البقاعيّون يقارعون صقيع الشتاء وبرودة الدولة


يعيش أكثر اللبنانيّين مرارة السنوات “العجاف” ومصاعبها، يكابدون شظف العيش وقسوته، لا يلوح لهم أدنى أمل بفرج قريب، وحلول سنابل الخير ومواسم الحصاد، خصوصًا في المناطق الجبليّة والمرتفعات، حيث يحلّ وحش الشتاء بمخالب البرد وأنياب الجليد القارس.

للشتاء الرابع على التوالي، تستمرّ معاناة سكّان شماليّ البقاع مع فصل “العذاب”، فصل المطر، وسط غياب كامل للدولة وأجهزتها والانحلال الوشيك لما تبقّى من مؤسّساتها.

في هذا الخضمّ، تشكّل لوازم التدفئة وموادّها كابوسًا فعليًّا يؤرق البقاعيّين المقيمين على حافّة الفقر، إن لم نقل إنّ غالبيّتهم باتت في قعر هاويته؛ فمادّة المازوت مرتفعة السعر، والحطب يتماهى معها صعودًا وهبوطًا، وكهرباء لبنان غائبة خصوصًا بعد “دولرة” فاتورتها، فسارع كثيرون إلى إلغاء عدّاداتهم، والطاقة البديلة تختصر الإنارة المنزليّة ليس أكثر، إذ إنّها غير قادرة على تشغيل آلات التدفئة الكهربائيّة.


الغذاء والدفء ترف المحظوظين

في مدينة الهرمل حيث تلامس درجات الحرارة الصفر في معظم الشتاء، يخبرنا الناشط الاجتماعي، الشاعر الدكتور كميل حمادة أنّ “الضائقة الاقتصاديّة باتت خانقة، مضافة إلى الأزمة الماليّة التي تعصف بلبنان منذ ما يزيد على أربع سنوات، مع ما تعانيه منطقتنا من حرمان وإجحاف يوم كان الوضع الاقتصادي أفضل، فكيف اليوم والأزمة تشتدّ حبالها على أعناق الناس بشكل هائل وقاتل”.

يتابع حمادة في حديث إلى “مناطق نت”: “مع تدنّي القدرة الشرائيّة لرواتب الموظّفين من عسكريّين وأساتذة وغيرهم، وفي ظل مناخ قارس بدأت تباشيره تطلّ وتحلّ، ومع تفاقم الإشكاليّات المختلفة، أضحى المواطن “الهرمليّ” والبقاعيّ يعيش حال قلق وتوجّس على مصيره خلال الشتاء الحاليّ، لا سيّما مع بلوغ سعر وقود التدفئة ما يقارب مائتي دولار أمريكيّ للبرميل الواحد، ما يعني أنّ تكلفة التدفئة الشهريّة للعائلة الصغيرة تقارب أربعمائة دولار، أيّ ما يعادل ضعفَيّ راتب الجنديّ أو الموظّف، وهما غالبيّة أبناء هذه المنطقة”.

ويضيف: “أمّا الحطب فكلفته لا تقلّ عن المازوت بل توازيه تقريبًا، ناهيك عن تداعياته على البيئة والثروة الحرجيّة حيث يقوم أبناء المنطقة بقطع الأشجار المثمرة أو الحرجيّة بهدف تأمين الدفء لعائلاتهم في مواجهة البرد القارس”.

يختم حمادة: “إنّ معاناة أبناء هذه المنطقة تتزايد بشكل محزن مع حلول كلّ شتاء، كأنّ البرد والغلاء والضائقة الاقتصاديّة والأزمة الماليّة تتحالف كلّها وتتكالب ضدّ المواطن الفقير، مؤسف جدًّا أن يوضع الفقير بين خياريّ الغذاء والطعام أو الدفء، لأنّ جمع الأمرين معًا بات ترفًا لا يقدر عليه إلّا كلّ ذي حظٍّ عظيم”.


كميل حمادة: أضحى المواطن البقاعيّ يعيش حال قلق وتوجّس على مصيره خلال الشتاء الحاليّ، لا سيّما مع بلوغ سعر وقود التدفئة ما يقارب مائتي دولار أمريكيّ للبرميل الواحد، ما يعني أنّ تكلفة التدفئة الشهريّة للعائلة الصغيرة تقارب أربعمائة دولار.

تقول الناشطة المدنيّة الاجتماعيّة في الهرمل راميا دندش لـ”مناطق نت”: “إنّنا جميعًا نعيش أزمة صعبة الوظائف، وأرباب الأسر يعانون من ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة وفاتورة الأقساط المدرسيّة والنقل. تزداد الأعباء مع ضرورة توفير الوقود للتدفئة في منطقة شتاؤها قارسٌ جدًّا، فبعض العائلات لجأت إلى قطع أشجار صغيرة تكاد لا تكفيها أسبوعًا واحدًا للتدفئة، بسبب غلاء الحطب والمازوت وضعف إمكانيّاتها الشرائيّة”.

تتابع دندش: “من خلال عملي ومتابعتي في منظّمات المجتمع المدنيّ، لدينا معلومات عن عوائل كثيرة لم تتمكّن حتّى الآن من توفير مؤونة الشتاء للتدفئة، ونحاول البحث عن حلول بالرغم من الصعوبات الجسيمة”.


كلّنا في الهمّ شرق

غريب كيف أنّ شعب لبنان يفترق ويختصم على كلّ شيء، حتّى على الهواء، فقط الأزمات توحّده، لأنّها تجتاح كلّ فئاته ومناطقه من دون تفرقة وتمييز، فمدينة الشمس بعلبك لا تختلف برودتها عن الهرمل، وكذلك صوفر وبشرّي وباقي المناطق الجبليّة الباردة.

تنشط المربيّة بهيّة صلح في الحقل الاجتماعيّ الإغاثيّ منذ عدّة عقود، تقول في حديث معها: “سأتكلّم بدون أقنعة وقفّازات، فواجبنا قول الحقيقة كما هي: الواقع مأسويّ، بل كارثيّ جدًّا هذا الشتاء. ومع تدنّي الحرارة وبدء الصقيع تتبدّى المشاهد المحزنة، من رؤية الناس يحاولون تأمين مازوت التدفئة بغالونات صغيرة تتّسع لبضعة ليترات”.

وتضيف لـ”مناطق نت”: “البعض الآخر يستجير بمدفأة الحطب فيملؤها بكلّ ما يحترق ويشتعل، منهم من يجمع لها البلاستيك من النفايات. سمعت أنّ بعضهم أشعل من أثاث منزله ليدفئ أولاده؛ وسمعت عن عائلات أخرى حتّى اليوم بلا مدفأة، فتلجأ إلى الإكثار من الأغطية (البطانيّات والحرامات) كيّ يتدثروا بها من البرد. وهناك نوع جديد من التكافل الدفئيّ يتمثّل باجتماع عدّة عائلات مداورة في سهرة واحدة أو بيت واحد، توفيرًا لمواد التدفئة”.

وتشير صلح إلى “أنّنا من خلال أنشطتنا لسنوات طويلة، نعلم عن كثيرين يلجأون إلى بعض الجمعيّات أو أصحاب الأيادي البيضاء ممّن يقدّمون ما تيسّر لمساعدة العائلات المتعفّفة، في تأمين المازوت وحطب التدفئة. من أسف شديد، هذا هو البقاع المحروم دائمًا، المتروك لقدره بناسه وقاطنيه”.


من المخيّمات إلى الجرود

تشكّل بلدة عرسال النقطة الأكثر برودة في السلسلة الشرقيّة، بسبب ارتفاعها عن سطح البحر المتراوح بين 1400 و2400 متر. يقطنها نحو 120 ألف شخص بين لبنانيّين ولاجئين سوريّين في المخيّمات.

في حديث مع الناشط في “فريق السلام الشبابيّ” أحمد الحجيري يقول لـ”مناطق نت”: “طقسنا هو الأكثر برودة في البقاع الشماليّ بسبب الارتفاع. تبقى الثلوج في جرودنا حتّى حزيران وتتكوّن معها طبقات جليديّة مؤذية. أمّا موضوع التدفئة، للأسف، بات مشكلة سنويّة تتكرّر مع كلّ شتاء. أسعار الموادّ كلّها مرتفعة وأشجارنا لا تؤمّن إلّا نسبة قليلة جدًّا، إذ إنّ المزارع هنا يعتمد التشحيل والتقضيب وليس القطع أو القلع؛ طبعًا سُجّلت اعتداءات آثمة في خلال السنوات الماضية على عدّة بساتين، نتمنّى ألّا تتكرّر هذا العام”.

ويضيف الخجيري: “كانت الجمعيّات المهتمّة بشأن اللجوء، تساعد في تخفيف المشكلة، لكنّها في السنة الفائتة تراجع تمويلها كثيرًا، بسبب الحرب الروسيّة- الأوكرانيّة، ما انعكس سلبًا على مساعداتها. هذه السنة ثمّة بوادر أزمة كبيرة تلوح في الأفق، سواء على مخيّمات السوريّين أو في بيوتنا نحن”. ويختم مبتسمًا: “شو الحلول؟ ما في حلول جذريّة الله هو المستعان”.


ترادف الخوف والأمل

على أبواب فصل الشتاء، أو فصل الخير كما يسمّيه المزارعون، يقف المواطن البقاعيّ حائرًا، بين أمنيات بشتاء يروي المواسم والمحاصيل، أو أيام مشمسة تخفّف عنه وطأة البرد ولسعاته.

حاليًّا، يبلغ سعر برميل المازوت نحو 170 دولارًا أمريكيًّا؛ ويتراوح طنّ الحطب ما بين 180 دولارًا من دفّ وكينا وصفصاف وكازبرينا وحور، و220 دولارًا لطنّ السنديان والمشمش والزيتون، و120 دولارًا لجفت الزيتون. أمّا حاجة المنزل فتبلغ ستة براميل من مادة المازوت أو 5 أطنان من الحطب، واحسبها يا فقير!

“التسعير بالدولار أمر بسيط جدًّا وسهل، لكنّ جنيه دونه مشقّات وعقبات كثيرة، فبات كمقصلة تهدّد مصائر الفقراء والمعوزين” يردّد أحد المواطنين مؤثرًا عدم ذكر اسمه ويضيف: “والله العظيم عم حطّ دواليب بالصوبيا مع شويّة دفّ وكرتون وتياب عتيقة وبلاستيك، وكلّ شي بيشتعل عم حطّه فيها”. ثم يقول بنبرة حادّة: “اسألوا وزارة الشؤون الاجتماعيّة لمن تعطي بطاقاتها ومساعداتها؟ وهل يستفيد منها الفقراء أم الميسورون المحظيّون؟”.

شتاء البقاعيّين لم يعد فصل حكايات الجدّات والمسنّين والسهرات قرب مواقد الألفة والمحبّة وإبريق الشاي على الجمر، لقد أضحى فصل الغصّة والحزن، فصل الخوف على الأطفال من الموت بردًا وجوعًا بدل الفرح برؤيتهم يلعبون بالثلج ويتقاذفون كراته قرب “رجل الثلج”.

الدكتور كميل حمادة
الدكتور كميل حمادة


المربيّة بهيّة الصلح
المربيّة بهيّة الصلح


الناشط أحمد حجيري
الناشط أحمد حجيري



تعليقات: