غزة تعيد الحرارة لجهاز الراديو

فلسطينية تستمع إلى الإذاعة في رفح (غيتي)
فلسطينية تستمع إلى الإذاعة في رفح (غيتي)


عاد جهاز الراديو إلى الخدمة في غزة بقوة، بعدما صار خارج التداول على مستوى العالم. وأصبح في الآونة الأخيرة المصدر الوحيد للأخبار في القطاع، نظرا لتعذر استخدام التلفزيون والهاتف المحمول، بسبب قطع اسرائيل للكهرباء والاتصالات. وتجاوز دوره الإخباري، إلى تقديم خدمات إضافية، حيث يساعد الناس على رسم خريطة طريق لتحركاتهم وأماكن اللجوء التي يقصدونها، من خلال تحديد مواقع القتال والمعارك والقصف. وتحولت محطات إذاعية إلى مصادر رئيسية للمعلومات، مثل راديو تلفزيون العربي، بي بي سي، والجزيرة، بالاضافة الى الاذاعات الناطقة بالعبرية، التي تنقل الأخبار من اسرائيل.

لم يهزم التلفزيون الراديو بصورة كلية، رغم أن مكانته تراجعت نحو دراماتيكي في العقد الأخير، حتى أن هيئة البث البريطانية العريقة "بي بي سي" قررت قبل عام اغلاق المحطة العربية، التي بدأت البث بالعربية العام 1938، وشكلت المصدر الوحيد الموثوق للأخبار لاجيال عربية عديدة، ومدرسة للخبر الصحافي، لم تتمكن وسيلة إعلام اخرى من منافستها. وبررت المؤسسة قرارها بأن 5 في المئة فقط من إجمالي الجمهور يستخدمون الإذاعة فقط، وحسب الأرقام الرسمية "ما يقرب من 40 مليون شخص في الأسبوع، يلجأون إلى بي بي سي عربي لمعرفة الأخبار".

تقدم أرقام متابعي راديو بي بي سي العربي قبل توقف البث العربي دليلا قاطعاً على أن المسألة لا تتعلق بعزوف الجمهور عن الراديو، كما هو شائع. ذلك أن 40 مليون مستمع عربي لأخبار المحطة اسبوعيا ليس بالقليل، ما يعني أن المستمعين لم يتحولوا كليا إلى الوسائل الأخرى للبحث عن الاخبار، وبالتالي فإن سبب توقف البث العربي يعود الى قرار المؤسسة التحول إلى الخدمات الرقمية، وهو يتعلق فقط بالكلفة الأقل من الناحية المادية، وتلبية فئة جديدة من المستمعين، تبحث عن محتوى يختلف عن الأخبار بصيغتها التقليدية.

كأن التاريخ الفلسطيني يعيد نفسه اليوم في غزة. وينفض عن الراديو الغبار، ويعيد الحرارة إليه، بعدما وضعته أغلبية الناس على الرف. وفي زمن بعيد نسبياً، وخلال أعوام لجوء وشتات وبدايات مقاومة الشعب الفلسطيني، شكل الراديو وسيلة اتصال وتواصل ونقل رسائل عادية، وشيفرات عسكرية وخطابات سياسية. وأكثر الفترات التي لعب فيها الراديو دوراً اساسيا، كانت حرب 1967 التي هجرت اعداداً كبيرة من سكان الضفة الغربية نحو الاردن وبلدان عربية أخرى، ونظراً لعدم وجود وسائل اتصال ميسرة مادياً وتقنياً في تلك الأيام، تحول الراديو إلى الوسيلة الأكثر شعبية لتوصيل رسائل المهجرين إلى ذويهم.

وخصصت اذاعات في الاردن وسوريا والعراق ومصر برامج خاصة، وساعات بث لنقل رسائل الفلسطينيين الى بعضهم البعض. وكانت اعداد كبيرة من الفلسطينيين تجلس خلال ساعة البث لتنصت إلى الرسائل، التي تأتي من بعيد حاملة أخبار المفقودين الذي صاروا خلف الحدود. ويتردّد عبر الأثير، انا فلان الفلاني من القرية الفلانية قضاء القدس في الضفة الغربية، أهدي سلامي إلى أمي خديجة ووالدي محمد في الاردن وأختي فاطمة في السعودية وأخي سعيد في سوريا، واقول له انتبه لدراستك لأنها رأسمالك اليوم. واخبر أهلي أن عمي صالح بخير وصل هو وعائلته إلى مدينة درعا واستقروا هناك، أما خالتي بدرية وزوجها ابو قدري وابنهم قدري وصلو العراق، وأبو قدري التحق بتعليم اللغة الانكليزية في مدارس الحبانية.

تصل الرسالة إلى كل افراد العائلة، ومن لم يسمعها مباشرة يجد من ينقلها إليه. يخبره أنه سمع عبر اذاعة صوت فلسطين رسالة من قريبهم فلان، وهو يهدي سلامه للجميع. ولا يتأخر الرد حتى يرسل الأب أو أحد الاشقاء رسالة جوابية، تنقل تفاصيل لجوء العائلة إلى هذا البلد أو ذاك، مع شروحات وافية عن الصحة والعمل والهواجس بشأن البيت والأرض وحتى الحيوانات التي تركوها خلفهم.

استمر هذا الوضع لسنوات، وصارت منظمة التحرير الفلسطينية تولي اهتماماً كبيراً للاذاعة، ولذلك حصلت على ساعات بث خاصة بفلسطين من بعض الاذاعات العربية، مثل صوت العرب واذاعة دمشق وبغداد وعمان، كما تمكنت من الحصول على موجات بث خاصة، وأقامت إذاعات في بعض الدول العربية، وكانت البداية من اذاعة درعا في جنوب سوريا، والتي تحوّلت إلى وسيلة تعبئة سياسية لمواجهة آثار النكسة، ومنها تخرج جيل من الاعلاميين الفلسطينيين، الذين تولوا لاحقا تأسيس الاعلام الفلسطيني الموحد في بيروت بعد خروج الثورة الفلسطينية من الاردن العام 1970، ومنها خرجت اذاعة فلسطين في لبنان التي أشرف عليها الاعلامي الفلسطيني نبيل عمر حتى خروج منظمة التحرير من لبنان بسبب الاجتياح الاسرائيلي العام 1982.

لعبت هذه الاذاعة دوراً مركزياً في ربط أوصال الشتات الفلسطيني، وإيصال الخطاب السياسي الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى شتى بقاع العالم، واستفادت من تسهيلات قدمتها حكومات عربية لإنشاء اذاعات خاصة بفلسطين من دمشق، الجزائر، وبغداد. واستمرّت في لعب هذا الدور بعد خروج منظمة التحرير من لبنان وخلال الانتفاضة الأولى 1987، وحتى هيمنة المحطات الفضائية والمواقع الالكترونية.

تعليقات: