المُعتذِر

 جعجع والحريري... وحبّ الدولة
جعجع والحريري... وحبّ الدولة


بصلف وعنجهيّة وغرور، قدّم سمير جعجع اعتذاراً مبهماً، لا ندري لِمن. هو نفسه لم يحدّد. ومن الملاحظ أن اعتذاره ــ إذا كان يستحقّ هذه الكلمة ــ جاء على أبواب حملة انتخابيّة حامية الوطيس. الأموال السعوديّة والحريريّة والأميركيّة ستنهمر كمطر الشتاء عليكم عمّا قريب. ولكن الاعتذار يحتاج إلى تدقيق

أسعد أبو خليل*

الاعتذارات في ذاتها ليست معيبة ولا منبوذة، ويمكن أن تخدم في سياق آخر غير سياق التكاذب اللبناني. في جنوب أفريقيا، أقامت لجنة «الحقيقة والتوافق» أسساً قانونيّة مُحدّدة للاعتذار، إلا أنها كانت مصحوبة بقول الحقيقة. وهناك صراعات أهليّة وحروب داخليّة أدت إلى مصالحات، بعضها تناقضَ مع تقديم الاعتذارات المُبهمة والسهلة على طريقة ناسك معراب (وهو غير ناسك الشخروب طبعاً). ويمكن الذين (واللواتي) يشكّكون بتنسّك سمير جعجع أن يرجعوا إلى مقالة لفارس خشّان في نشرة «المستقبل السلفي» جاء فيها أن جعجع «لا يبدأ تناول الطعام، أكان في منزله أم في القصر الجمهوري أم في السرايا أم في قريطم أم في المطعم، إلا إذا أغمض عينيه وصلّى». أوّاه، ثم أوّاه، ثم أوّاه. لا ندري، ولكن يجب أن نستفسر. هل كان جعجع يغمض عينيه أيضاً قبل أن يمعنَ قتلاً في ضحاياه من المسلمين والمسيحيّين والفلسطينيّين؟ أخبِرنا يا فارس خشّان، فلديكَ أنتَ الخبر اليقين (بالمناسبة، هل ما زلتَ تعتقد أن خطبَ بشّار الأسد تفتح «كوّة» في جدار العدو كما كنتَ تقول؟). وإعادة تسويق جعجع باتت ضروريّة في حملة انتخابات ستتقرّر في الوسط المسيحي، وبحضور مالي كثيف ـــ أميركي وسعودي وحريري. ولا ننسى أن عقيدة بوش في نشر الديموقراطية تتضمّن نشر الأموال السخيّة لدعم أدوات أميركا.

شهدت نواح مختلفة من العالم صراعات أهليّة عميقة تناقضت مع فعل الاعتذار، حتى لو كان باهتاً مثل اعتذار جعجع. فكيف يمكن أن يسوّى، مثلاً، الصراع في فرنسا بين المقاومين والمتعاونين باعتذار حتى لو صاحبته الدموع؟ وكيف يمكن أن يُسوّى الصراع بين الجمهوريّين والملكيّين في الحرب الأهليّة الإسبانيّة باعتذار أو أكثر؟ هناك تسويات لا تصلح في سياق صراعات عميقة داخل المجتمع. وهناك صراعات أهليّة تحتاج للوصول بنفسها ومنطقها إلى خواتيمها، وذلك في محاولة بناء الوطن، لو استقام البناء للوطن. وهذا ما عناه كمال جنبلاط في إصراره (في وجه معارضة عنيدة من النظام في سوريا) على «الحسم العسكري». والحرب الأهليّة الإسبانيّة انتهت بحسم عسكري، كما أن المقاومة الفرنسيّة رفضت صيغة «لا غالب ولا مغلوب». وتدافع نوّاب الحريري السلفيون (الوسطيّون) إلى تهنئة جعجع لاعتذاره. مصطفى علّوش (الذي نجا بأعجوبة من لكمات وصفعات في تظاهرة سلفيّة وصفها هو بـ«السلميّة») قال إن الاعتذار كان عن إيذاء «من غير قصد». كما أن تدوس، مثلاً، قدمَ عابر في الطريق، أو أن ترمي تفاحة فتصيب واحداً من المارّة. أما أحمد فتفت فرأى أن اعتذار جعجع هو «درس في السياسة». أي إن جعجع يعطي دروساً في السياسة، فيما يعطي فتفت ـــ ما غيره ـــ دروساً في الدفاع عن الوطن... بالشاي المُحلّى بالحليب. لكن نوّاب الحريري (الذين يهتفون بأمر من قريطم ويزعقون بأمر منه أيضاً) نسوا أنهم تصالحوا مع جعجع قبل الاعتذار، ولم يطالبوه بالاعتذار شرطاً كما يفعلون مع حزب الله مثلاً. تسابق نوّاب الحريري لتعظيم مأثرة جعجع. جوقة قريطم كادت أن تطالبَ جعجع بمزيد من القتل والاغتيال والتشبيح والسرقة، وذلك من أجل التمتع بلذة الاستماع مرّة أخرى إلى اعتذاره المُعظّم.

لكن الكلمة الفصل جاءت من ميشال (أبو الياس) المرّ. والرجل، لمن لا يذكر، رفع لواء الانسجام الأخلاقي والسياسي في حياة سياسيّة مديدة. كان عرّاباً لحقبة بشير الجميّل الانتخابيّة الإسرائيليّة قبل أن يدخل في يوم الاتفاق الثلاثي (من يذكر فؤاد بطرس فيه؟) في إطار حلفاء النظام السوري وأدواته، مع أن الياس المرّ اختلق لنفسه تاريخاً عنيداً في مقارعة الاستخبارات السوريّة في لبنان التي كانت تصرّ على توزيرِه، من باب جَلْد الذات ليس إلا. وعندما كان المرّ ينتظر رستم غزالة على قارعة الطريق في البوريفاج كان مدافعاً عن السيادة، إياك أن تشكّك. وإذا حكم أبو الياس بأن الاعتذار مقبول، فهذه هي الكلمة الفصل. أما البطريرك الماروني، فكان منغمساً حتى الأذن، كما يقول مثل إنكليزي، في التهجّم على الشُّجاعة غادة عيد (نلاحظ أن الهيئات الإعلاميّة العالميّة التي لا تعلم شيئاً عن بلادِنا وعن إعلامِنا، والتي تغدق الهدايا والعطايا على إعلاميّين محظيّين (ومحظيّات) سياسيّاً، لم تكرّم غادة عيد التي قد تكون اليوم أهم إعلاميّة ــــ أو إعلامي ــــ في طول العالم العربي وعرضه. ليس هناك من استخدام أفضل للإعلام من برنامج «الفساد»). وعندما تهجّم البطريرك على غادة عيد لم يرفع منافقو إعلام 14 آذار أقلامَهم تضامناً. البطريرك، لولا عائق السنّ، لانضم رسميّاً إلى القوات اللبنانيّة على خلاف خلفه البطريرك خريش الذي كان عنواناً للسلم والمحبّة والتوافق.

أما اعتذار جعجع فهو حمّال أوجه، في الشكل وفي المضمون. في الشكل، فإن جعجع الذي لا يخفي حنينه إلى زمن العزّ الميليشياوي في إطلالاته الجماهيريّة، أطلق الاعتذار الباهت في لهجة حربيّة، أو كأنها مطلوبة من أجل التحضير للتحالفات الانتخابيّة مع تيّار «المستقبل السلفي». أطلق الاعتذار غير معتذر، وهنا المفارقة. والاعتذار العام ليس اعتذاراً ما لم يتوجه إلى الضحايا بالاسم. وهناك عادة دارجة في السياسة الأميركية بأن يتملّص الساسة من المسؤوليّة عبر القول إن «أخطاءً ارتُكبت» من دون تحديد هويّة مرتكبي الأخطاء أو مناصبهم. وفي سياق اعتذار جعجع، فإن الاعتذار لم يوضِّح من يعتذر مِمّن. أما في المضمون، فالمشكلة أكبر.

سمير جعجع متنسِّكاً

درج القول في حقبة ما بعد اغتيال الحريري ـــ والحقبة تميّزت بقدر هائل من النفاق السياسي ومن إعادة كتابة (وتزوير) التاريخ والسيَر الذاتيّة ـــ أن الكل أخطأ وأن الكل أجرمَ وأن الكل ملطّخ بالدماء. طبعاً القول لا يعكس الحقيقة. فيدا سليم الحص، مثلاً، ليستا ملطّختين بالدماء، كما أن هناك من يريد أن يساوي بين من برع في قتال إسرائيل (وكان روّاد تلك البراعة من الشيوعيّين، والتذكير ضروري لأن كلمة شيوعي لا ترد على شفاه قادة حزب الله، وأهملها حسن نصر الله في خطاب تطرّق فيه إلى مقاومة سبقت حزب الله، وبعض حركة أمل ينتقم من الشيوعيّين في كفررمّان هذه الأيام، ربما في استعادة لمرحلة سوداء سابقة) ومن برع في قتل مواطنين ومواطنات من الطرف الآخر. وهناك ضرورة لإخضاع كل الأحزاب والميليشيات لتقييم مزدوج: تقييم للسلوك وتقييم للبرامج. وفي حالة القوات اللبنانية هذا هو صلب الموضوع.

في الحديث عن (سوء) تصرّف الأحزاب والميليشيات اللبنانيّة والفلسطينيّة أثناء الحرب، هناك نوعان من السلوك الشائن والجرائم و«التجاوزات». والكلمة الأخيرة ألصقتها العنصريّة اللبنانيّة بالشعب الفلسطيني، وكأن اللبنانيّين منزّهون (ومنزّهات). هناك أحزاب وتنظيمات لبنانيّة وفلسطينيّة تجنّبت بالفعل التجاوزات والجرائم والإساءات في إطار انخراطها في الحرب الأهليّة. ليست صحيحة المقولة التي تفيد بأنّ الكلّ تجاوز وسرق وقتل وهتك أعراضاً. ليس هذا صحيحاً أبداً. بكل موضوعيّة، يمكن الجزم بأن الأحزاب الشيوعيّة في لبنان كانت على العموم نقيّة ومنضبطة في نمط انخراطها في الحرب. هناك أفراد في تلك الأحزاب ممّن ارتكب موبقات، لكن هذا حصل بالتناقض مع التوجّه العام للحزب. وكانت هناك محاسبات في تلك الأحزاب للمرتكبين. بصرف النظر عن الموقف العقائدي، يمكن الجزم بأن الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي ـــ لبنان وتنظيمات يساريّة صغيرة أخرى تجنّبت بصورة عامة الأفعال الشنيعة في الحرب. وقد أعدمت الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين عضواً في مكتبها السياسي بتُهم فساد.

وفي المقابل، كان هناك أحزاب وتنظيمات تخصّصت في الفساد والسرقة: مثل الصاعقة وجبهة التحرير العربيّة والاتحادات الاشتراكيّة العربيّة على أنواعها، بالإضافة إلى أمل والأحزاب الطائفيّة الأخرى. من لا يذكر زهير عجمي وحنّا بطحيش اللذين أدخلا الصاعقة في سجلّ «غينس» لرقم قياسي في السرقة المصرفيّة؟ وكان هناك أحزاب قامت بأعمال وطنيّة وقتال ضد العدو الإسرائيلي وحلفائه في لبنان، لكنها تهاونت كثيراً في المحاسبة، مثل فتح و«المرابطون». كيف يمكن أن نغفر ظاهرة «أبو الزعيم» الذي أساء إلى سمعة الثورة الفلسطينيّة في لبنان، والذي تلقّى حماية ودعماً من ياسر عرفات، الذي تغاضى عن الفساد إذا أثبت الفاسد ولاءً شخصيّاً له؟

أما في المقلب الآخر، فالأمر مختلف تماماً. هناك من سرق وتجاوز وأخطأ وأجرم عَرضَاً، وهناك من أجرم بحق الوطن وشعبه عن سابق تصوّر وتصميم ومتابعة. أما الكلام (من جعجع) عن ارتكاب تجاوزات غير محدّدة أثناء القيام بـ«الواجب الوطني» فهو كلام لا معنى له، وخصوصاً إذا استعدنا استذكار أعمال القوات اللبنانيّة (ونُراجع كتابي جوزف سعادة وريجينا صنيفر لنعلم الكثير). القوات اللبنانية تمتّعت بانضباطيّة فاشيّة ـــ نازيّة تحت قيادة بشير الجميّل، وكانت بناءً على ذلك تتحمل مسؤوليّة أكبر عن جرائمها. أي إن السرقة والتشبيح والخوّات والقتل على الهويّة والتعذيب والتهجير الطائفي والعرقي جرت بناءً على سياسة مقصودة، ووفقاً لخطة موضوعة وشاملة. وأكبر جرائم القوات اللبنانيّة كانت مقصودة، وجرت بناءً على أوامر من القيادة (كما نقرأ بالتفصيل في محاكمات جعجع)، وليس على يد «عناصر غير منضبطة» كما كانت الحال في فوضى بيروت الغربيّة. وهكذا، فإن مسؤوليّة القوات اللبنانيّة عن ذنوب الحرب الأهليّة تفوق أيّة مسؤوليّة لسائر الأطراف، منذ البداية.

فحزب الكتائب اللبنانيّة وحزب الوطنيّين الأحرار، بناءً على ما نعلم اليوم، أشعلا الحرب الأهليّة اللبنانية وفق مخطّط جهنّمي (وإسرائيلي وبدعم سعودي ـــ أميركي، وإن توقفت الأخيرتان لفترة عن دعم القوات اللبنانيّة وعادت قبل تنصيب بشير الجميّل وبعده). وليس صدفة أن النظام الأردني، الذي كان قد انتهى لتوّه عام 1970 من ارتكاب مجازر أيلول، عاجل إلى تسليح الحزبين اليمينيّين وتدريب عناصرهما في الأردن. قد تكون الاستخبارات الأردنيّة أفعل استخبارات أجنبيّة في لبنان منذ السبعينيات، وأقلّها لفتاً لنظر الإعلام والرأي العام. ويمكن العودة إلى صحف 1969 و1970 و1971 لنرى بأمّ العين كيف أن حزب الكتائب كان يعمد إلى استفزاز عناصر الثورة الفلسطينيّة في لبنان لجرّها إلى حرب أهليّة. كان هناك عناصر كتائبيّة (وبمشاركة شخصيّة من بشير الجميّل أحياناً) كامنة على مفرق الكحّالة لتطلق الرصاص على كل قافلة أو حافلة فلسطينيّة، ذاهبة أو آيبة. خلافاً للانطباع السائد في أوساط العامّة في مسخ الوطن التعيس، فإن الثورة الفلسطينيّة أظهرت صبر أيّوب في تعاملِها مع استفزازات الكتائب والأحرار والجيش اللبناني (المتحالف معهما آنذاك). وكانت معارك أيار 1973 تمريناً للحرب التي ستشنّها الكتائب بعد سنتين في لبنان. وكانت الحركة الوطنيّة اللبنانيّة غير مهيأة للحرب (لأنها في جناحها الإصلاحي الخاضع لرؤية جنبلاط وحاوي وإبراهيم كانت تعاني إيماناً ساذجاً بالمسار الديموقراطي للتطوّر، ممّا سهّل مهمة الكتائب التي نجحت في أخذ أعدائها على حين غرّة). لا، لم يعتذر جعجع عن تلك المسؤوليّة.

والمسؤوليّة الثانية لفريق القوات اللبنانيّة تقع في إقامة تحالف مع العدوّ الرسمي للبنان. نحن نعلم اليوم أن رواية جوزف أبو خليل الكوميديّة عن الرحلة في عرض البحر لإقامة علاقة مع إسرائيل (وكأنها مُبرّرة بظرف من الظروف) تتناقض مع الوثائق الإسرائيليّة المنشورة التي تحتوي على تفاصيل عن تحالف ودفعات نقديّة في الانتخابات منذ الخمسينيات ـــ الخمسينيات يا جوزف أبو خليل. الياس ربابي يستحق محاكمة غيابيّة لدوره المُشين. وسمير جعجع الذي كان يزور إسرائيل كغيره كثيرين في القوات، مثل إيلي حبيقة الذي يتحمل النظام السوري ورفيق الحريري وكل من تحالف معه من حلفاء سوريا مسؤوليّة جرميّة ما أدت إليه تغطيتُهم له من إهمال محاكمة جزّاري صبرا وشاتيلا، وهم اليوم يسرحون ويمرحون (يروي فؤاد بطرس في مذكراته الصادرة حديثاً رواية عن رفض أمين الجميل العنيد لأي محاكمة أو محاسبة دوليّة لجزّاري صبرا وشاتيلا). هل قدّم سمير جعجع كشف حساب أمام الشعب اللبناني عن طبيعة هذه العلاقة مع جيش العدوّ واستخباراته وتاريخها؟ وكيف يمكنه أن يتحفَ الشعب اللبناني بآرائِه التي يظن أنها سديدة عن الاستراتيجيّة الدفاعيّة للبنان من دون أن يرى المفارقة الكبرى؟ هل هذا نموذج لمسرح العبث؟ لا، لم يعتذر جعجع عن تلك المسؤوليّة.

أما المسؤوليّة الثالثة (الكبرى)، فكانت مسؤوليّة القوات الميليشياويّة التي قادها جعجع عن جرائم استحدثتها تلك القوات. مهرجان القتل الطائفي في السبت الأسود (الذي حظي بتغطية صحافيّة وأكاديميّة غربيّة) كان قراراً شخصياً اتخذه بشير الجميّل. وهذا المهرجان الفظيع من التوحّش كان العامل الذي أطلق ظاهرة بشير الجميّل القياديّة في وسط ميليشيات اليمين النازي اللبناني. حزب الكتائب والقوات هما اللذان استحدثا جرائم القتل على الهويّة، دون التغاضي عن أحزاب إسلامية قامت بتلك الأعمال، علماً بأن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة استفادت من برنامجها العلماني في ابتعادها عن الطائفيّة، إلا أن دكاكين ياسر عرفات ودكاكين النظام الليبي الطائفيّة تسرّبت إلى جسم الحركة الوطنيّة وأدّت إلى ارتكاب أعمال طائفيّة. كما أن انطلاق الأحزاب الدينيّة بعد الثورة الإيرانيّة أدى إلى تماثل الارتكابات الطائفيّة في الجهتين من بيروت، وتزامن ذلك مع اندثار الحركة الوطنيّة. لا، لم يعتذرْ جعجع عن تلك المسؤوليّة.

المسؤوليّة الرابعة للقوات اللبنانيّة لم تقلّ شرّاً وكارثيّة. فالقوات اللبنانيّة قرّرت، عن سابق تصوّر وتصميم، وبالاتفاق مع العدو الإسرائيلي، الاستيلاء على الوطن برمّتِه. حدث ذلك عام 1982 عندما كان جعجع وأمثاله يتلقّون أوامرهم من غرفة عمليّات يديرها إسرائيليّون. وهذا الاستيلاء على الوطن لإقامة كيان متحالف مع إسرائيل وعلى أسس نظام سياسي فاشستي وطائفي نجح في إقامته بشير الجميّل في كانتونِه الطائفي (نسيْنا أنه استلطفَ مسلماً واحداً، سليمان العلي، وكأن هذا ينفي طائفيّتَه) شرق بيروت. وسمير جعجع يجعلكَ اليوم تظن أن الدولة (والدولة في لبنان تعني اليوم آل الحريري، لا غير) هي حبيبته، مع أنه أمعن فيها تعذيباً وتمثيلاً وطعناً. لا، لم يعتذر جعجع عن تلك المسؤوليّة.

المسؤوليّة الخامسة تكمن في جرائم التهجير الطائفي والعرقي المنظّم التي ارتكبتها القوات اللبنانيّة بمشورة إسرائيليّة (وأحياناً سوريّة) لتغيير الخريطة الديموغرافيّة من ناحية، ولتسهيل محاولة طمس الثورة الفلسطينيّة من ناحية أخرى. لم تردْ كلمة فلسطيني في خطاب «اعتذار» جعجع، مع أن «سفير دحلان» في لبنان (أو سفير آل الحريري في المخيّمات) عباس زكي قدّم اعتذاراً شاملاً إلى اللبنانيّين بالنيابة عن شعب فلسطين، وأبدى أسفاً شديداً لأن ضحايا صبرا وشاتيلا لطّخوا عن غير قصد البزّات العسكريّة الإسرائيليّة لقاتِليهم. وهناك من يروّج ـــ على طريقة جعجع نفسه ـــ لمقولة أن الكلَّ مذنب، أي أن الكل مُسامَح. وهناك من يروّج لمقولة غسان تويني أن الكل في لبنان أبرياء، وأن المذنب الوحيد هو «السوري والفلسطيني» على ما يسميهم خطاب 14 آذار الذي يستوحي لغتَه ومصطلحاتِه اليوم من تلك السيّدة التي كانت تعدّ لأرييل شارون أطباقَه اللبنانيّة المفضّلة. لا، لم يعتذر جعجع عن هذه المسؤوليّة.

كل هذا يؤدي إلى إيراد مقولة مألوفة: لا، لا تتساوى أطراف الحروب الأهليّة في المسؤوليّة حتى لو تلطّخت كل الأيادي بالدم. لا يستوي الذي قاوموا الاحتلال النازي لفرنسا، أو الفرنسي للجزائر، مع الذين كانوا أعواناً للاحتلال والاستعمار. تلطّخت أيادٍ كثيرة بالدم في حروب لبنان، ولكن لم يتحالف الجميع مع إسرائيل. (لم يعلّق أحد في لبنان على نشر جريدة «المستقبل» السلفي خبراً مترجماً عن منظمة «كامبس وتش» الليكوديّة التي تروّج لأساتذة الجامعات الصهيونيّين في أميركا).

وللوطن المنكوب مشاغل أخرى، وقرائح إعلاميّي لبنان ودعائيّيه وسياسيّيه لا تتوقف عن التفتق عن نماذج من فكر العبقريّة اللبنانيّة. وائل أبو فاعور، مثلاً، توصّل إلى نظريّة جديدة تقول إنه من المُهين أن يجتمع ساسة لبنان ببشّار الأسد. وقد استثنى معلّم حزبِه الذي زرع طريق الشام ذهاباً وإياباً ولعقود في طلب الحكمة والمشورة. أبو فاعور قال إنه يمكن ساسة لبنان أن يلتقوا فقط الملك السعودي والملك الأميركي، وأضاف أنه من المسموح أيضاً إلقاء التحيّة على نواب إسرائيليّين في حافلة قطار. وهناك ابن الفقيه، إبراهيم شمس الدين، يجول ويصول في إعلام 14 آذار ولا من يسأله السؤال البديهي: أنتَ، من تُمثّل أنتَ؟

لكن الأنكى من ذلك كلّه أن اعتذار جعجع الكاذب جاء بعد أيام من ذكرى صبرا وشاتيلا. تمرّ الذكرى بصمت، كل سنة ولا من يحاسب ولا من يحاكم ولا من يتذكّر، باستثناء قلّة من اللبنانيّين واللبنانيّات الذين أخلصوا في تبنّيهم لقضية ثورة فلسطين. على العكس، إنهم ينكأون الجراح لأن الإعلام يذكّرهم ببشير الجميل ويذكّرهم بمهرجان قَتَلة القوات اللبنانيّة. وعندما يقف جعجع يعتذرُ متهكّماً غيرَ معتذرٍ (اللا اعتذار، كان يجب أن يوصَف)، وعندما يتسابق نواب آل الحريري وتوابعه في الأحزاب الأخرى، بما فيها حركة اليسار الحريري لشكر جعجع، تتيقّن أن شهر الصيام لم يوقف التكاذب، وأن علامات صراعاتٍ أهليّة ترتسم على الأبواب، مع أن سعد الحريري «تطوّر» على ما يطمئنُنا وليد جنبلاط. اطمئنّوا.

ملاحظة ــ هذه المقالات تُنشر حصريّاً في «الأخبار». وكل المواقع التي تنشر مقالات الكاتب تفعل ذلك من دون إذن الكاتب أو علمه.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت:

تعليقات: