باي باي طبريا: أرشيف عائلي للنكبة

الاستنطاق هو التعبير الأدق لتوصيف ما تقوم به سويلم في فيلميتها-العائلية
الاستنطاق هو التعبير الأدق لتوصيف ما تقوم به سويلم في فيلميتها-العائلية


في فيلمها الوثائقي الأول، "جزائرهم" (2019)، سعت المخرجة الفلسطينية الجزائرية الفرنسية، لينا سويلم، إلى استنطاق ستة عقود من الهجرة الجزائرية وآثار الاستعمار، بالرجوع إلى قصة جديها لأبيها، ومسارات حبهما وحياتهما في المهجر الفرنسي ثمّ الانفصال. على النهج نفسه، أي الولوج إلى التاريخ الجمعي عبر النبش في السير العائلية، تعود سويلم في فيلمها الوثائقي الثاني،"باي باي طبريا"(2023) لتعيد سرد سيرة أربعة أجيال من نساء عائلتها الفلسطينية.

الاستنطاق هو التعبير الأدق لتوصيف ما تقوم به سويلم في فيلميتها-العائلية، بمعنى تبديد الصمت، أنواع عدة منه. في "جزائرنا" خلخلة تكتم عائلي يتداخل مع تاريخ معروف، هو تاريخ الاستعمار الفرنسي، أما فيلمها الأخير فيتحايل على خرس من نوع آخر، صمت تاريخي حول سردية فلسطين، والتي تعرفها جيداً من حكايات نساء العائلة. الصمت المطبق على التاريخ الفلسطيني، لا يعني أن الحقائق غير معلومة وفي متناول الجميع، بل إنه صمت يتمثل في نكران الاعتراف بتبعات ذلك التاريخ واستحقاقاته.

قبل ثلاثين عاماً، غادرت الأم، الممثلة الفلسطينية المعروفة هيام عباس، بلدتها الصغيرة في الداخل الفلسطيني "دير حنا" سعياً وراء طموحها لتصبح ممثلة في أوروبا. نراها تعود مرة أخرى بصحبتها ابنتها، وتقوم الأخيرة بحضها على مراجعة خياراتها والمسار الطويل الذي قطعته، وذلك في ضوء مواد أرشيفية حميمة، هي صور ومقاطع فيديو وخطابات وقصائد، وبتقديم ما يشبه الاعترافات الشخصية أمام الكاميرا، في أحيان أخرى إعادة تمثيل الماضي، حيث تقف الأم مع واحدة مع أخواتها السبع أو أحد زملائها المسرحيين في ذات الأمكنة التي شهدت أحداث الطفولة والشباب، هناك تقوم بتدوير عجلة الماضي. على سبيل المثال تعيد الحوار المتوتر الذي دار بينها وبين والدها، وهي تخبره عن عزمها على تتميم زواجها من أستاذ جامعي إنكليزي، وهي الزيجة التي ستتم بالفعل لكن سرعان ما تنتهي بالطلاق.

بالفرنسية تقرأ علينا سويلم قصص ثلاث نساء بالإضافة إلى قصة أمها، الجدة الكبرى التي تهجر بعد النكبة من طبرية إلى بلدة صغيرة في الداخل الفلسطيني، والجدة التي كانت لا تزال طالبة في مدرسة المعلمات في القدس حين وقعت النكبة، وأختها التي تنتهي إلى الجهة الأخرى من الحدود، في مخيم اليرموك السوري. ثمّة ما يوحد تلك القصص النسائية المبعثرة على خريطة الشتات والافتراق. النكبة هي جهة الإحالة الأولى، ما يشبه الخطيئة الأصلية في قصة الخلق، تلك النقطة التي تبدأ منها كل خيوط القصص وتتقاطع عليها وتنتهي فيها.

باستثناء عرض مصور أرشيفي وموجز للنكبة، ليس هناك الكثير من الحديث حولها، ومع هذا تظل ماثلة وراء كل القصص مع تعدّدها، وتتخلل الحبّ والزواج والمشاحنات العائلية والسفر والعودة. تلجأ سويلم إلى تقنية التكرار، فتعيد مشاهد التهجير القصيرة نفسها، عدّة مرات في كل قصة ترويها، لتحوّل صورة النكبة إلى صدى صوت سينمائي، يتكرّر بصرياً عبر الزمن. ما يربط أيضاً تلك القصص ببعضها بعض هو العناد، عناد موروث وعابر للأجيال، وله صور عدّة، ويتجلّى بأوضح ما يكون في الضحكات العالية التي تغوينا في مشهد بعد آخر ونضحك معها، ففيلم سويلم ليس فيلماً حزيناً أو معني بالحنين، بل عرض مفعم بالضحكات والدفء والسخرية الذاتية.

أجمل ما يتضمنه "باي باي طبريا" وأكثر ما يثريه كعمل وثائقي هو مقاطع الأرشيف العائلي، حيث تتخلّل مشاهده تسجيلات فيديو للأعراس والرقصات الجماعية والمسيرات الاحتفالية في البلدة الفلسطينية الصغيرة، وولائم وجلسات سمر في البيوت وعلى الشرفات وعلى ضفاف البحيرة، تلك التسجيلات التي تصنع أرشيفاً من نوع فريد لفلسطين، أرشيف لا يحتاج أن يخبرنا عن تفاصيل تاريخ لم نسمع به من قبل، بل يهب ذلك التاريخ المعروف في حيوات من لحم ودم، عيشت وتعاش، وتستطيع أن تتكلم باسمه وبالنيابة عن نفسها.

*عرض الفيلم في إطار مهرجان لندن السينمائي، بالصدفة في أول أيام "طوفان الأقصى"، ويمثل فلسطين في أوسكار 2024

تعليقات: