كارلوس غصن... اللصّ «الحربوق»!

(جون أس. دايكس ـ بوسطن)
(جون أس. دايكس ـ بوسطن)


يبدو أن الرئيس التنفيذي السابق لشركتَي «رينو» و«نيسان»، لم يحبّ وثائقي «الهارب» الذي قدمته منصة نتفليكس العام الماضي. لذلك، تعاون مع فريق من «وول ستريت جورنال» وشركة إنتاج بريطانية لإعادة سرد الحكاية في وثائقي بعنوان «مطلوب للعدالة: قصة فرار كارلوس غصن» على قناة «أبل. تي. في. بلس». أربعة أجزاء منحته فرصة للدفاع عن نفسه كضحيّة، ورسم زوجته كبطلة، والتشكيك بتهمة القتل العمد التي وجِّهت لوالده

ليس الوثائقي الجديد عن قصة فرار كارلوس غصن (مواليد 1954)، أول عمل يتمحور حول الحكاية الشكسبيريّة الطابع عن صعود وسقوط الرئيس التنفيذيّ السابق لشركتي «رينو» و«نيسان». يبدو أن غصن نفسه كان وراء إنتاج وثائقي «كارلوس غصن: الرحلة الأخيرة» (2021 ـــ إخراج نيك غرين وإنتاج نورا ملهي) الذي عرضته القناة الرابعة في «بي. بي. سي» (البريطانية) وجاء أشبه بمرافعة دفاعيّة عنه، ثم لحق به وثائقي «الهارب: رحلة الفرار العجيبة لكارلوس غصن» (2022 ـ إخراج لوسي بلاكستاد) الذي قدمته منصة نتفليكس وكان أكثر توازناً، ما دفع غصن وزوجته إلى الامتناع عن المشاركة فيه. ولذلك، يبدو أن الرجل، الذي احتفظ عمليّاً بكل الثروة التي جمعها (سواء بشكل قانونيّ كما يدّعي أو غير قانوني وفق الاتهامات اليابانيّة والفرنسيّة) والمعنيّ بشكل جنونيّ بصورته العامّة، لم يكن ليترك الكلمة/ الصورة الأخيرة أمْيَلَ إلى إدانته. ولذلك، قرّر هو وزوجته منح كل مساعدة ممكنة لصحافيّي «وول ستريت جورنال» نيك كوستوف وشين ماكلين اللذين سبق أن أعدّا كتاباً عن قصة هربه بعنوان «بلا حدود: قصة صعود، وسقوط وفرار كارلوس غصن» (2022)، إلى جانب رفيقهما المخرج جيمس جونز. هذه المساعدة ترمي إلى تعديل كفّة «الهارب» عبر وثائقي جديد يرتكز إلى: مقابلات مديدة مع المتهم وزوجته، ومشاهد أرشيفيّة خاصّة وعامّة، وصول مفتوح وبلا حدود للأرشيف الشخصيّ (يشغل طابقاً كاملاً في منزل غصن الفاخر في منطقة الأشرفيّة في بيروت)، ناهيك بلقطات حصريّة خاصّة لـ «البطلين»، فيما لا يمكن تأكيد أو نفي ما إذا كانت ثمة تسهيلات أخرى قدّمت لفريق العمل مثل التمويل أو تكاليف الاستضافة في لبنان.

النتيجة مسلسل وثائقيّ في أربعة أجزاء بعنوان «مطلوب للعدالة: قصة فرار كارلوس غصن» أطلقته منصة «أبل. تي. في. بلس» (بداية من يوم الجمعة 25 آب (أغسطس). يُعيد المسلسل تقديم الحكاية (لم تعد حدثاً منذ بعض الوقت) في نسق تفصيليّ مملّ حيناً، وهوليووديّ أحياناً أخرى، مع إدارة مبدعة للكاميرا والغرافيكس، وحرفيّة في استدعاء تعاقب الأحداث، وتعدد لافت في عدد الشخصيات المهمة ذات الصلة، ما أبقى مستوى التشويق عالياً رغم التعثر بكثرة الاستطرادات الجانبية أحياناً. مع ذلك، سرعان ما يظهر أنّ غاية العمل الوحيدة هي ثني السرديّة العامّة التي كان قد ثبّتها وثائقي نتفليكس ضدّ مصلحة غصن عبر أدوات عدة منها ما يتعلّق بالوقت، ومنها ما يتعلّق بالمضمون، ومنها ما يتعلّق بصيغة الإدانة.

من ناحية الوقت، يحظى غصن بفرصة ربّما لن تتكرر لتقديم نفسه للرأي العام العالميّ في موقع الضحيّة لمؤامرة صراع عروش يابانيّة ضدّه، والجأر بالشكوى من ظلم النظام القانوني اليابانيّ لدى اعتقاله في عام 2018 (يقول في أول مؤتمر صحافي له لدى ظهوره في بيروت: «لم أفرّ من العدالة، لقد فررت من الظلم»). يقول إنّه اضطر للفرار بحياته إلى حيث يمكنه الدفاع عن نفسه من دون ضغوط. ويتقاسم غصن الوقت السخيّ الممنوح له مع زوجته (الثانية الأميركيّة اللبنانية كارول ـــ تزوجا عام 2016) التي أصدرت السلطات اليابانيّة مذكرةً باعتقالها هي الأخرى في عام 2020 لدى توسّع التحقيقات. وانعكس هذا السخاء في المحصلة، على توسيع حكاية تحتاج إلى فيلم من 90 دقيقة بحد أقصى، إلى مسلسل من أربع حلقات تلفزيونية كاملة.

وعلى الرّغم من أن غصن، المسطّرة بحقّه مذكرة دوليّة حمراء من الإنتربول باعتقاله وتسليمه للمحاكمة في فرنسا واليابان، يصعب الدفاع عنه أقلّه وفق مجموع التهم الرسميّة الضخمة الموجهة إليه والمساءلة الأخلاقيّة وجريمة الفرار من العدالة، إلا أنّ المسلسل، في المضمون، يلعب بذكاء وحرفيّة على تلميع الصورة الكليّة له عبر إغراق المشاهد في كمّ هائل من أنصاف الحقائق (لقد تسبّب في صرف ثلاثة آلاف من العمال في مصنع «رينو» في بلجيكا، فيما هو فعلياً حقّق وفراً هائلاً للشركتين عبر صرف عشرات الآلاف من الموظفين، ووضع البقيّة تحت ضغوط هائلة لزيادة الإنتاجيّة تسبّبت في تعاسة حياة آلاف آخرين وانتحر بعضهم بالفعل ووجّهت لـ «رينو» في فرنسا تهم جرميّة في هذا الشأن)، والتشكيك (في صحة اتّهام والده الذي كان يعمل في التهريب والتجارة الممنوعة بالعملات بين أفريقيا ولبنان، واستدرج شريكه في الأعمال القس بولس مسعد على إثر خلاف ماليّ وقتله برصاصتين قبل أن يقبض عليه ويحكم بالإعدام ومن ثم يهرب إلى البرازيل تحت غطاء الحرب الأهليّة)، والإضاءة على الصغائر (لقد تآمر لمنح نفسه تقاعداً مجزياً وأفاد بعلم الشركة أحياناً من مواردها كالعقارات والطائرات ومصاريف البذخ البورجوازي) مقابل تجاهل الكبائر (هيكليّة متكاملة لاختلاس أموال هائلة عبر شبكة من الشركاء والشركات/ الواجهات، وخيانته للأشخاص من حوله بمن فيهم مديره السابق ومساعده، إلى جانب الموظفين العاديين)، وتشويه نظام العدالة الياباني. صحيح أنّ نسبة الإدانة لمن يدخل السجن مرتفعة للغاية، لكنّ الوثائقي يتجاهل عن عمد حقيقة أنّ التحقيقات في اليابان دقيقة ومستوفية، وأن حوالي ثلث المتهمين فقط ينتهون إلى المحاكمة، كما أن السلطات منحت غصن لمرتين متتاليتين فرصاً للعيش تحت الإقامة الجبرية في منزله الباذخ مقابل كفالة مالية لكنه استغلها لتنفيذ عمليّة هرب مخابراتية الطراز.


أما في صيغة الإدانة، فإن المسلسل يضخّم من عداء ثقافيّ مزعوم من قبل اليابانيين لهذا المدير الأجنبي اللامع، ومن تخلّ فرنسيّ عنه عندما رفعت السكاكين في وجهه، ويهمل الفضائح الإداريّة (اتهام موظفين بالتجسس لمصلحة الصين من دون إثبات، والسلوك الديكتاتوري مع الموظفين، وإساءة الأمانة) مع إظهار مثالبه الأخلاقيّة وكأنّها تتعلق أساساً بامتناعه عن مساعدة مايك تايلور - عسكريّ أميركيّ سابق يقوم كمقاول من القطاع الخاص بعمليات مخابراتية الطابع عبر شركة مشبوهة – بعدما كشف أمر تنظيمه عمليّة تهريب غصن في صندوق أدوات موسيقية عبر طائرة خاصة مستأجرة. وكانت اليابان قد تسلّمته من الولايات المتحدة وسجنته لعامين، كما ابنه البكر بيتر (لسنة ونصف سنة) مع تحميله تكاليف الملاحقة القانونية الباهظة وكل ذلك من دون أن يسأل عنه غصن أو يدفع «المعلوم» المتوقع مقابل عملية التهريب الدراميّة، وأيضاً تخليه عن كريغ كيلي الموظف الأميركي الذي أدين في واحدة على الأقل من تهم مساعدة غصن على الإفادة الماديّة من منصبه وسجن لستة أشهر، إلى جانب ثلاث سنوات ونصف السنة قضاها في الحجز الاحتياطي.


يعيد المسلسل تقديم الحكاية في نسق تفصيليّ مملّ حيناً، وهوليووديّ أحياناً أخرى، مع إدارة مبدعة للكاميرا والغرافيكس

يعمد الوثائقي إلى ابتداع مقاربات سيكولوجيّة للحكاية أقرب إلى الخزعبلات بهدف موضعة غصن في مكان الضحية والشهيد، ومنها اقتراح أنّ دوافعه للنجاح بأي ثمن وتلميع ذاته متأتية من مشكلات نفسية بسبب محاولته إثبات نفسه نقيضاً لنشأته التعيسة طفلاً لأب مجرم فار من وجه العدالة (أي مسكين)، أو أنّ سلوكياته الاستعراضية جزء من أزمة منتصف عمر أصيب بها، فطلّق زوجته اللبنانية أمّ أبنائه الثلاثة بعد زواج دام سنوات طويلة وتزوج في أجواء نيويورك المخمليّة من سيدة أميركيّة لبنانية الأصل، لديها ثلاثة أولاد أيضاً بسبب جمالها، وبدأ حينها يعتني بهندامه ومظهره ويستعرض نفوذه أمام معارفه ويقضي معظم وقته بعيداً في إجازات على حساب الشركة بعيداً عن مقري العمل في طوكيو وباريس... أي «جهلة» يقع فيها معظم الرجال! أو يروّج المسلسل لفكرة أنّ «المؤامرة» على غصن بدأت من لحظة تنظيمه احتفال عيد ميلاده الستين في أجواء لويس السادس عشر وماري أنطوانيت في قصر فيرساي بحضور 150 شخصاً من الأحبة والأصدقاء والمعارف منهم ثلاثة أشخاص من الشركتين، رغم أن الفاتورة قدّمت للشركة بوصف الاحتفال خاصاً بمرور 15 عاماً على تحالف «رينو /نيسان» وشعور البعض في الشركتين عندئذ بالحسد... أي «ضحيّة ضيقة عين»! إلا أنّ مصاعب الشركتين معه بدأت من لحظة الأزمة المالية العالمية واضطرار غصن على إثرها للتنازل عن 10 ملايين دولار من دخله السنوي البالغ 20 مليوناً وإحساسه بالظلم، أو أنّ موظفاً «هندياً» خان مديره الذي هو غصن، وتآمر مع المديرين اليابانيين في الشركة لتلفيق تهم له، أي مؤامرة قصور، وكذلك أنّ الفرنسيين كانوا يعتبرونه فرنسياً في لحظات الألق، لكنهم تخلوا عنه واعتبروه لبنانياً عندما انكشف أمره، أي بطل قوميّ... أو أن اليابانيين لديهم عقدة الأجنبي وأنهم لم يستطيعوا «بلع» أنّ غصن يتلقى راتباً مليونياً يفوق راتب المدير التنفيذي لـ «تويوتا» العظيمة بسبع مرات على الأقل – أي فروق ثقافيّة لا أكثر -، أو أن مديري «نيسان» أرادوا بإبعاد غصن منع حدوث ذوبان شركتهم في «رينو» ضمن شركة واحدة بدل صيغة التحالف المعتمدة... أي ضحية جانبية وهكذا... على أن هذه المقاربات جميعها تفشل في تحويل مسار الإدانة بعيداً عن غصن، الذي تظهر محاججاته دائماً هزيلة وغير متماسكة، ولا سيّما أنّه كان يدّعي دوماً أنّ مشكلته تكمن في النظام القضائي الياباني وأنّه لا يمانع محاكمته في فرنسا، ليهرب إلى لبنان ويمتنع عن تسليم نفسه للسلطات الفرنسيّة بحجة أنّه لا يمتلك جواز سفر.


منح المسلسل غصن تقديم نفسه للرأي العام العالميّ في موقع الضحيّة لمؤامرة صراع عروش يابانيّة ضدّه

بالطبع، فإن تفاصيل قصّة كارلوس غصن وزوجته معروفة على نطاق واسع في لبنان والعالم العربي، وهي متوفرة بكثافة على الإنترنت، ولا شكّ في أنّ الملايين حول العالم تابعوا تقلّب أحداثها، ولا سيما في اليابان وفرنسا والولايات المتحدة ولبنان. لكنّ النهاية المؤسفة للرجل الذي كان، في لحظة ما، في قمّة المجد والشهرة كأنه عجل الرأسماليّة الذهبي، قبل أن ينتهي في صورة اللصّ «الحربوق» الهارب من عدالة القانون، تكشف عن تلك الثقوب الكثيرة التي تحملها الثقافة الرأسماليّة في الإدارة مثل التركيز على النتائج المالية الفصليّة لأرباح الشركات من دون النظر في الأداء الكليّ طويل المدى، وعقم منهجيّة النجم الفرديّ/ «السوبرمان» الغربيّة التي تخلق أشخاصاً بذوات متضخمّة مستعدين للتضحيّة بشعوب أحياناً لإرضاء نفسيتهم الفاسدة، والفشل الذريع لعولمة النموذج الغربي في الإدارة، وغياب أساسيات المحاسبة والتدقيق الحقيقي عن شركات كبرى في إطار مافيات ترتبط بمراكز قوى، وانعدام الحوكمة الحقيقيّة، وانتشار ثقافة مكافأة الولاء على حساب الكفاءة، وتعمّد الانفراد بالسلطة وتعطيل صعود كوادر بديلة... كما تكشف التهتك السيكولوجيّ للإنسان البورجوازيّ الذي كلّما تضاعف ثراؤه زاد جشعه، وذاك الصلف البشع والشعور المرضي بالاستحقاق الذي يحكم سلوكياته وردود أفعاله (تسخر كارول في وقت ما من كاركتيرات نشرت في صحف عالميّة عدة عن قضية زوجها وتحتفظ بها معلقة على جدار منزلها البيروتيّ، ويرفع كارلوس دعوى بقيمة مليار دولار على «نيسان» مقابل إزعاجه بتوجيه الاتهامات إليه)، وجرأته اللامحدودة في توظيف ثرائه وعلاقاته لتجنّب الإجراءات التي يخضع لها بقيّتنا (كفالات مليونية، استئجار عصابات وطائرات خاصة غبّ الطلب، ولا نعرف كيف دخل إلى لبنان بدون وثائق لكنّه يقول إنّه أبلغ الرئيس اللبناني بعد وصوله سالماً إلى بيروت)... والأهم من ذلك كلّه المفسدة المطلقة التي تتسبّب بها السلطة المطلقة في كل حال. إنّها منظومة مصمّمة ــ بحكم ارتباطها بنزوع الأفراد للبحث الجشع عن مصالحهم الشخصيّة كما يقول آدم سميث ـــ لأن تجعل من كلّ فرد منا مرشحاً ليكون في ظروف معينة كارلوس غصن آخر!

* Wanted: The Escape of Carlos Ghosn على «أبل. تي. في. بلس»

* Fugitive: The Curious Case Of Carlos Ghosn على نتفليكس

«مطلوب للعدالة: قصة فرار كارلوس غصن»
«مطلوب للعدالة: قصة فرار كارلوس غصن»


تعليقات: