كيف تحافظ اللبنانيات على أناقتهن رغم الأزمة؟

نمط العيش الاستهلاكيّ المفرط سابقًا، تحول إلى حيلة توفيريّة (المدن)
نمط العيش الاستهلاكيّ المفرط سابقًا، تحول إلى حيلة توفيريّة (المدن)


أربع سنوات على عمر الأزمة، تحلّل فيها شظف العيش وتعفن ثمّ تكثف لينفجر في وجه اللبنانيين جميعًا. أما الهلهلة العموميّة، الفاقة الرثّة، الإهمال والاهتراء، فهي خلاصة هذا التّحلّل، الذي يُشبه إلى حدٍّ بعيد التمثيلات الروائيّة للمدينة الفاسدة (الديستوبيا) أو السينمائيّة لنهاية العالم (الأبوكاليبس).

لكن وعلى الضدّ من كل أنماط المدن الفاسدة المتوقعة، والدول المنكوبة اقتصاديًا، ما زلت تمشي في الشارع العام وفي مختلف المناطق، لتتلقفك غالبًا قيافة اللبناني واللبنانيّة، العصريّة، هندامهما المرتب، الفاقة الماديّة المُجملة والمستترة تحت حجب الموضة الدارجة. فتتساءل مذهولاً: كيف تمكن اللبنانيون وتحديدًا النسوة منهن، إخفاء الرداءة الوطنيّة العامة، بهذا الملبس الجميل؟


التّدبير والتّوفير

"اشتري اللباس الشتويّ الأنيق كل صيف من متاجر عدّة خصوصاً من سلسلة محلات الفرانشايز، فيما أشتري ملبس الصيف والأحذية المفتوحة والثياب الرياضيّة، منتصف شهر كانون الثاني، حين تكون أسعارها منخفضة وعليها حسومات، وبذلك أضمن لباسي الصيفيّ والشتويّ الجديد والعصريّ طيلة المواسم، فيما أقوم بالمال الذي وفرته بشراء الحلى الذهبيّة والأحجار الكريمة، التّي تزيد أناقتي وتمثل استثمارًا حقيقيًا على حدٍّ سواء". بهذا تختصر شذى، الشابة العشرينيّة، نمط عيشها الحديث ما بعد الأزمة، وطرق تأقلمها مع انخفاض قدرتها الشرائيّة وقيمة راتبها في قطاع الاستشفاء مقابل سعر صرف الدولار، أمام العملة الوطنيّة.

فبعدما بات محسومًا تخلي شطرٌ هائل من اللبنانيات عن نمط تسوقهن السّابق (بعد انخفاض قدرتهن الشرائيّة)، والمغادرة النهائيّة لعددٍ من الماركات العالميّة. يسارع جزءٌ منهن، للحؤول دون تردي نمط عيشهن (خصوصًا الطبقة المتوسطة، المتبخرة)، بالنظر إيجابيًا لهذه الأزمة. فنمط العيش الاستهلاكيّ المفرط سابقًا، تحول إلى حيلة توفيريّة.

فبات دارجًا الاستثمار بالجودة بدل الكميّة، إعادة التّدوير وتجديد الملابس لدى الخياطين، تفضيل التّسوق في المحال التّجاريّة الشعبيّة والمحليّة عن العلامات التّجاريّة الغاليّة، شراء الملابس الصديقة للبيئة والمستدامة (Eco friendly)، المحافظة على الملابس، المشاركة في ماراثون الحسومات الموسميّة (شراء الثياب في غيرها موسمها حين تكون أسعارها منطقيّة وتوفيريّة..)، مشاركة الملابس بين الأصدقاء والعائلة، وغيرها الكثير من الحيل التّي تحافظ على القيافة العصريّة والقدرة الشرائيّة، في آنٍ واحد.

وهذا النمط الاستهلاكيّ المُستحدث، أتاح أمام أعداد ضخمة من المشاريع والأعمال الصغيرة ومتناهيّة الصغر (غالبًا ما تقودها نساء)، بالنهوض بنفسها، إزاء سيل الأزمة والشلّل الاقتصاديّ الجارف. كالبالة التّقليديّة، والبالة الافتراضيّة (online thrift stores)، والأوت ليت (outlet stores)، ومصانع الثياب المُخاطة يدويًّا، ومتاجر الموضة السّريعة المحليّة (fast fashion)، ومحال الملابس المُستوردة بأسعارٍ تنافسيّة.. وغيرها الكثير من أنواع التجارة، التّي ازدهرت في الفترة الأخيرة.


ازدهار مُستحدث

في حديثها إلى "المدن" تروي أماندا وهي صاحبة مشروع تجاريّ ومحل تجزئة للملابس ذات الجودة العاليّة لكن بأسعارٍ منطقية "outlet" و"brand stock"، المغامرة الاقتصاديّة التّي خاضتها، لافتتاح مشروعها، ومن تأثرها الشخصيّ بعوامل الأزمة، وانطلاقتها من صفحة افتراضيّة لعرض الملابس وبيعها على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، لمحل تجاريّ بفرعين، أطلقت عليه "مشروع محل". قائلةً: "ببداية الأزمة، وما تبعها من جائحة كوفيد -19، اضطرت لترك عملي في أكبر محال التّجزئة في لبنان والعالم، علمًا أنه بات لا يُغطي لي نفقات الفاتورة المعيشيّة وخصوصًا أني أتابع تحصيلي الجامعيّ وأمٌّ عزباء، وعليه فكرت، وكثفت كل خبرتي لإثني عشر عامًا، وكفاءتي التعليميّة بمجال إدارة الأعمال، للاستفادة بأكبر قدرٍ ممكن من الأزمة".

تضيف: "لاحظت صعود المحتوى الرقميّ، والمشاريع الافتراضيّة، التّي بدأت بالازدهار (بسبب الإغلاق العام حينها)، ففتحت صفحة على مواقع التّواصل واسميتها "مشروع محل"، حيث لم يكن لدي الميزانيّة الكافية لفتح محلي الخاص، وبدأت بعرض الملابس الفائضة والمكدسة التّي كنت أشتريها من العلامات التّجارية غير المستعملة والأوروبيّة ذات الجودة العاليّة، وأعرضها بأسعارٍ منطقيّة، تستهدف الشريحة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة التّي اضطرت لتغيير نمطها الاستهلاكي كالمتوسطة والمفقرة، فيما تمكنت لاحقًا من استقطاب باقي الطبقات". وتقول: "بعد سنتين على فتحي للصفحة الافتراضيّة، تمكنت من جمع مبلغ لاستئجار متجر صغير، وقمت بفتحه بالفعل، لكن لم أجد إقبالاً كافيًا لأسباب عدّة منها الموقع والتأرجح المزمن في سعر الدولار والوضع العام وغيرها".

إلا أن أماندا لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الإحباط المؤقت، وعزمت على استكمال مشروعها، موقنةً أن الصبغة الفريدة التّي تميزت بها تستحق أن تنجح وقررت فتح متجر آخر، في منطقة شعبيّة أكثر، وتحديدًا في برج البراجنة، وقامت بتزيينه بطريقة يدويّة، مستثمرةً الإكسسوارات والقطع المستعملة التّي وجدتها في منزلها ومنزل أقربائها لوضعها كتحف فنيّة في المتجر، من دراجة هوائيّة قديمة (حوالى السبعين عامًا) وصبغتها باللون الذهبيّ، إلى ماكينة خياطة تعود لأسلافها، ما دفع المتسوقين والمارة، لأن يدخلوا إلى متجرها الملّون والمرتب على خلاف بعض المحال التّجاريّة الشعبيّة المحاذية، ليُصدموا بالأسعار المنطقيّة، والتّي أحيانًا قد تقلّ عن أسعار المحال الشعبيّة نفسها. خاتمةً: "نحاول نحن النسوة اللّبنانيات بكافة الأساليب التّحايل على هذا الوضع الصعب، والمكسب التّراكميّ الذي أحققه هو دليلٌ على نجاح تفانيّ في حرفتي".

قد يُحاججك البعض أن الأزمة الاقتصاديّة تفاوتت وطأتها بين اللبنانيين أنفسهم، وأن هناك –مؤامراتيًا- مالٌ مخفيّ في جيوب بعضهم، إلا أن وراء هذا الحديث المُفتقر للعملانيّة، جانبٌ آخر. فاللبنانيون، وتحديدًا النسوة، قد تمكنّ من التّحايل وبأكثر الطرق دهاءً وصلابةً على الأزمة، ليحافظن ولو لمامًا على نمط عيشهن السّابق. في تحدٍّ معلن للرداءة والهلهلة العامة، بأكثر المشاهد جماليّةً.

تعليقات: