير المساكن (على ما في ذلك من حسن نية) إزاء عدم الاعتراف بالجميل ولا الإلتزام بأي واجب من جانب المستفيدين، وإزاء الإحساس بالذنب والإغراق في الاعتذارات عند أي تقصير أو تأخُّر. فذلك كلّه يشجّع المهاجر الجديد على الإلحاح في المطالبة بحقوقه أولاً من دون أن يفكّر في ما يقدمّه... وتتحوّل العلاقة مع الوقت إلى نوع من الاستياء الانتقاميّ.

فلكي يحب المهاجر، البلدَ المضيف، موطنَه الجديد، ويفرض مكاناً له فيه، يجب أن يتعب فيه ومن أجله. ويمرّ مسار الاندماج حكماً، كما حدث دوماً، بالمعاناة وبعدم الثقة المتبادّل ثمّ بالاحترام المتبادَل وأخيراً بالمحبّة (وإن أثارت هذه الكلمة الأخيرة ابتسامة سخرية عند البعض). أما مبدأ "الحقوق أوّلاً" فقد أحلّ الإذلال المتبادل مكان المسار المذكور، ذلّ المتلقّي الذي يأخذ من كيان لا يوحي بالثقة، وذلّ الواهب لأنّه يعطي تحت الضغط إن لم نقل التهديد. ويبقى هناك، في فرنسا، في عالم الصحافة والبورجوازيّة من يستثمر في هذا الإذلال ويعمل على إذكائه.

ربّ قائل بأنّ المهاجرين الجدد يكرهون بالوراثة فرنسا بسبب تاريخها الاستعماري. لكن ألم تكن هناك دول مستعمِرة غيرها؟ فالحقيقة أنّ فرنسا مكروهة أكثر من غيرها من المستعمرين لأنها لم ترتقِ إلى مستوى الصورة التي كوّنتها عن نفسها، كما وأنّها، في جانبٍ منها، لم تُرِد التخلّي عنها كلّياً، وهذا ما جعلها (بالرغم من فشلها في مقاومة نزعة العولمة) موضع كره النخب المعولمة، والنخب الفرنسيّة المتعولِمة، وكذلك المقتلَعين الذين أحلّوا الاستهلاك محل الجذور.

إنه كره الحمقى تجاه مَنْ لا يسمح بأن يُبتلع بسهولة ولا ينساق لجو الحماقة المحيط به. ويعبّر الكاتب عن ألمه إذ يلاحظ هذه الكراهية خصوصاً بين العرب، التقدّميين منهم على الأخصّ لأنّ فرنسا لا تريد أن تتحوّل إلى أميركا التي هم أنفسهم يخشعون أمامها بعكس ما يدّعون، أو الإسلاميّين منهم الذي يريدون استغلال الاستهلاك في مجال "الهوية الإسلاميّة".

في الوقت نفسه، تخشى الشعوب الأوروبّية أن تخسر ما تبقّى لها من أوروبا، وهي ترى أنّ حياتها جيّدة ومميّزة بما تبقى لها من قديمها وبالمقارنة مع سائر الشعوب التي لا يهمها أن تنقذها. وقد يقال إن أوروبا تستأهل ذلك بسبب تاريخها الاستعماري إذ قوّضت الاستعمارات الكثير من البلدان، وبعد الاستقلالات حكم هذه الدول حكّام مستعمِرون من الداخل فلم تتحسَّن أوضاعها... فها إن أوروبا إذن تدفع الثمن إذ تدفّق عليها "المقتلَعون الذين يقتلِعون". لكن، إن تكن قد أخطأت تاريخيّاً، فهل يمكن أن تتقبَّل مرتاحةً هذا العقاب؟


الإرهاب كراهيّة وسخط، تدمير وتدمير الذات

ثمّ جاء الإرهاب... الذي بات من الضروري أن نتكلّم عنه. قد لا يكون الإرهاب مؤذياً بشريّاً ومادّياً أكثر من الكوارث الطبيعية أو حوادث القطارات أو الطيران. لكن أذاه يتمثّل في صَعْقه المخيِّلة إذ يكشف عن حجم الكراهية والسخط وعن الرغبة في التدمير وتدمير الذات. وهو بذلك يكشف الحقيقة المسكوت عنها في العالم، أي كونه الدلالة على تفكّك المجتمع.

والمهمّ في هذه الناحية هو إشارة الكاتب وتأكيده أنّ الإرهابيّين يأتون من المجتمع الفرنسيّ وليس من مكان آخر، من عند العرب أو الأفغان مثلاً، أي ليس من مجتمعات شرقية هم غرباء عنها تماماً، ولا حتى من ديانة هم في الحقيقة يجهلونها كلّياً. هذا الخطر الحقيقيّ المحلّيّ الداخليّ الذي لا يمكن هضمه يجعل أصحاب الشأن يحرفون الأنظار إلى أخطار أخرى قابلة للهضم مثل الخطر الشرقيّ أو الإسلاميّ.

بين الأصول والمدرسة والعَيْلة والمجتمع كما هو!

يلحظ لوباسكور أنّ بعض الجهاديّين هم من أصول فرنسيّة "أباً عن جد"، لكن معظمهم من المهاجرين الجدد، فلماذا؟ ليس لأنّهم متعلّقون بحضارة آبائهم غير المتلائمة مع مبادئ الجمهورية، بل لأنّهم لم يرثوا شيئاً من حضارة أسلافهم، وهو ما يمكن تحصيله في أجواء العائلة، ذات الدور الأساسيّ، إذا فاتهم ذلك في المدرسة التي تخلّت عن دورها.

ويلفت إلى أن خطّ الدفاع الثاني بجانب المدرسة هو العالَم كما هو، العالم الحقيقيّ الواقعيّ، حيث آثار الماضي وسلوكيّاته ما تزال مُعتَمَدة في كلّ مكانٍ منه. ما زال الفرنسيّون مثلاً يتحلّون بالمناعة ضد المفاهيم الجنسيّة الجديدة. والحال أنّ أبناء الهجرة لم تتيسَّر لهم الحماية بواسطة ما تبقّى لهم من مجتمعهم القديم، ولم يتمكّن أهاليهم غير المؤهّلين ربما من تحصينهم بنموذج آخر. وفي الواقع عندما نجح الأهل في ذلك تحوّل أولادهم "فرنسيّين" تماماً واحتلّوا موقعهم في مجتمعٍ اغتنى بهم.

ومن أسباب نجاح بعض المهاجرين في التحوّل أو الانتقال هو مستوى الوضع الاجتماعي والحالة الانتروبولوجيّة. فالذين يأتون من الطبقة الوسطى مثلاً قابلون للإندماج أكثر من أبناء الطبقات العاملة الدنيا المغربية: فأي ولدٍ يريد أن يتمثّل بأبيه الذي عاش الذلّ. ومن ناحية أخرى فإنّ الإناث المغربيات أكثر قابلية للاندماج من الذكور المغربيّين لأسباب انتروبولوجيّة تعود إلى العلاقة مع الأب.

ثمّ إنّ أبناء الهجرة الأكثر اقتلاعاً من جذورهم هم الأقل انقياداً، إلا من بقي لهم بعض المعايير والأصول التي يستندون عليها. فإن كان أسلاف الواحد منهم مسلمين وهو يؤمن بأنه ما زال مسلماً، قد تكون له صورة معيّنة يمكن أن يلتفت إليها، صورة مقبولة أكثر طالما الإسلام الحديث بات وجهاً مختلفاً ومشوّهاً من وجوه الحداثة الاستهلاكيّة. وعندما يكون المتحدّر من الهجرة الحديثة هو كلّياً ابن المجتمع الاستهلاكي وليس عنده أي مورد فكريّ أو أخلاقيّ يعود به إلى الوراء، فكيف يمكنه مجابهة المجتمع الاستهلاكي؟ باعتناق النزعة الإسلاميّة المنحرفة، أي باعتماد نزعة استهلاكية في وجه نزعة استهلاكيّة أخرى، ساعياً بذلك إلى التميّز والبروز.

واستدراكاً، يلفت لوباسكور إلى أنّ الديانة الإسلاميّة الحديثة ليست الوحيدة التي وقعت ضحيّة السوق أو انقادت لها، بل هناك أمثلة كثيرة عن ديانات، هندية مثلاً، نشأت في البيئة الأميركيّة الاستهلاكية وتقصَّدت السير في هذا الطريق. لكن الإسلامويّة هي التي تحتكر اليوم هذه المعارضة في الصفوف الأماميّة ولذلك تجتذب الشبّاب من أبناء الهجرة أو من الأصول الفرنسيّة.


صراع الجِوار

إن العالمين الإسلاميّ والأوروبيّ ينزعان إلى التصادم منذ ثلاثة عشر قرناً، وذلك بسبب تجاورهما جغرافيّاً، وعلى الأخص بسبب تقاربهما في المفاهيم. جاران متشابهان تماماً ولا يريد أحدهما أن "يكون الآخر"، اي أن ينصهر فيه تماماً كما أراد المستعمِرون من الطرفين وكلّ في زمنه. إنّه عداء الأخوة كما قايين وهابيل.

ويضيف الكاتب معترفاً بأن الإسلام هو الأكثر تشدداً وثباتاً بين الديانات التوحيدية في الدفاع عن قناعاته والدعوة إليه، تبعاً للآية الداعية إلى "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ولذلك يبدو الإسلام ملاذاً لليائسين من هذا العالم، فيقعون في خطأ الاعتقاد بإمكانية إحياء ما لم يعد له وجود، والأسوأ أنهم في عجزهم عن الالتحاق بأي عقيدة دينيّة يخلعون على الإسلام نزعتهم الاستهلاكية الخاصّة، إمّا عبر الشكليّات والرموز الخارجيّة (على غرار السلفيّين)، وإما عبر أفيون جديد انتحاري هو "الإرهاب الإسلاميّ".

هكذا يمكن تفسير ظاهرة ليس فيها من الإسلام شيء، لكنها تغري أحفاد المهاجرين المسلمين (لا ينفي الكاتب دور المحرّكات الخارجيّة)، مع أنّ هؤلاء الأهل، بما ورثوه من صورة القوة، يقفون في وجه هذه الحالة الشاذّة حالياً. فلا غرابة أن هؤلاء المقتلَعين الذين تحولوا إرهابيين قد اختاروا كـ"ماركة" لهم راية الإسلام مع أنّ ما يدرجونه تحتها لا يمتّ بأي صلة إلى الثقافة الإسلاميّة.

ولماذا الحديث عن الإرهاب في معرِض الحديث عن الهجرة؟ لأنّ الهجرة، وإن لم تكن عاملاً أساسيّاً لنشوء الإرهاب، هي عنصر مساعد على مفاقمته. كما وليس المهاجرون هم الذين جعلوا فرنسا تتخلّى عن مبادئها ودورها، ولا هم دفعوها إلى أوحال النزعة الاستهلاكيّة، لكن المهاجر الذي لم يرث أي شيء من أي حضارة حيّة، وليس له أي قدرة دفاعية، هو تجسيد لهذا الوضع. والسياسيّون وناخبوهم هم الذين يتحمّلون مسؤولية التغيّر وتشويه صورة فرنسا. فالفرنسيّون، ولأسباب لا تتعلّق بالمهاجرين، قد يتقاتلون ويتناحرون في ما بينهم، لكن الخطر هو في سهولة تجنيد هؤلاء المهاجرين بسبب يأسهم وإحباطهم.

خلوّ الساحة للمحبَطين... طليعة المحاربين!

يعترف الكاتب بوجود المشاكل في فرنسا، ويقول بحتمية وقوع الحرب الأهليّة فيها، لكن ليس بالشكل الذي يتوقّعه كثيرون. لن تكون بين مليشيات تتناحر، ضمن حدود مرسومة وخطوط تماس، إنما ستكون المرحلة القصوى من الحالة الاستهلاكية، والطور الغاضب منها.

فما سيحدث هو أن الأوّلين (من مهاجرين ومن فرنسيّي الأصل) سيرحلون تباعاً عن هذا العالم ليبقى أولادهم وأحفادهم المحبطون ما بين الحقد والكراهية، للأسباب المذكورة آنفاً، والذين قد يتحوّلون طليعة المحاربين. ستكون حرب الكلّ ضدّ الكلّ لا تحرُّج فيها من الوسائل ولا من الهواجس، مع التباهي بالتفاني المزيّف، عبر منوعات من الشعارات الاستهلاكيّة المزيّفة في الدين والوطنيّة وما يشبهها ممّا لا يمكننا تصوّره بوضوح بعد، لأنّ التاريخ قد يفاجئنا.

"قد ندخل هذه الحرب من دون انتباه، وربما دخلناها أساساً. هل يبدو هذا قاتماً؟ حمداً لله لست عالماً بالمستقبل، لكن قد لا أكون كليّاً على خطأ".


آفاق الحلّ البعيدة

لكي لا تبقى الآفاق مسدودة، يتصوّر لوباسكور حلاً مبنيّاً على آرائه كما على آراء مفكّرين كبار من قبله. فيرى أنّه يجب إعادة العمل بالنظام التعليميّ من أجل استعادة مدرسةٍ، لا تعيد التأسيس للهدم، بل تنقل المعرفة وتعلم التواضع في تحصيل المعرفة. مدرسة لا تعلمّ الثقة العمياء والجوفاء بالنفس، بل تجعل الطالب يعي أنّه لا يعرف كل شيء وأن أمامه الكثير ليتعلمه قبل أن يُطلق الأحكام. تُعَلِّم إتقان اللغة والتأنّي في التفكير قبل النطق بأي شيء، على مبدأ "الرجل العاقل والحرّ". وكذلك يجب الحدّ، كما دعت سيمون فايل، من حريّات الخطابات الدعائيّة (والسياسيّة أيضا لأنها مثلها) لمنع تلاعباتها الخبيثة المتلاحقة.

كما أنه يدعو (متمثّلاً فينلون Fénelon وسان سيمون Saint-Simon) إلى الحد من نفوذ رجال المال الرأسماليّين. وبالإجمال يجب إعادة بناء كلّ شيء، وعندها لن تبقى مسألة الهجرة "قضيةً" إذا ما خضعت لرقابة معقولة ضمن ضوابط محدّدة، وهكذا سيجد المهاجرون حيّزا لهم في هذا البلد المولود من جديد.

لكن ليس هذا كلّه سهلاً، ليس بسبب تضرّر مصالح النافذين، بل لأنّ أحداً لا يريد ذلك، بدءاً من النظام المدرسيّ. فأي أهل، اليوم، سيقبلون بأن ينال أولادهم علامات سيّئة بسبب جهلهم، وأن يتلقّوا القصاص اللازم، أو أن يُطلَب منهم بحزم السكوت والتعلّم والتفكير بصمت؟ أليس على المدرسة الحديثة أن تحترم "حقّ" الفرد (وبالتالي تركه يتمرَغ في الغباء)، وعليها أن توزّع الحقوق كيفما كان وخصوصاً "حقّ النجاح"؟

وهذا ما ينسحب على سائر المجالات، فمن سيعيش من دون التلفزيون ودوره الدعائيّ والترويجيّ، ومن دون المشتريات المرغوبة ومن دون التعبير ونشر التعليقات السخيفة بلا تفكير في الحقوق؟ كيف الاستغناء عن الاستهلاك وقد بات بديل الحياة؟

هذا ما يؤكّد الحاجة إلى ثورة داخليّة فعلية غير محصورة في البعض بل عامة شاملة، تمثّلاً بالآية القرآنيّة: "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم". وما لم يتحقّق ذلك من العبث التحرّك. وهو لن يتحقّق قبل بلوغ المسار الحالي نهاياته، وما نزال بعيدين عن هذه النهاية... ولا بدّ من توقّع الأسوأ.

ليس بإمكاننا سوى التحضير لما بعد، من دون أن تُغرّنا الآمال، فالتغييرات الخارجية لن تفيد بشيء (نتائج انتخابات مثلاً)، بل المفروض التحلّي بـ"الرجاء" الذي يعني الثقة الراسخة في يقظة الطبيعة الانسانيّة عندما يحين الأوان.

إن لوجود الشخص الذي لا يجاري هذه الأوضاع القائمة ويرى ويفكّر بطريقة مختلفة أثره، وبفضله سيتبقى شيء من زمن ما قبل قيام هذا العالم المتوحّش.

إن الماضي الذي مات لن يحيا مجدّداً، وما ينبعث منه هو ما لم يمت كلّياً، بل بقي كامناً في الأعماق في حالة خدر، ومن الضروريّ إبقائه حيّاً لكي نتولّى نقل وإيصال ما لا بدّ أن يستيقظ منه يوماً ما.


خلاصة

لا يخفي لوباسكور أنّ ما جاء به في كتابه هذا لا يخضع لمنهجيّة علميّة دقيقة، بل هو نتيجة انطباعات وملاحظات وليدة المعايشة والمراقبة. لكنّه تناول موضوعاته بالكثير من الدقة وعبّر عن آرائه بمنتهى الجرأة والصدق والصراحة، وإن ظلّت هذه الآراء محصورة إلى حدٍّ كبير في وجه واحد من وجوه الأزمة، أعني علاقة الغربيّين والشرقيّين على حدٍّ سواء بحضارتَيْهم، وتأثير انسلاخهم عنها في مجرى حياتهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم بفعل سياسة العولمة وطغيان اقتصاد السوق الاستهلاكي. ومن هنا تبدو بعض آرائه قابلة للنقاش. فمع أنّه ألمح إلى مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في معرض حديثه عن صدق المسلم وتمسّكه بمبادئه وعمله على حمايتها وتطبيقها، إلا أنّه أهمل ذِكر احتمالات وجود تخطيط خارجيّ وسياسة ممنهجة لنشر الإسلام مثلاً انطلاقاً من هذا المبدأ، حتى وإن تكن الأشكال الاستهلاكيّة وسيلة تحريض أو تشجيع أو إغراء. وربما كان يجدر به العودة قليلاً إلى ما ذكَره في القسم الأول حول ضرورة النظر في الأمور من الناحية الوراثية التي تتحكم أحياناً بتصرف الأفراد والجماعات.

وإن يكن لوباسكور مثالياً طوباويّاً إلى حدٍّ ما في الحلّ النهائي الذي طرحه، وهو انتظار يقظة الضمير الإنساني الكامن عندما يحين الأوان، لا أخال أنّه فاته أنّ التغيُّرات الجيّدة الكبرى تحدث بعد الأحداث الكبرى. ألم تكن هذه نتيجة الثورة الفرنسيّة وما ثبّتته من مبادئ في الحضارة الفرنسيّة؟ ألم تغيّر الحربان العالميّتان الكثير من المفاهيم في الفكر والسياسات الأوروبيّة على الأخصّ؟ أوليس هذا ما يخشى هو نفسه زواله؟

ومع ذلك، هو في غمرة تشاؤمه، يترك لنا بصيص أملٍ في نهاية المطاف، وعلى "رجاء" أن يكون ذلك قريباً وليس بعيداً كما يتوقّع!


عودة إلى الصفحة الرئيسية

«»

مواسم الجمال في لبنان
مواسم الجمال في لبنان






تعليقات: