سوريا... حافّة الجوع


الاحتقان الشعبي يتعمّق: سوريا في دوّامة التضخّم

..

على الرغم من تحذيرات الخبراء الاقتصاديين من إمكانية دخول البلاد في دوّامة جديدة من التضخّم القاتل، ولا سيما أن سعر الصرف يشهد منذ قرابة الشهرين موجة جديدة من الانخفاض، رفضت الحكومة السورية التخلّي عن مشروعها الرامي إلى رفع أسعار المشتقّات النفطية، بنسبة تكاد تقترب من التحرير الكامل، مقابل إجراء زيادة على رواتب العاملين في مؤسّسات الدولة والمتقاعدين بنسبة 100%، مبرّرةً ذلك بارتفاع فاتورة الدعم الاجتماعي إلى مستوى بات يهدّد «مالية الدولة». ومع أن سياسة رفع أسعار السلع المدعومة بغية تخفيض عجز الموازنة ليست جديدة، لا بل باتت سِمة عمل الحكومة الحالية منذ تسلّمها مهامها في عام 2021، إلّا أن نسبة الزيادة الكبيرة على أسعار المشتقّات النفطية، تزامناً مع تعرّض القوة الشرائية للمواطن للتآكل مجدّداً بفعل ما شهده سعر صرف الليرة من تراجع كبير أمام الدولار، رفعت منسوب خطورة الإجراءات الحكومية الأخيرة، سواءً لجهة تأثيرها العميق على الوضع المعيشي للأُسر السورية المنهكة اقتصادياً واجتماعياً وصحياً، أو لجهة تعميق الاحتقان الشعبي الذي بدا واضحاً في خلال اليومَين الأخيرَين، وعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة.

ووفقاً للقرارات التي أصدرتها وزارة التجارة الداخلية مساء الثلاثاء الماضي، فقد تمّ توحيد سعر مادة البنزين أوكتان 90 ليصبح 8 آلاف ليرة للّيتر الواحد، بعد أن كان يُباع بسعرين: واحد مدعوم وآخر حرّ، وبذلك تكون نسبة الزيادة حوالى 166% بالنسبة للسعر الذي كان مدعوماً و63% للسعر الحرّ. أمّا البنزين أوكتان 95، فقد ارتفع سعره بنسبة تُقدّر بحوالى 35%. وفي المقابل، أبقت الحكومة على 4 أسعار لمادة المازوت، لكن مع زيادة كبيرة على سعر المادة المُخصّصة للتدفئة والنقل وصلت نسبتها إلى حوالى 185%، وعلى المادة المخصّصة لمعامل الأدوية والاستخدامات الزراعية خارج الكميات المدعومة وصلت نسبتها إلى حوالى 166%، فيما سجّلت نسبة الزيادة على المازوت المخصّص للصناعيين حوالى 113%.


تضخّم مرتفع

تثير مسألة تحرير أسعار المشتقّات النفطية إشكاليتَين أساسيتَين: الأولى جدواها الاقتصادية على المديَيْن القريب والمتوسّط، والثانية تتمثّل في انعكاساتها المحتملة على الوضع الاجتماعي في البلاد. في الأولى، تحاول الحكومة إقناع نفسها قبل مواطنيها بأن معالجة ما تسمّيه «التشوّهات» الحاصلة في ملفّ الدعم الحكومي، من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي، وذلك من خلال إعادة توجيه الكتلة الأكبر من اعتمادات الموازنة العامّة للدولة، لتكون في خدمة الشقّ الاستثماري، إلّا أن التجربة أثبتت - على الأقلّ في خلال الأعوام الثلاثة الماضية - أن رفع أسعار المشتقّات النفطية لم يؤدِّ إلّا إلى مزيد من التضخّم الجامح، وتراجع معدّلات الإنتاج في القطاعَين الصناعي والزراعي نتيجة ارتفاع التكاليف وتبخّر القوة الشرائية للمستهلك، فضلاً عن إحكام السوق السوداء قبضتها على الحياة الاقتصادية في البلاد. ولذا، فإنه من غير المتوقّع أن تتغيّر تلك النتائج مع الخطوة الأخيرة.


أثبتت التجربة أن رفع أسعار المشتقات النفطية لم يؤدّ إلّا إلى مزيد من التضخم


وفي هذا الإطار، يعتقد أستاذ السياسات المالية والنقدية في جامعة دمشق، إلياس نجمة، أن القرارات الجديدة «ستؤدّي إلى حدوث موجة تضخّم كبيرة لسببين: الأوّل أن طبيعة عمل التضخّم هي أشبه بطريقة عمل الأواني المستطرقة، فما إن يرتفع سعر سلعة أو خدمة، حتى ترتفع أسعار كل السلع والخدمات الأخرى». والسبب الثاني، بحسب المتحدث، هو أن «ارتفاع الأسعار الحالي يتعلّق بحوامل الطاقة، والتي تمثّل العصب الأساسي لاقتصاد أي دولة». ولا يستبعد نجمة، في حديثه إلى «الأخبار»، أن تصل نسبة التضخم إلى 100%، الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة. وهذا ما تؤيّده توقّعات معظم الاقتصاديين». ومما يعزّز من تلك التوقّعات السلبية، عجز الحكومة عن توفير الحدّ الأدنى من احتياجات السوق المحلّية من المشتقّات النفطية، سواءً جرّاء عدم تمكّنها من استيراد كميات كافية من النفط الخام، إذ لا تتجاوز وسطياً الكميات المستورَدة شهرياً مليونَي برميل فيما التقديرات تتحدّث عن الحاجة إلى 3 ملايين برميل كأقلّ تقدير، أو نتيجة فشلها في محاصرة السوق السوداء التي كانت تنتعش مع كلّ زيادة على أسعار المشتقّات النفطية وتعدّل أسعارها أيضاً، لتكون النتيجة ارتفاعاً غير مضبوط في تكاليف الإنتاج وتقديم الخدمات في وقت تضيق فيه أسواق الاستهلاك.


الأكثر تضرّراً

في النقطة الثانية المتعلّقة بالأثر الاجتماعي للقرارات الأخيرة، تتبدّى مجموعة من الانعكاسات السلبية المباشرة، أوّلها تعميق حالة الفقر، وزيادة الضغوط المعيشية على شريحة واسعة من السوريين بمن فيهم العاملون في مؤسّسات الدولة، والذين ازدادت رواتبهم وأجورهم بنسبة كاملة (100%)، سرعان ما فقدت أهميتها المعنوية والشرائية حتى قبل صدورها رسمياً، وذلك جراء تفاقم مشكلة الغلاء، والارتفاع المستمرّ في سعر صرف الدولار منذ عيد الفطر السابق، فضلاً عن أن نسبة الزيادة التي طرأت على أسعار المشتقّات النفطية، كانت كفيلة بامتصاص الزيادة الحاصلة على الرواتب وأكثر. وعليه، فإن العاملين بأجر عموماً، والعاطلين عن العمل، والبالغة نسبتهم رسمياً حوالى 21.9%، سيكونون هم الفئة الأكثر تضرّراً من سياسة زيادة أسعار السلع والخدمات. وفي هذا الإطار، يشير نجمة إلى أنه «إذا كانت زيادة الرواتب والأجور محاولة لإزالة بعض الغبن أو الضرر الواقع سابقاً على شريحة العاملين بأجر، فإن زيادة الأسعار ليست سوى زيادة جديدة تضاف إلى أرباح أصحاب الأموال والثروات». ويكشف أن «حصّة العاملين بأجر من الدخل القومي، لا تتجاوز في الوقت الراهن 10-15%، فيما كانت هذه النسبة تصل إلى أكثر من 43% في عام 1968، مع العلم أن العاملين بأجر لم تكن نسبتهم تتجاوز آنذاك 30% من إجمالي عدد العاملين، فيما نسبتهم اليوم تتجاوز 63% وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء».

ولا ينحصر الأثر الاجتماعي للقرارات الأخيرة بنسب التضخّم التي سوف تتسبّب بها فقط، وإنّما يتعدّاها إلى مفعول توقيتها المتزامن مع مجموعة من المتغيّرات الداخلية والخارجية المؤثّرة بشكل مباشر على دخل الأسر السورية، كمحدودية فرص العمل المتاحة محلياً ومستويات أجورها المتدنية في كلا القطاعين العام والخاص، وتقليص المنظّمات الأممية لحجم مساعداتها الإغاثية الموجّهة إلى السوريين على خلفية تحوّل اهتمامات المموّلين في اتّجاه مساعدة النازحين الأوكرانيين ودعم حكومة كييف، إضافة إلى التوقّعات الخاصة بانخفاض تحويلات اللاجئين والمهاجرين إلى أسرهم وأقاربهم في الداخل السوري. وتالياً، فإن النتيجة الوحيدة لكلّ ما سبق ستكون مزيداً من الفقر المدقع والحرمان الشديد وزيادة حدّة الاحتقان الاجتماعي.

عودة إلى الصفحة الرئيسية


زيادةٌ لا تغني ولا تسمن: رواتب السوريين تكفي لأسبوع واحد

سوريا لمى علي

لم يفلح قرار زيادة الأجور بنسبة 100%، والذي انتظره السوريون طويلاً، في إرواء عطش هؤلاء، لا بل إنه استثار غضبهم لما رافقه من زيادة في أسعار المحروقات - التي كانت ارتفعت مرّات عدّة أصلاً منذ بداية العام -، ستؤدي بدورها إلى زيادة في نسب التضخّم والفقر، ومزيد من التدهور في مستوى المعيشة، على اعتبار أن الارتفاع سيطال أسعار السلع كافة، بأضعاف ما كانت عليه قبل صدور المرسومَين التشريعيَين 11 و12. ولعلّ أولى بوادر التداعيات المنتظَرة، تجلّت في الصباح التالي للقرارات الأخيرة، والذي شهد أزمة مواصلات كبيرة في أغلب المناطق بسبب امتناع الكثير من سائقي التاكسي والباصات عن العمل بتعرفة النقل القديمة، والتي لم تَصدر تعديلاتها حتى آخر النهار، بعدما عانى وتضرّر الكثير من المواطنين، وعلى رأسهم طلاب الجامعات الذين لم يصلوا إلى امتحاناتهم في الوقت المحدّد، وموظفون دفعوا أجوراً مضاعفة ليصلوا إلى أماكن عملهم.


بالورقة والقلم

وفق الأرقام الصادرة عن «المكتب المركزي للإحصاء»، فإن معدّل التضخم بين عامَي 2011 و2021، بلغ 3852.29‎%، أي أن الأسعار تضاعفت خلال تلك الفترة بحوالى 40 مرّة. أمّا معدّله لعامَي 2022 و2023، بحسب البيان المالي لوزارة المالية، فبلغ 100.7 و104.7%، أي أن الأسعار ازدادت بحوالى 160 مرة. وبالتالي، فإن الحدّ الأدنى للرواتب والأجور، والذي يمكن أن يتناسب مع الزيادات المذكورة، يجب أن يصل إلى 1.5 مليون ليرة شهرياً على أقلّ تقدير، علماً أنه وفقاً لدراسة محلّية حديثة، أعدّتها صحيفة «قاسيون»، فإن حاجة الأسرة المكوَّنة من 5 أفراد تصل إلى 6.5 ملايين ليرة شهرياً للعيش بصورة مقبولة.

تقول المواطنة سلاف الحسين، في حديث إلى «الأخبار»: «عشنا وقتاً طويلاً من التخدير في انتظار زيادة رواتب تناسب الوضع المعيشي البائس الذي نتحمّله، وكانت الطروحات المتداولة أن نسبة الزيادة ستصل إلى 400% وهذا هو المنطق لنتمكّن من العيش، إلا أننا خُدعنا وخُذلنا». أمّا المواطن ورد الخيّر فيقول: «كنّا نتوقّع ألّا يحصل الموظف على راتب مليون ليرة كما يجب أن يكون، لكن على الأقلّ أن يصل الراتب إلى 500 ألف حتى يتمكّن ربّ الأسرة الذي يعمل عملين أو ثلاثة من أن يعيش وعائلته بكرامة».

من جهته، يعتقد عضو «مجلس الشعب» المستقل، ناصر الناصر، أن الحكومة «عاجزة عن فعل أيّ شيء لتحسين الوضع المعيشي، وخاصّة مع التخبّط والعشوائية في القرارات»، لافتاً إلى أن «الحجّة دائماً هي عدم استقرار سعر الصرف، ولا نعرف لماذا على الشعب أن يدفع ثمن ذلك، وتبقى الحكومة هي الرابحة». ويؤكد أنه «لم يعد هناك فائدة من الكلام والمطالبات والمداخلات تحت قبّة البرلمان، لأنها لم تثمر أبداً»، قائلاً: «لم نَعُد قادرين حتى على مواجهة ممثّلينا من الشعب الذي خذله نوابه وحكومته».


لا تحسُّن سيطرأ على معيشة المواطن نتيجة زيادة الرواتب والأُجور


حدود الكرامة

لا يبرح الموظفون السوريون يقارنون رواتبهم الهزيلة برواتب موظفي الدول العربية الفقيرة منها والغنية، و«يُقرّشون» أجورهم بالدولار ليجدوا أنهم يَقبلون العمل في دولتهم بأبخس الأثمان على الإطلاق. وفي هذا الإطار، يقول المواطن جاد عز الدين، الموظف منذ 16 سنة، لـ«الأخبار»: «لا يتجاوز راتبي الشهري الـ20 دولاراً»، وهو ما يعدّ «بقشيشاً في بعض الدول الأخرى»، متسائلاً: «هل فكّرت الحكومة قبل إقرار هذه الزيادة المنتظرة، كيف سيتحسّن الوضع المعيشي للمواطن؟ هل تريدنا أن نلجأ إلى السرقة وأكل المال الحرام؟».

أمّا سراء إبراهيم، فتقول باستهزاء: «كان الراتب يكفي أسرة صغيرة لمدّة 3 أيام، والآن أصبح يكفيها لـ6 أيام»، فيما تشير المدرّسة المتقاعدة، هيام عبد الله، إلى أن راتبها التقاعدي الذي تضاعف «بالكاد يؤمّن لها ثمن أدويتها التي طالها ارتفاع أسعار الدواء الأخير بنسبة 50%، إضافة إلى كيلو من البن»، مضيفةً أنها «تعتمد بشكل أساسي على الحوالات التي تصلها من أبنائها في المغترب». وتقول: «ياريت ما زادوا هالراتب»، لما سيرافق ذلك من ارتفاع في أسعار كل السلع كما جرت العادة.

وإذا كان موظفو القطاع الحكومي، الذين مُنِحوا زيادة على رواتبهم، هم الفئة الأكثر فقراً في المجتمع السوري، والذين تبلغ نسبتهم 14.5% من حجم قوة العمل، وفق أرقام «المركزي للإحصاء» لعام 2021، فالواقع أن ميزات العمل جميعها في هذا القطاع تلاشت أمام الأجور المتدنيّة التي لا تحقّق للموظف أدنى مقومات الحياة. ويتّهم الموظف عادل السبع الحكومة بأنها «أهدرت كرامة الموظف بهذه القرارات، ومن الأفضل البحث عن عمل في القطاع الخاص، الذي على الأقلّ يعطي في أسوأ حالاته ضعف راتب العمل الحكومي»، مضيفاً أن «العمل في سوريا بات بالنسبة إلى أغلب أبنائها نوعاً من أنواع العبودية، لكنها عبودية لا تشبع عبدها الطعام حتى يقوى على العمل في اليوم التالي».


أولويات الحكومة

بدوره، يؤكد الباحث الاقتصادي، محمد كوسا، أنه «لا تحسُّن سيطرأ على معيشة المواطن نتيجة هذه الزيادة، إذ إن السوق امتصّها حتى قبل الحصول عليها، فأسعار السلع والخدمات ارتفعت متأثّرةً بقرارات رفع أسعار مشتقّات الطاقة وتقليص الدعم»، مُضيفاً أن «التأثير الحاصل من تلك الزيادة لن يتعدّى العودة بالقدرة الشرائية إلى ما كانت عليه قبل شهرين فقط». ويرى كوسا، في حديث إلى «الأخبار»، أن «إعادة هيكلة الدعم مسألة ضرورية لأيّ حكومة، لكن من غير الصحيح القول إن نسبة زيادة الرواتب هي من كتلة الدعم، وإنما تخفيض كتلة الدعم هو تصحيح لوضع الموازنة العامة وتوجيه للإنفاق العام في اتّجاهات لها أولوية لتخفيض أو تصفير العجز في بعض بنود الموازنة»، متابعاً أن «الحكومة مضطرّة للإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات العامة من كتلة الدعم بدلاً من تخصيصها لزيادة الرواتب».

ويعتقد كوسا أن الخلل «يكمن في صناعة القرارات الاقتصادية الإدارية التي تتطلّب العقول الخبيرة لتقوم بالدراسات الكاملة الدقيقة، بعد فهم الأهداف والسياسات الموضوعة، وإن وجدت تلك الخبرات تصاب القرارات بالانحراف عند تطبيقها، ممّا يفسح المجال للفساد للتغلغل بسبب ضعف مقدرة المنفّذين». وعن الحلول الممكنة، يعتبر أنه «لا بدّ من تحسين الدخول» كـ«ضرورة حكومية اقتصادية واجتماعية»، مضيفاً أنه «على المدى القصير، يتوجّب العمل على إصدار زيادات متواترة متلاحقة ومتقاربة على الرواتب والأجور، ويمكن تعديل شرائح الضريبة على الراتب أو تعليقها لمدة عام مع إيقاف حسميات التأمينات الاجتماعية وصناديق التكافل وغيرها للوصول إلى الحدّ الأدنى من الدخل الذي يتمكّن معه الموظف من تأمين أساسيات متطلّبات المعيشة، مع الاستمرار في تقديم المنح المالية». أمّا على المدى البعيد، فيتحدّث عن «حلول مركبة جوهرها الخروج من التضخم البنيوي للاقتصاد السوري بالاعتماد على مسألة التشغيل السياسي».

عودة إلى الصفحة الرئيسية


حاجة الأسرة المكوَّنة من 5 أفراد تصل إلى 6.5 ملايين ليرة شهرياً (أ ف ب)
حاجة الأسرة المكوَّنة من 5 أفراد تصل إلى 6.5 ملايين ليرة شهرياً (أ ف ب)


تعليقات: