السنّة ومدنهم ومشروعهم: التهميش الذي قوّض الكيان والدولة

شكل مقتل رفيق الحريري نقطة مفصلية نحو تهميش الطائفة السنية بالمعنى السياسي (علي علوش)
شكل مقتل رفيق الحريري نقطة مفصلية نحو تهميش الطائفة السنية بالمعنى السياسي (علي علوش)


بعيداً عن ما أفرزته انتخابات المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى من نتائج، وبمعزل عن الدخول في تفاصيلها، والتي تشير إلى تنوع في الاتجاهات، وعدم قدرة أي طرف على الحسم بالكامل.. إلا أن الاستحقاق -الذي يأتي معطوفاً على قرار التمديد لمفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان- يمثل بعضاً من التجديد داخل المجلس، في موازاة محاولة تجميع بعض الأدوار لدى المفتي، في ظل غياب مرجعية سياسية واضحة للسنّة. فالنتائج التي صدرت قد تكون هي الأسهل، طالما أن كل طرف نال حصّة. وهي تفسّر الواقع القائم بوضوح، بخلاف الاستثناء الذي كانت قد كرسته الحريرية السياسية في توضيح الرؤية والمشروع وتوسيع الدور.


الفتوى ليست بكركي

عملياً، ومن حيث الشكل، يعود السنّة إلى تموضعهم الطبيعي، بين قوى تتنافس فيما بينها، وتجد نفسها مضطرة لبناء تحالفات خارج إطار الطائفة أو المذهب، للعب دور على المستوى السياسي. فيما هناك اعتقاد يسود بأن لا قدرة لدار الفتوى ولا الآليات التنظيمية لديها لتتمكن من أن تكون قائدة الطائفة سياسياً. فهي مختلفة عن بكركي، لا سيما أن السنّة في هم قلب وصلب النظام اللبناني، ودار الإفتاء هي وظيفة تابعة لرئاسة الحكومة. مع ذلك، تفتح تلك الانتخابات نقاشاً جديداً كان قد فتح قبل الانتخابات النيابية وبعدها حول الواقع السنّي، الذي لا يزال مفتقداً لأي دور أو مشروع، وما أفرزته من انقسامات وتشظيات لا تزال تنتج حالة ضعف.

يمكن لهذه المحطّة أن تشكّل فرصة لقراءة في الواقع السنّي مجدداً، والكسب من تجارب تاريخية يمكن أن تفيد في تكوين رؤية للمستقبل. كما يمكن لذلك أن يفسح في المجال أمام إعادة البحث في وقائع وتحولات سياسية ومدينية لدى السنّة، ولا سيما في بيروت وطرابلس، بعد صيدا التي تم تناولها في مقالة سابقة. ولكن قبل الدخول في واقع هذه المدن لا بد من المرور على لمحة سياسية تاريخية في التحولات التي شهدتها البيئة السنية.


السنّية التقليدية

فعندما طرح مشروع الكيان اللبناني، كان رياض الصلح أساسياً فيه، وقد بذل مجهوداً كبيراً جداً لإقناع السنّة القبول بلبنان كوطن ودولة، والقبول بهذه الشراكة مع المسيحيين والمارونية السياسية بالتحديد. بناء على هذا الإنجاز الذي حققه الصلح، قامت قواعد السنية السياسية التقليدية. بعد العدوان الثلاثي، خافت السنية التقليدية من خسارة شرعيتها وشعبيتها، إذا لم تنخرط بالتيار العروبي الناصري. وكان عليها الموازنة بين الاستجابة للإنجراف العاطفي والشعبي للمد الناصري، وبين تحالفها وتفاهمها التقليدي مع السعودية، التي كانت على خصومة مع الناصرية. لكن الأهم، أن السنية السياسية التقليدية، بشخص صائب سلام مثلاً، انتهزت الفرصة لتحصيل مكاسب سياسية وإضافية ونيلها من المارونية السياسية في النظام اللبناني.

وفي هذا السياق، دخلت ثورة العام 1958، فيما كان الفارق بين السنية التقليدية وكمال جنبلاط، أنه ذهب بالمشروع القومي العربي إلى آخره، بينما السنية السياسية كانت تبحث عن تحصين وجودها ودورها وتحصيل المكاسب في مقابل الخوف الماروني من الذوبان في المحيط العربي والمد الناصري. ضمن هذا المناخ المؤيد، نشأت على هوامشه بيئة حاضنة فيما بعد للسلاح الفلسطيني. علماً ان السنّة بالفعل والعمق لم يقاتلوا، إنما بحثوا عن التوازن مع الموارنة. أما تهديد النظام السياسي أو الخروج عليه، إما استقواءً بالسلاح الفلسطيني أو غيره، فوجدت جمهورها الفعلي لدى الطائفة الشيعية، فهذه الأخيرة كانت البيئة الفعلية للحزب الشيوعي، وحزب البعث، وسائر الأحزاب والمنظمات.. وصولاً إلى بيئة المقاومة.


الطائف والطعنة الكبيرة

أنجز السنّة نقطتين أساسيتين، الأولى تحويل جبل لبنان إلى جمهورية لها مدن الساحل، أخرجوا فكرة لبنان من الجبل المنعزل إلى البحر بسعته، وامتداده العربي والغربي، ووضعوا الركائز "المُدُنية" لهذه الجمهورية، وتحديداً بيروت، طرابلس، وصيدا. وكانت هذه هي الركيزة الأصلية الأولى لفكرة لبنان الكبير. أما النقطة الثانية، فهي إنقاذ لبنان الكبير من التبدد، عبر تجديد فكرة لبنان والميثاق مع اتفاق الطائف، وتثبيته وطناً نهائياً، بضمير المسلمين والمسيحيين. فأكد السنّة على تجديد فكرة الـ10452 كلم مربع. وهنا كانت فداحة الطعنة التي تلقاها السنّة من بعض التيارات المسيحية، التي لجأت إلى التحالف مع الشيعية السياسية في مواجهة السنّة تحديداً.

يقيم السنّة في حالة استهداف دائم. يرتبط بالتغيير الاستراتيجي الذي حصل بعد اتفاق الطائف. كان الاتفاق بين أطراف الحرب الأهلية. وبالتالي، فإن ما شهده لبنان بين العامين 1975 و1990، كان صراعاً مزدوجاً، بين كتل شعبية وحركات يسارية وتقدمية وإصلاحية سياسية، تقاتل ضد هذا النظام الذي كان قائماً على المارونية السياسية بتحالف جزئي ونوعي مع السنّية السياسية التقليدية. فكانت المارونية السياسية هي الطرف المهيمن، فيما السنية السياسية كانت في حالة تحالفية معه ومستفيدة منه. بينما كانت الشيعية السياسية بمرتبة أدنى سياسياً.


الحريري والاقتصاد وسوريا

وعملياً، عدل الطائف بين أطراف النظام، فزاد حصة المسلمين في النظام، وحصة السنّة بالسلطة، كذلك تعزز دور الشيعية السياسية في مجلس النواب وبالشراكة في السلطة التنفيذية، كما أنه أقر مطالب إصلاحية لكنها لم تطبق بفعل الوصاية السورية التي أمسكت بالسلطة الفعلية. وكان تعزيز السنية السياسية مرتبطاً بالمشروع الإقليمي، الذي تبلور في تلك الفترة وتحديداً في عهد الملك فهد بن عبد العزيز، مع تعديل الاستتباع المالي والاقتصادي لصالح العلاقة مع الغرب من خلال القنوات المارونية. فيما جاءت الحريرية السياسية مع التغيرات الحاصلة على مستوى الإقليم، ولم تكن مرتبطة بتغيير في الموازين الطائفية، فكان الربط الاقتصادي اللبناني بالاقتصاد العربي من خلال رفيق الحريري، كقائد للتحول إن بالعلاقة بالاقتصاد العربي أو بالعولمة.

كانت نتيجة الحرب والطائف والربط مع الاقتصاد العربي يفترض أن تعزز الدور السنّي، لكن الضربة الأولى التي وجهت لمثل هذا المشروع، كانت بعد اجتياح العراق للكويت، والحاجة الأميركية لتحالف عربي ضد العراقيين، فدخل النظام السوري في ذلك الائتلاف، بما سمح لدمشق أن تنفرد في تفسير اتفاق الطائف وتطبيقه. وعليه، لم يعد الطائف طائفاً واحداً، بل أصبح هناك اتفاقان. الأول هو الدستور الوضعي، والثاني التطبيق المحوّر للطائف. إذ ما نفذ بعدها كان عملياً مطابقاً لـ"الاتفاق الثلاثي" (1985)، الذي كان يسعى النظام السوري لتكريسه بين ايلي حبيقة، نبيه بري، ووليد جنبلاط. هكذا، بدأ التحول من المارونية السياسية، لكن بدلاً من الذهاب إلى السنية السياسية التي لم تكن بحالة عداء طائفي للمارونية السياسية، بل كانت متحالفة معها، (مشروع رفيق الحريري كان يرتكز على إحياء الفكرة اللبنانية).. اتجهت التطورات لفرض الهيمنة السورية وبعدها هيمنة مشتركة مع إيران، وصولاً إلى الهيمنة الإيرانية التي تكرست بدفع الشيعية السياسية إلى السيطرة بشكل كامل على النظام ولبنان.


الهيمنة والإقصاء

طوال الفترة التي كان رفيق الحريري فيها، خاض صراعاً للحؤول دون تحقيق هذه الهيمنة، وقد نجح في تحقيق توازن بين السنة والمسيحيين مع الشيعة. وبوجوده، لم تتمكن الشيعية السياسية من فرض هيمنتها، والتي كانت مرتكزة على قوة السلاح لدى حزب الله، وعلى قوة حركة أمل في بنية النظام والسلطة. وكان لا بد لمثل هذه الهيمنة أن تكون ذات طبيعة إقصائية وإلحاقية، إما أن يقصى الطرف الرافض، أو أن يتم تطويعه ويصبح ملحقاً.

هكذا اقتضى مسار الهيمنة إزاحة رفيق الحريري جسدياً، لأن المطلوب كان الانتقال إلى مسار آخر على صعيد المنطقة ككل.

لذا، شكل مقتل رفيق الحريري نقطة مفصلية نحو تهميش الطائفة السنية بالمعنى السياسي، مقابل استتباع الدولة والسلطة.


فشل 14 آذار

جاء رد فعل 14 آذار الأكثري والاعتراضي جداً، من كل الطوائف والمناطق لرفض الهيمنة السورية وهيمنة حزب الله، ما أعطى زخماً للسنية السياسية مجدداً لقيادة مشروع سياسي عابر للطوائف، لكن الفشل المتعاقب لقيادات هذه الحركة، أعاد قواعد اللعبة إلى التحالفات القديمة، وفتح الطريق أمام الثنائي الشيعي للهيمنة. وعندما اقتضت الحاجة كان لا بد من ممارسة العنف، وصولاً إلى استخدامه في سبيل تعديل الأغلبية.


كل ذلك، أسهم في تراجع الدور والتأثير لدى الطائفة السنية، فيما لجأ بعضهم للاستسلام إلى فكرة المظلومية، ما حوّلهم إلى طائفة، بدلاً من بقائهم في موقع التماهي مع الدولة والمؤسسات أو في ريادة مشروع سياسي شامل على غرار ما نجح في تكريسه رفيق الحريري.

حالياً وما بعد الاستهداف، يقف السنّة على ضفة انتظار، ما يُسجل من اختراقات في صفوفهم او محاولات لاستقطاب البعض منهم، أو تحصيل مساعدات في مناطقهم طالما أنهم يفتقدون احتضاناً ورؤية.

تعليقات: