حديقة كيو في لندن متحف الحفاظ على النبات العالمي


تفاخر العاصمة البريطانية لندن بأنها مدينة خضراء، تتعدّد فيها الحدائق التي تفيض عن حاجة السكان، إلى حد أنّ بعضها صارت مأوى ومرعى الغزلان. وتشكل الحدائق الواسعة قرابة ثلث مساحة المدينة، وهذه رفاهية لا تتوافر في أي عاصمة أخرى، وخاصة في العواصم المنافسة مثل باريس، حيث توجد الحدائق الواسعة على الأطراف والضواحي، بينما تقع الحدائق الفسيحة في قلب لندن بالمعنى الفعلي وليس المجازي، وتشكل المساحات الخضراء الواسعة التي تنتشر على بضعة كيلومترات رئة المدينة وفضاء النزهة، وأرضاً لنشاطات خارج المنازل وأماكن الترفيه، ولذلك حين أغلقت المدينة محلات الترفيه خلال أزمة كوفيد-19، لجأ السكان إلى الحدائق، التي تحوّلت إلى أماكن التلاقي والنزهة والاحتفالات وممارسة النشاطات الرياضية في ملاعب متعددة الأغراض، مثل كرة القدم والسلة والكريكت.

يحار المرء إلى أي حديقة يذهب كي يتنفّس، إذ يكفي أن يخرج من البيت حتى يجد طريقاً يقوده إلى حديقة كبيرة، وهذا امتياز عام لا يقتصر على حي واحد، ولا ينعم به أهل منطقة دون غيرهم من سكان المدينة. هناك ديموقراطية في توزيع الحدائق وحصة كافية لكل فرد، كي يتنزه ويلتقي الآخرين ويمارس الرياضة من دون ازعاج أحد، وذلك بفضل رحابة المساحات، وتنوع مجالات الأنشطة، وتوزعها في وسط المدينة على نحو يتناسب مع عدد السكان ومخططات تجميل المدينة وفق سياسات تعميم المساحات الخضراء.

ولا يقتصر دور الحديقة على توفير الاوكسجين واستقبال الزوار للفسحة والتنزه والرياضة، فهناك حدائق تحولت إلى متاحف، بعضها مجاني، والبعض الآخر مدفوع الثمن، نظرا لأنها تحتوي على نباتات مختلفة عن تلك التي تنبت وتعيش في الحدائق العامة، وهي أنماط من النبات عادة ما يكون قد تم نقلها من أماكن أخرى وزراعتها في هذه الحديقة من خلال توفير بيئة وتربة وعناية مناسبة لكي تنبت وتستمر بعيدا عن موطنها الأصلي، وهذه مهمّة ليست سهلة بسب اختلاف المناخ بالدرجة الأولى، ذلك أن أشجار المناطق الحارة لا تنمو في جو بارد نسبيا مثل جو العاصمة البريطانية، وتحتاج على توفير جو خاص بما يحافظ على شروط بيئتها الأصلية، وهذا ما توفره "حديقة كيو" أو "الحدائق النباتية الملكية"، التي تحولت إلى مختبر علمي عالمي للنبات لا منافس له، فهي انشأت بنك الألفية للبذور، الذي يعد المورد الوراثي الأول للأنواع النباتية البرية الأكثر تنوعًا في العالم، فهو يضم أكثر من 2.4 مليار بذرة تمثل ما يقرب من 40.000 نوع نباتي مختلف.

ويعتبر هذا البنك أداة فعالة من حيث التكلفة للحفاظ على النبات بعيد المدى، بعيدًا عن موطنه الطبيعي، حيث يتم تجفيف المجموعات وتجميدها وحفظها للمستقبل، بما يوفر بوليصة تأمين ضد التهديدات التي تواجهها النباتات في البرية. هناك نوعان من كل خمسة أنواع نباتية مهدّدة بالانقراض، مع ما يترتب على ذلك من آثار هائلة على مستقبل جميع النظم البيئية.

في كيو، تُجمع البذور من خلال الشراكات العالمية والبحوث الميدانية كجزء من شبكة شراكة بنك الألفية للبذور. وبمجرد تخزينها في منشأة خاصة، فإنها تعمل كمصادر متاحة للبحث في إيجاد حلول مستدامة للتحديات العالمية. وتقوم برعاية مجموعاتها وفقًا لأعلى المعايير، حيث تعمل المجموعات عالية الجودة على زيادة طول العمر في التخزين وإمكانية استخدام المجموعات للبحث وإعادة التقديم والاستعادة.

نموذج حدائق كيو موجود في العالم، وهناك حوالي 2700 حديقة تقترب في المواصفات والوظيفة، لكن نسخة لندن تمتاز بأنها تمتلك ثروة من البيانات حول تنوع النباتات. ومع زيادة تأثيرات تغير المناخ، أصبحت هذه الحدائق ذات أهمية متزايدة حيث أن حفظ النبات خارج الموقع الطبيعي يوفر موطنًا للتنوع البيولوجي، بعيدًا عن المكان الذي يوجد فيه بشكل طبيعي.

تغطي حدائق كيو في لندن مساحة 326 فدانًا، وهي تتمتع بهوية متعددة الأوجه تتيح تجارب متتنوعة للزوار. تتكون هذه الهوية من الأدوار المختلفة التي تؤديها على المستويين العالمي والمحلي. الأول هو، إن حدائق كيو معلم عام مهم تم تأسيسه كمؤسسة حكومية في عام 1841 متخصصة بحماية التنوع البيولوجي على المستوى العالمي، ولا تخفي الموسوعات البريطانية أنّها لعبت "دوراً حيوياً في التوسع الاستعماري الغربي". ويلاحظ الزائر أنه لا يوجد نبات على مستوى العالم إلا هناك شقيق له في هذه الحديقة نقله الإنكليز بطرقهم الخاصة، ووفروا له البيئة المناسبة كي ينمو ويستمر. ومن المعروف أن هذا الجهد ليس حديثاً، ولا يقتصر على الانكليز وحدهم، فالكثير من الخضر والأشجار المثمرة نبتت في بلدان معينة، ومن ثم انتقلت بذورها إلى البلدان الأخرى. ويمتاز الإنكليز بأنهم نقلوا الكثير من تراث الشعوب الأخرى، وجزء منه معروض في متاحفهم مثل الآثار التاريخية السورية والعراقية والمصرية، ومثلهم فعل الفرنسيون والألمان. وجرى ذلك حين كانت هذه الدول تشكل امبراطوريات كبرى تسيطر على مقدرات الشعوب الأخرى، واعتبرت أن من حقها الاستيلاء على جزء من تراثها، ومن ذلك النبات.

والدور الثاني هو أن حدائق توفر مساحة ترفيهية هادئة كونها تضم مجموعة منتقاة من النباتات مزروعة بطريقة تحترم الحياة الشجرية، وتضع الشجرة في سياق جمالي مع الزائر الذي يكون علاقة مع الأماكن، تدفعه للعودة مرارًا وتكرارًا، ولهذا تتيح الحصول على عضوية سنوية، تعزز الشعور بأنها ليست متحفاً نباتياً كونياً، بل مساحة للمجتمع المحلي، ومن أجل ذلك توفر تجهيزيات خاصة بالزيارات العائلية والفردية وممارسة الهوايات، والترفيه، والنزهة المدفوعة، والمجانية.


هناك معروضات فنيّة دائمة في الحديقة ضمن رؤية تقدير جمالي شامل للطبيعة. من خلال دمج الأشياء التي يصنعها الإنسان والتي تتناقض مع الأشياء الطبيعية في الحديقة. والهدف دفع الزائر إلى تقدير الطبيعة تمامًا، مما ينتج عنه تقدير جمالي هجين للمناظر الطبيعية. وتمزج هذه النظرة بين عناصر ما قبل وما بعد القرن الثامن عشر، وتركّز على العلاقة بين البيئة والإنسان، حيث تعتبر الطبيعة وتقديرها الجمالي الحقيقي مسؤولية البشر. باختصار، يعزز الفنّ الاختلافات في الصفات الجمالية بين الطبيعة والفن، من دون تدخل تعسفي، ولكن الهدف الأساسي هو تقدير الطبيعة، والتأكيد على أنها ليست فنًا، والحكم عليها على أنها فن، يعني إساءة تقديرها، فالطبيعة تتمتع بقدر أكبر من الحرية الجمالية، وهي غير مؤطرة. وذلك لإيصال رسالة على درجة عالية من الأهمية مفادها أنّ الطبيعة البكر في العالم، تتعرض بشكل متزايد لخطر التعديل والسيطرة البشرية.

عودة إلى الصفحة الرئيسية




تعليقات: